قضايا

صادق السامرائي: الكلمة طيبة وخبيثة وتلدُ سلوكا!!

الكلمة لها دورها في صناعة السلوك البشري، وهي القادح الأساسي الذي يتسبب بتأجيج الوقيد النفسي والسلوكي، ويستحضر العواطف والإنفعالات، لأنها ليست حروف متجاورة وحسب، وإنما رمز ثري لمحتوى ثقافي ومختزن شعوري، ومركز إنطلاق وتفاعل مع الذات والمحيط.

فالكلمة أقوى ما نمتلكه ، وهي القدرة المطلقة على بناء أو تهديم البشر، وما يجري في واقع الحياة ترسمه الكلمات المترجمة إلى أعمال وأفعال وسلوكيات، ذات تفاعلات سلبية أو إيجابية.

والمجتمعات التي تبخس حق الكلمة هي المجتمعات التي تنوء تحت سنابك الويلات والتداعيات، والمجتمعات التي تدرك أن الكلمة قيمة وفعل ولا يمكنها أن تكون غير ذلك هي التي تتقدم وتتفوق.

وفي مجتمعاتنا صار شعار "مجرد كلام" هو السائد الفاتك بمصير أجيالٍ تلو أجيال.

وهذه محاولة لأعادة مكانة وكرامة الكلمة في حياتنا العربية المعاصرة!!

 

أولا: الكلمة سلوك

"ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء"، "ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة أجتثت من فوق الارض ما لها من قرار" إبراهيم 24، 26

الكلمة ضوء ساطع عندما تكون طيبة نقية وأصيلة المنبع، وهي فكر ناطق، بها تتحقق الحياة وتتأكد الرؤى والتصورات السامية.

ونوع المفردات اللغوية في التخاطب في أي مجتمع تعكس الحالة التي هو عليها، فالمفردات اللغوية السائدة تعكس صورة الحياة وترسم ملامح السلوك والتفاعل الإجتماعي.

وقد دأبت وسائل الإعلام والصحف والأقلام على إستعمال المفردات المناسبة للحالة التي يُراد التصدي لها، فمثلا مفردات الإعداد للحرب غير مفردات الإعداد للسلام، ومفردات المحبة والأخوة غير مفردات الكراهية والشقاق والعداء، وقس على ذلك الكثير من الأمثلة.

ويمكننا أن نستشرف الأحداث القادمة من خلال المفردات اللغوية المستعملة في طريق الإعداد لها، وعلى مدى السنوات القاسية التي عاشتها بعض مجتمعاتنا، تم إستخدام مفردات السوء والبغضاء والكراهية والعداء وتوظيفها لإستثارة المشاعر السلبية والعواطف المؤذية، حتى أصبح عندنا الكثير من الأقلام المبرمجة أوتوماتيكيا لإستعمال المفردات الخبيثة، وكذلك العديد من المسؤولين الذين ترسخ في قاموسهم الذاتي نوع من المفردات السيئة، التي تحدد معالم تفكيرهم وترسم سلوكهم ومواقفهم وإستجاباتهم.

ولا زالت هذه الحالة ماضية وفاعلة ومؤثرة في رسم حركة الأيام، وتقرير مصير المجتمع وتحديد أساليب التفاعل ما بين الناس.

وفي كل فترة معينة ومؤهلة لدراما سياسية ومأساوية هناك عدد من المفردات الخاصة المدروسة بعناية، والتي يتم نشرها وإستعمالها في التصريحات والكتابات المُسخرة لتأكيد الغايات، حتى يتم إستخدامها من قبل الآخرين الذين يريدون التصدي للباطل وإظهار الحق، مما يؤدي إلى إختلاط الأمور وتشويه التفكير وتقدير المواقف وفهم مجريات الأمور.

والقارئ المتابع لعطاء الأقلام وما تنطق به أفواه الكراسي، يرى أن لكل مرحلة مفردات لتأكيدها وجني ثمارها والإعداد لنتائجها.

