قضايا

محمد جواد سنبه: نبذ الخرافة من الواقع الشيعي.. ردّي على مقال د. سليم الحسني الموسوم بعنوان: قوة الخرافة في الواقع الشيعي (1)

mohamadjawad sonbaالتغيير السياسي الذي حصل في العراق عام 2003، كان بإِرادة خارجية، وهذه الإِرادة فرضت رؤيتها في تشكيل دولة العراق الجديد، على ضوء معايير تخدم مصالح المحتل. واهمال كامل ومتعمد لمصالح الشعب العراقي.  وقد برعت الادارة الامريكية في استخدام سياسة تضليل الموطن العراقي، اعلامياً وثقافياً وفكرياً، انها بحق تطبيق كامل لنظرية التسميم الفكري، التي تستخدمها الدول في الحرب النفسية. فتم احتكار قنوات الاعلام، وكان اولها (الصحف، لأن الفضائيات لم تكن موجودة في البداية).

تلك المرحلة كانت البداية، لتأسيس آفاق الظلام الفكري والثقافي، ومحاولة ازواء المثقف المنتج، وتبّريز  دور ونشاط (المتثاقفين المتهالكين).

توضيح:- (تثاقف الشَّخصُ: ادّعى الثَّقافة، فإنَّه يتعالى ويتثاقف على الجماهير. تهالك الشخص: (تَهَالَكَ عَلَى طَلَبِ القُوتِ : اِشْتَدَّ حِرْصُهُ عَلَيْهِ).  (الدكتور سليم الحسني، يطلق على هذه الفئة عنوان (المثقفين المعتاشين).

لقد اصبح (المتثاقفون المتهالكون) في العراق الجديد، لهم حضوراً ملحوظاً في الساحة الاعلامية العراقية. واعتقد ان هذه المرحلة، كانت الفترة النشطة، لبداية تدمير الثقافة العامة، للمجتمع العراقي، الذي كان يعاني أصلاً من حالة العَوَز الثقافي، جرّاء الظروف القاهرة التي فرضتها عليه سلطة البعث المقبور. كما ان هذه المرحلة كانت بمثابة، عملية اطلاق رصاصة الرحمة، لقتل المثقف العراقي الواعي.

أخذت أنشطة (المتثاقفين المتهالكين) تسجّل حضوراً في الساحة الاعلامية والثقافية العراقية، لنشر الزبد والقشور بين اوساط المجتمع العراقي، فظهرت اتجاهات وتيارات ومجموعات، لا يمكن لأحد توجيه النقد البسيط اليها، فضلا عن تقديم النقد الاصلاحي لها.

في هذه المرحلة المظلمة، التي قُتِلت فيها كل احلام المثقفين المصلحين، لبناء انسان يحترم نفسه وقيمه وفكره ووطنه. وكذلك يحترم فكر الآخر ووجهة نظره، حتى لو كانت معارضة او مخالفة لأفكاره. كما دمّر الأمل في التواصل مع الآخر، بمدّ جسور التواصل، عبر المشتركات العقائدية والفكرية والثقافية.

ان عملية عزل وازواء المثقف الوطني الواعي، الذي لاهمَّ له سوى الارتقاء، بالذوق والسوك الثقافي الانساني، على مستوى الفرد والمجتمع، لبناء مستقبل زاهر للشعب والوطن. هي عملية تخريبية  مدروسة بعناية، استهدفت تدمير العملية الثقافية عموماً. انتجتها عقليات لها خبرة وممارسة، في فن الدعاية والسياسات الاعلامية، التي نجحت بشكل منقطع النظير، في انتاج ما نعاني منه الان، من ترهات فكرية وخرافات عقائدية، تقود المجتمع الى هاوية الانحراف والضلال.

 

و ربما سائل يسأل، أَين إِذن دور المرجعية الدينية الشيعية، التي تعتبر الدرع الحصين، الذي يقي المجتمع من اي انحراف اجتماعي، له مساس بعقيدة الاسلام ومصلحة المسلمين؟.