ولكن المفردات التي بقيت سائدة لحد الآن هي المفردات السلبية الخبيثة، الداعية إلى اليأس والتبعية والخنوع والكراهية والطائفية، وغيرها من المفردات المشتقة من عقيدة المَهلكة وثقافتها الجهنمية، التي أوجدت لها جنودا وطوابير أقلام وصحف ومواقع إليكترونية .

وهي ذات إسناد مادي كبير وزخم إعلامي قوي ومدفوع يساهم في زرع ما هو سلبي وسيئ في أعماق الناس، لكي يكونوا مستعدين ومُسخرين لتنفيذ الطموحات وتأكيد المصالح المناهضة لوجودهم ومصالحهم وهم لا يشعرون، لأن هذه المفردات المزروعة فيهم قد حولتهم إلى دمى وروبوتات تتحرك وفقا لإرادة غيرها.

ويبدو أن معظم الذين يدّعون بأنهم ساسة أو أصحاب أحزاب قد سقطوا ضحايا بإختيارهم أو جبرا، وإستلهموا المفردات المؤذية والضارة بالحياة، مما أعطى ملامح وجوههم قسمات مؤثرة سلبيا في الناظر إليها، فلا ترى وجها تنبعث منه إرادة الحياة وأنوار المحبة، وقسمات الطموح والقوة والحرية والإيمان بالوطن والشعب.

وإنما جميع الوجوه التي رأيناها ولازالت تظهر في وسائل الإعلام، تبدو عليها معاني السوء والبغضاء والكراهية والخوف وعدم الإطمئنان، ويقدح الشر والإنتقام من عيونها.

وعندما تتكلم تراها جامدة، حتى لتحسب أنك تستمع إلى تمثال أو دمية.

تلك حقيقة نشاهدها جميعا وننظر إليها بحيرة وعجب، والواقع المزعج يشير إلى أن تعبئة البشر بمفردات السوء والبغضاء تؤدي إلى سلوكيات وتفاعلات متناسبة معها، وبهذا فأن نوع المفردة الفاعلة في أعماق البشر ترسم معالم فعله ونوع سلوكه.

وما دامت عملية حقن الناس بالمفردات السلبية متواصلة ومعززة بأعظم القدرات الإعلامية والدعائية والعاطفية والإنفعالية، فإن فعل السوء سيتواصل.

فالكلمات الخبيثة السيئة قد أسست إرتباطات عُصبية دماغية في الرؤوس، وشكلت دوائر فعّالة تهيمن على الفهم والإدراك والتلقي والتفكير والإستجابة والسلوك.

أي أن الإنسان تحوّل إلى عبد مطيع لتلك المفردات المزروعة في دماغه، والتي تم تسميدها بكل أنواع الأسمدة العاطفية اللازمة لنموها العظيم.

ولهذا ترى إنعطافات حادة في الإستجابات التي تصدر عن الكثير من الأخوة الذين يحسبون أنفسهم من المثقفين، فما أن تقترب من دوائر المفردات السيئة الفاعلة فيهم، حتى تنطلق كلماتهم كالبارود فيأخذون بالكتابة السلبية بمداد إنفعالهم الحار وعواطفهم الحارقة، وهم لا يشعرون بأنهم قد أصبحوا مُسخرين لغايات تناهض وجودهم وتدفعهم نحو سوء المصير.

والمشكلة أن الغاطس في وحل السوء لا يمكنه أن يرى غير السوء، ولا يستطيع أن يتخيّل أن هناك رأيا غير رأيه، أو عالما غير عالمه الذي يؤهله للتعبير عن ذاته المزوّرة ومشاعره المتحرقة وسلوكه المشين.

فقد أكلته المفردات ورسمت معالم وجوده، وهذه سياسة التتار وعقيدة هولاكو ولازالت سارية في الأرض، وفاعلة في تقرير مصير الأوطان والشعوب وإعادة تصنيعهم وفقا لإرادة الأقوى.

فهل من كلمةٍ طيبة لكي يكون سلوكنا وتفاعلنا وكل ما يبدر منا طيبا ونافعا للناس؟

و"الكلمة الطيبة صدقة"

 

ثانيا: الكلمات السامة!!

الكلمة تؤثر في العقل والنفس والتفكير، وتحدد معالم الإدراك والتقدير ونوع الإستجابات، ووفقا لقاعدة الإناء ينضح بما فيه، فأن نوع الكلمات المسكوبة في أوعية البشر النفسية والعقلية، تحدد مايقوم به من أفعال ويبديه من تصورات وآراء، وما يتخذه من قرارات.

ولهذا فأن الكلمة الطيبة صدقة، والكلمة السيئة ضغينة وغدر وإحراق للذات والموضوع.

وفي إعلام الدول المتحضرة، هناك نباهة عالية، وحساسية فاعلة تجاه المفردات اللغوية المنطوقة والمكتوبة، وهناك بعض المفردات القاتلة، أو التي تعد نوعا من الجريمة التي يحاسب عليها القانون.

وكم من الأفراد قد خضعوا للإجراءات القانونية بسبب الكلمة أو المفردة التي تكلموا بها، لأنها ذات أضرار نفسية وفكرية وإجتماعية غير جيدة.

ومن السائد في المجتمعات المتأخرة، إستخدام الكلمات بلا تقدير وحساب لتأثيرها وتداعياتها وأضرارها التي تسببها،  حيث تتابع الكلمات السامة والقاتلة على جميع المستويات، فتجد أصحاب الكراسي يستخدمون مفردات فتاكة ذات آثار مدمرة للحياة، ويتواصلون في تكرارها، وتحريك ماكنتهم الإعلامية للتعبير عنها، وفي هذا يساهمون في إضعاف المجتمع والنيل من قيمه ووحدته، وتماسكه الوطني وتفتيت كل ما فيه.

والقاسم المشترك في مفردات الكراسي، أنها تحاول تأكيد سلطة الكرسي وإلغاء سلطة الشعب ودوره في تقرير مصيره.

ولكي تحقق هذه الأهداف، فأن ما تقوم به يترجم المنطوق الفتاك " فرّق تسد"، فتراها تلجأ إلى تعميق الهوة ما بين أبناء المجتمع الواحد، وتمعن في إطلاق المفردات والمُسميات الرامية إلى تأكيد الفرقة والتناحر، وإشاعة الإضطراب والتقاتل والصراع على لا شيئ،  سوى أن الأجواء قد تم تسميمها بالمفردات الفتاكة التي تفعل ما تفعله بالبشر،  حتى لترى الناس سكارى وما هم سكارى.

وفي بعض مناطق بلداننا يتم صيد السمك بإطعامه بما يسمى  "الزَهَر"، وهو مادة شديدة المَرارة،  ويُقال أن السمك " مزهور"، حيث تراه يترنح دائخا مضطربا فاقد القدرة على التقدير فيتم الإمساك به وصيده.

وما تقوم به الكلمات السامة يمكن مقارنته بذلك، لأنها تصيب الناس بالدوار والإضطراب والتشويه، وتمنع عنهم وضوح الرؤية وتجعلهم صيدا سهلا للكراسي، التي تتبجح بقوتها ومراءاتها وأكاذيبها للقبض على حياتهم.

ولكي تعي المجتمعات دورها  وتصنع حياتها، وتتقدم وتكون معاصرة، عليها أن تشذب خطاباتها وكتاباتها من المفردات السامة والكلمات الضارة، وأن يعي كل مسؤول وكاتب وصاحب قلم، أهمية المفردة ودورها في الحياة، وأن يطهّر عقله وروحه ونفسه من المفردات السيئة، وينمي المفردات الجيدة الغنية بمعاني الفضيلة والخير والمحبة والألفة، والتي تساهم في تحقيق الحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية.

وأن نسعى جميعا للإبتعاد عن المفردات العدوانية، الداعية إلى البغضاء والكراهية والنيل من الإنسان والقيم الإنسانية.