اقول:

ان دور المرجعية في تحصين المجتمع وتنويره، يرتبط بصورة مباشرة، بالواقع الذي تتحكم به اجواء السياسة، ومجرياتها العامة. ولتوضيح الفكرة، لابد من الرجوع الى تاريخ العراق في القرن الماضي، لاستقراء المواقف، التي تبنتها المرجعية الدينية الشيعية آنذاك، حيث كانت تلك الفترة، تمتاز بميزة مهمة جداً، هي وحدة الصف الوطني العراقي، وعدم وجود تصدعات طائفية وقومية، كما هو الحال في العراق بعد عام 2003.

لذا فقد دعَمَت المرجعية الدينية في حقبة القرن الماضي، تأسيس ثلاثة مشاريع رائدة، لدعم وتنمية الناحيتين، العلمية والثقافية للمجتمع العراقي، هي :

1. تأسيس المدرسة الجعفرية الأهلية عام 1908، التي احتضنت 300 طالباً فور افتتاحها. واخذت تتطور هذه المدرسة مع الزمن، لتضم المراحل الدراسية الثلاث (الابتدائية والمتوسطة والاعدادية). وكان المرجع السيد محمد سعيد الحبوبي، من أَوائل المشجعين لتأسيس هذه المدرسة. وقد تخرج من هذه المدرسة نخبة من اعلام العراق منهم على سبيل المثال لا الحصر:

الدكتور محمد حسن سلمان، اخصائي الامراض الصدرية.

الدكتور مصطفى جواد. العلامة اللغوي والأديب والمؤرخ الموسوعي والأستاذ في جامعة بغداد.

الدكتور عبد الأمير علاوي، رائد من رواد طب الاسنان في العراق،                   استاذ في الكلية الطبية، وزير للصحة عام 1953م، أسهم في وضع خطط تأسيس مدينة الطب، ساعد في تشريع قانون التدرج الطبي.

2. تأسيس جمعية منتدى النشر في عام 1935 في النجف الاشرف. وكان رواد تأسيس هذا المشروع، مجموعة من فضلاء حوزة النجف العلمية، كان في مقدمتهم الشيخ محمد رضا المظفر، وآخرين من الفضلاء هم:

(السيد محمد تقي الحكيم، الشيخ عبد المهدي مطر، السيد هادي فياض، الشيخ أحمد الوائلي، الشيخ مسلم الجابري، السيد محمد جمال الهاشمي، الشيخ عبد الحسين الرشتي، الشيخ محمد تقي آل صادق، السيد أحمد المقمقاني، الدكتور محمود المظفر، السيد عبد الحسين الحجار).

و باختصار شديد، أُدرج للقارئ الكريم أَهم أَهداف جمعية منتدى النشر، كنموذج رائد في مجال نشر التوعية الجماهيرية:

أ‌. رعاية التأليف والنشر. فقد تم نشر الكثير من الكتب بمختلف المجالات، كما تم الاهتمام بطبع المخطوطات، ذات القيمة العلمية المعتبرة.

ب‌. طرح الخطاب الثقافي المعاصر في المناسبات الدينية.

ج‌. اهتمت الجمعية بالتعليم، فأَسست مجموعة من المدارس الاهلية، ذات مناهج دراسية معاصرة، وللمراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية.

3. في عام 1945 تأسست كلية منتدى النشر، وكان أبرز المشجعين لتأسيسها، المرجع السيد أبو الحسن الأصفهاني.

4. وفي عام 1951، تأسست كلية الفقه. وكان لمرجعية السيد محسن الحكيم، دور كبير في انجاح هذا المشروع.

في هذه الحلقة اشرت باختصار الى بعض الانشطة التنويرية، التي اسهمت في تطوير وانضاج الثقافة المجتمعية، بدعم من المرجعية الدينية الشيعية في النجف الأشرف.

في الحلقة  الثانية من هذا المقال، سأتناول ان شاء الله تعالى، الحلول المقترحة للقضاء على ظاهرة التخلف الثقافي في المجتمع العراقي.  والمعوقات التي تقف حائلاً، بوجه انضاج الانشطة التثقيفية، الأمر الذي يجعل المجتمع العراقي، اكثر تقبلاً  للاوهام والخرافات. والله تعالى من وراء القصد.

 

مُحَمَّد جَواد سُنبَه - كاتِبٌ وَ بَاحِثٌ عِرَاقي

 

في المثقف اليوم