إن الكلمة نور وقد تكون نارا أيضا، وعلى الأقلام أن تكون واعية وقادرة على التمييز ما بين النور والنار،

وكلما إزدادت مفردات النور تقدم المجتمع، وعندما تزداد مفردات النار يحترق بها المجتمع.

 

ثالثا: الكلمات المستبدة!!

نتحدث عن الإستبداد والفردية والطغيان، ونمضي في الكلام، وكأن هذه السلوكيات في الآخر، ولا تمت بصلة إلينا.

ولا أظن المستبد يقبل بالتسمية، فلربما يرى نفسه عادلا ومنصفا ويريد الخير والتقدم وما إلى غير ذلك، لأنه يعيش في عزلة وينغمس في وَهْمٍ وإضطرابِ تفكير وتصور مؤثر على إستجاباته وتفاعلاته مع ما يُقدَم له من الحالات.

والإستبداد يؤسس لحالة إنقطاع ما بين الفرد وواقع الناس، لأن الحاشية تصنع له واقعا  يتفق ومصالحها ومكتسباتها الشخصية، وهذا من أهم أسباب هلاك المستبدين.

فهل عدنا إلى أنفسنا وفتشنا عن مواطن الإستبداد فينا؟

وهل سيبدو كل واحد منا مستبدا وطاغية؟

وربما نحن مجتمع من المستبدين والطغاة ولا فرق بيننا أبدا!!

ففي أكثر ما نقرأه هناك العديد من المفردات التي تحمل في معانيها روح الإستبداد.

أما أساليبنا في الكتابة فيغلب عليها الطابع الطغياني .

وهذا ليس إتهاما ولا تجريما وإنما وصفا لحقائق سلوكية نمارسها كل يوم، في البيت والشارع والمدرسة والعمل، ونعبّر عنها مع عوائلنا وأقاربنا وأصدقائنا وأبناء مجتمعنا.

فالإستبداد عاهة فاعلة فينا، ولهذا فأن لدينا قدرة عالية على تفريخ رموزه والفاعلين بإسمه.

ففي أكثر ما نكتبه هناك روح إستبدادية كامنة ومؤثرة في صب الكلمات على السطور، وحتى الصور التي تظهر مع ما نكتب، بعضها يعكس السطوة والإستبداد والتشامخ والملامح القاسية المتحدية للإنسان الآخر والمؤكدة للنرجسية وحب الذات.

أما كلماتنا فقد تم قطفها من دوحة الإستبداد والطغيان الغنية بأثمار الظلم والقهر والفتك بالحياة، والتي تتجمع على أوراقها قطرات دماء الأبرياء المحرومين، ولا تعرف الإرتواء بالماء بل بالدماء والدموع، وتتراقص أغصانها على أنغام الحسرات والتوجعات الآدمية. 

فكأننا عناوين ذات أحجام متباينة لكنها تشير إلى الإستبداد.

وما أسرعنا لإدانة الإستبداد الذي لا نراه في صدورنا ونفوسنا وعقولنا وسلوكنا.

إستبداد يقيم فينا ويستعبدنا ويسخّرنا لغاياته ويفرض إرادته علينا، لكننا ننكره ونتغاضى عنه  لأنه فينا، وبما أن القلم يسكب ما فينا، فأن كتاباتنا إستبدادية، وكلماتنا طغيانية، وفي عباراتنا تتوطن معايير ومعاني الإستبداد المشين.

فكلنا طغاة، ومَن لا يجد ذلك في نفسه فليرمي كل طاغية بحجر!!

فالتربية الإجتماعية ذات نوازع ودوافع طعيانية وهي التي تؤهلنا لتمكين الطغاة منا.

إنهم يولدون من رحم المجتمع ويترعرعون فيه، وجميع الطغاة من عوائل بسيطة وعادية، لكنهم إمتلكوا قدرات تحقيق إرادة الطغيان الكامنة في المجتمع.

وما أكثر الكتاب الطغاة، وما أكثر المفردات الإستبدادية، التي نتداولها في كلامنا وخطاباتنا وسطورنا وحتى في أشعارنا وأغانينا.

فنحن مخلوقات إستبدادية، ولا يمكننا أن نتخلص بسهولة من عاهة الإستبداد التي فينا، ولن نرتقي إلى تحقيق الممارسات الديمقراطية والسلوك الإجتماعي المعاصر الطافح بالقدرات المتفاعلة الخلاقة، ما دمنا ننتظر إشارة من طاغية لكي نفعل،  ولن يأمرنا الطغاة إلا بالتدمير والمقاساة والتوحل في أطيان المآسي والويلات.

فتحرروا من مفردات الطغيان والإستبداد لكي تصنعوا الحياة الحرة الكريمة.

وعندما ننتصر على الطغيان الذاتي الفاعل فينا، عندها سنتمكن من فتح أبواب الحرية الصالحة للحياة الكريمة.

فهل سننتصر على معاقل الطغيان القائم فينا، وننقي كتاباتنا من مفردات الإستبداد وأساليبه المقيتة؟

 

رابعا: فحوى الكلمة!!

"إن من البيان لسحرا" 

الكلمة عندما تكون طيبة، كالشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء.

 ولو تكاتفت أقلام الأكوان وشربت من مياه الوجود، ما تمكنت من إستيعاب كلمات رب العرش العظيم، الذي تنهل أقلام عزته من فيض المطلق.

 الكلمة، تولد من رحم أبجديات محدودة لتسبح في فضاء بلا حدود، وتخترق الأزمان وتتحدى الذوبان في جسد التراب، وتتجاوز عمر العقل الذي شيّدها، فهي كائن سرمدي الملامح خالد الأثر وبعيد المدى ويحقق ديمومة التفاعلات.

 الكلمة، التي تخرج من القلب تقع في القلب، لأنها صادقة نقية معبرة عن الحقيقة والمعاني الطاهرة النبيلة، وتتألف من حروف النور والصفاء المبين، فتكون منيرة ذات قدرات على زعزعة الأعماق، وإستخراج الإنسان من مكامن أعماقه، فيرى جواهر ذاته ويصادق روحه ويشذب نفسه ويسمو إلى علياء الرجاء.

 الكلمة، ألفة ومحبة ورحمة وينبوع خير وعطاء وإيثار، ومودة وصدقة جارية إلى يوم يبعثون، عندما تكون منزهة من وجع التراب، ومصفاة في مراجل التسامي العلوية، ومعبرة عن الروح الإنسانية الساعية إلى ينابيع أصلها، والحالمة بفيض كن.

الكلمة، مرآة العقل، وجوهرة مكنوناته، وتعبير عن ذاته وأصله، فهي لسان حاله وحقيقته الساعية فوق بساط التناجي الخلاق، ما بين أفلاك الرأي والإبداع.

وأنها العقل يسعى بملامحه وهيأته التي إختارها لشخصيته وقدرته على التزاوج المادي مع  نواة روحه ومبعث صيرورته في أقاصي السماء.

 الكلمة، تكشف المخبوء، وتشير إلى حجم المدفون في الأعماق البشرية، وتُحدِث فرجة في المستور من النوايا والخفايا .

وتكتنز وتصير ثقيلة وثمينة وغنية في حضن الصمت والتأمل والإمعان في تفاعلاتها، وإمتداداتها وتعشقها بروافدها اللامحدودة، ومصادرها المترامية في آفاق اللامحسوس والمتجسد في جذور البعيد والأبعد.

الكلمة، أداة ووسيلة لنقل الأفكار والتعبير عن الحاجات والمشاعر والأحاسيس والإنفعالات، فهي الحصان الذي تمتطيه هواجسنا، وتَغير به أفكارنا على أهدافها، وبها نكتب شعاراتنا ورسائلنا إلى الآتي، فنخاطب بها مَن لا نعرف ونتسامر بواسطتها مع الذين جاءوا بعد أن أكلنا التراب ومحق أثرنا وعشنا فيه كما عاش أجدادنا.

الكلمة، مستودع همومنا ومعاناتنا وشجوننا، ومصحف أفكارنا ومسلة إرادتنا، ومدونة حياتنا في تيه الأيام المتعاقبة، والأزمان الصاخبة التي تلدنا من رحم كل صباح.

بها نفصح عن أنفسنا ونعرف غيرنا ونؤسس لتواصلنا الإجتماعي ونحقق دواعي بقائنا، ونرسم معالم تقدمنا ومبادئ إنطلاقنا في خضم التفاعل الساخن فوق التراب الذي يملكنا بجذبه اللذيذ.

 الكلمة، وسيلة الأفكار للتآلف والتفاعل والإمتثال لإرادة الصيرورة والتأثير في الحياة، والتواصل ككرة الثلج في دروب الأجيال لتحقيق الإرادة الكامنة فيها، والمعاني التي تحملها وتريدها أن تورق وتتفتح أزهارها وتنضج أثمارها.

فالكلمة فكرة حبلى بالطاقات وقدرة ذات أنوار ساطعة تنير أدجى الطرقات.

 الكلمة، في تأريخنا كانت تقتلنا، وكم ربطنا حياتنا بلساننا، وفي مسيرتنا الطويلة الكثير من شهداء الكلمة كإبن المقفع وبشار بن برد وغيرهم من الذين قالوا كلمةً فتم إتخاذها ذريعة لقتلهم. وبسبب هذا الثمن المرعب للكلمة، أصبح مجتمعنا مصابا بداء البكم، لأن الخوف قد شل الألسن تماما، وفي بعض بلداننا المعاصرة كانت الألسن تقطع بسبب الكلمة.

 الكلمة، رصاصة تصيب أهدافا كثيرة وتبقى فعالة ومؤثرة ووثابة، لأنها ما أن تولد حتى تتسلق أوصال الخلود، وتنمو كبيرة مشرقة في سماء الأجيال وعابرة لحواجز الأزمان والمعوقات.

فهي التي تقتل الشر وتكتسح الظلام، الذي يتوطن في العقول والأعماق لكي يتستر على آفات الشرور والسوء الكبير.

 الكلمة، تبقى وسيلتنا النبيلة لتحقيق أهدافنا وأخذ حقوقنا، وتجسيد طموحاتنا، وهي عدتنا التي ندافع بها عن الحق، ومهندنا الذي نشهره بوجه الظالمين والمستبدين، وبها نتحقق ونكون، لأن الكلمة تبعث الطاقات الخلاقة في دنيانا، وتحشدنا في أفواج من القوة المؤثرة لتغيير وجه الحياة وقيادتها نحو الأفضل.

الكلمة، الخيرة تزرع خيرا، وتوقد مشاعل الفضيلة والنزاهة في عقول الناس، والشريرة تتفاعل مع نوازع الشرور، وتلقي بالناس في أتون الهلاك والضياع والتعبير الدامي عن عقيدة البغضاء والأحقاد وسوء المصير.

الكلمة، الصادقة وطن للمحبة والقوة والإعتصام بحبل المودة والوطنية والتآخي، والتفاعل الإنساني الحر المنير.

وهي تطهّر القلوب وتغسلها بقطر النقاء والصفاء والسلام، فيدرك أصحابها معاني إنسانيتهم ويتفهمون عناصر رسالتهم ودورهم الإيجابي في الحياة.

 فهل ستكتب أقلامنا بحبر الفضيلة كلمات نور؟!

 

خامسا: الكلمة المنافقة!!

البشر في معظم الأحيان لا تعنيه إلا مصلحته الشخصية وحسب، فقد يتغير في لمحة بصر من موقف لآخر من أجل الحصول على ما يرضيه من الحاجات.

وكلنا يعرف أن الأقلام هي التي ساهمت في صناعة ويلاتنا المتنوعة، وتداعياتنا المريرة.

 ولهذا السلوك تأثيره المأساوي على الأمم والشعوب، ومن الصعب أن تجد أقلاما كأقلامنا في مجتمعات وأمم الدنيا الأخرى، ولا تقرأ في تراثها وثقافتها المعاصرة مديحا وتزلفا ونفاقا مثلما نقرأه عندنا.

وهو سلوك متوارث عبر الأجيال، فلم يبتكر الشاعر الجاهلي المعروف كعب بن زهير شعر المديح، وإنما أخذه عن الذين قبله بمئات السنين وأكثر، ومضى على سنته جميع الشعراء في العصور التي أعقبته.

فمعظم تراثنا الثقافي مديح وتمجيد وتأليه للآخر، الذي يرضي حاجاتنا الشخصية الأنانية المرحلية الضيقة.

ودواوين الشعراء المعروفين محتشدة بقصائد المديح والهجاء، وهذان الإتجاهان قد أسهما في صناعة السلوك الذي أوصلنا إلى قاع الوجود الحضاري المعاصر.

وبسبب ذلك نحن مهرة وخبراء في صناعة الطغاة والمستبدين، ونستحلبهم حتى الجفاف ونحوّلهم إلى قتلة ومجرمين وخونة ومنكرين.

تلك مأساة سلوكية لا مثيل لها في الدنيا المعاصرة.

فلو راجعنا صحف زمنهم لوجدناها تحشد بالتمجيد والتأليه والتعظيم، وكأننا لا وجود لنا إلا بهم، فترى الأقلام بأنواعها تكتب بذات المفردات، وترقص على ذات الأنغام، لآخر لحظة في حياتهم.

وما أن تتبدل الأوضاع حتى تجد ذات الأقلام قد أخذت تكتب بمفردات الزمن الجديد، وتبرر خطاياها وآثامها أجمعين.

فالطغاة والمستبدون مولودون من رحم مجتمعاتهم، و "الإناء ينضح بما فيه"، وكل ما يتحقق في المجتمع هو من صنعه، في أي زمان ومكان.

فما جرى عندنا في القرن العشرين هو من صنعنا، وما يجري اليوم في ديارنا من صنعنا!!

فمشاكلنا وويلاتنا ليست "مصنوعة في الصين"، وإنما مصنوعة في أوطاننا، وبآلاتنا ومصانعنا وموادنا الأولية الخالصة، وكأننا لا نعرف إلا صناعتها!!

فلماذا لا نراجع أنفسنا بجرأة وشجاعة وتبصّر، بدلا من العزف على أوتار "السابق" و"البائد" وغيرها من مفردات التعمية والتجهيل والتضليل، التي تساهم في إعادة ذات الكرة وإستمرار الدوران في ذات الحلقة المفرغة التي دارت فيها الأجيال السابقة.

علينا أن نعترف بالخلل الحضاري المروّع الذي نتداوله ما بين جيل وجيل، ولا بد من صحوة جيل ونهضته من وعثاء الرؤى والمفاهيم التي تتحكم بالسلوك الجمعي.

فما يجري اليوم في واقعنا هو ذاته الذي تحقق على مر العقود السابقات، لأن آليات الفهم والإدراك بقيت على حالها، وتتواصل في الإسهام بصناعة الصورة المأساوية السائدة.

فهل سنستبشر خيرا من القرن الحادي والعشرين وما تغيّرت آليات إدراكنا الجمعية؟!!

وختاما، علينا أن نعيد للكلمة شرفها ودورها الحضاري اليقظوي الإقتداري الكفيل بإيقاد الأنوار الإبداعية والتفاعلية اللازمة لإنطلاق ما فينا من المختزنات التكوينية الجميلة الباهية، وأن نكون بالكلمة الدالة على إنجازاتنا وإبداعاتنا، لا أن تكون الكلمة الخاوية والعبارة الصاوية هي أقصى ما يمكن أن نحققه.

فالكلمة قوة وقدرة ومبعث صيرورة وإنبثاق فكري ومعرفي وثقافي خالد الأنوار!!

 

د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم