قضايا

رحيم الساعدي: استشعار أو معايشة الحادثة التاريخية اقتحام لآلية الاندماج والتخيل لحوادث التاريخ

raheem alsaidiيمكنني القول ان هذا المقال هو جزء من الدعوة القديمة للتأسيس لمدرسة التاريخ العراقية فهو يتحدث عن آلية استشعار ومعايشة والإحساس بالحادثة التاريخية وهناك أكثر من سبب قادني الى فكرة ان بإمكاننا تصور ومعايشة الحادثة التاريخية فنبدأ من توليف أهم الأسس الخاصة بتلك الحادثة ثم نندمج بها عندما نقحم أنفسنا وسط تلك الأسس أو الحادثة ونركب أو نحلل قدر ما يمكننا من التركيب والتحليل والاستنتاج .

ففي فيديو قديم جدا لمدينة ميسان وسوقها إبان الاحتلال البريطاني مطلع القرن الماضي دار بذهني العديد من الأسئلة وانا أشاهد الناس والباعة وطرق الملبس ونظام الحياة المختلف ،ما هي أنماط العلاقات بذلك الزمن ما طبيعة الوعي وتبادل الثقافة والية التعامل مع البيئة....الخ .

  ان نظرتي التي أحاول معايشتها يفترض ان القيها مباشرة الى ذلك الزمن وتلك اللحظة لاستحصال فهم وتصور مختلف ،ولكنها هنا تستند الى رؤية فديوية لصور الحادثة التاريخية ، اما في تصوري  لأصل الحادثة التاريخية التي لا صورة لها ولا تنتمي الى عالم الميديا الحديث المهول فيتوجب علي رسم الآلية التي توظف ما يشبه الصورة أو الميديا للأزمنة البعيدة . ولا تقتصر القضية على مشاهدة وفهم الظاهر من تلك الحادثة التاريخية أو المقطع الحياتي بل سوف تشكل الأسئلة وأجوبتها العامل الأهم لذلك الفهم كما ان لبس دور  الفهم أو الاندماج لمحاولة الفهم بتفاصيل تلك الصورة التي يتوجب على مخيلتنا تحريكها ستقدم لنا تصورا مختلفا لا يبنى على الخيال والمخيلة فقط بل على تجميع الجزئيات الحياتية والفكرية وتحليلها وتقديم كما هو مختلف وجديد وبناء .

كما إن السبب الأهم الذي  حثني على قضية والية الاستشعار أو المعايشة للحادثة التاريخية إنما هو النص الخلاب الذي يرد عن الإمام علي في  وصية لابنه الحسن (عليهما السلام) وفيه وصية ان يعرض على عقله (أَخْبَارَ اَلْمَاضِينَ وَ ذَكِّرْهُ بِمَا أَصَابَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنَ اَلْأَوَّلِينَ ) وأيضا أن يسير في (فِي دِيَارِهِمْ وَ آثَارِهِمْ) ولينظر ( فِيمَا فَعَلُوا وَ عَمَّا اِنْتَقَلُوا وَ أَيْنَ حَلُّوا وَ نَزَلُوا )لأنهم ( قَدِ اِنْتَقَلُوا عَنِ اَلْأَحِبَّةِ وَ حَلُّوا دِيَارَ اَلْغُرْبَةِ ) .

وهو نص ذهبي بهي بامتياز، لا يبزه إلا الجزء الآخر من الوصية التي يقول فيها الإمام علي (أَيْ بُنَيَّ إِنِّي وَ إِنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ وَ فَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ وَ سِرْتُ فِي آثَارِهِمْ حَتَّى عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ بَلْ كَأَنِّي بِمَا اِنْتَهَى إِلَيَّ مِنْ أُمُورِهِمْ قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذَلِكَ مِنْ كَدَرِهِ وَ نَفْعَهُ مِنْ ضَرَرِهِ ) .

وقبل الخوض في تلك الآلية المهمة يجب التأكيد على ان هذا النحو وجد في القران الكريم في نصوص تتحدث عن تقريب التاريخ أو الدعوة الى تخيله والإحاطة بتصميم وتشكيل الحادثة التاريخية ، خذ مثلا قوله سبحانه (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون –آل عمران 44) أو (وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا الى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين – القصص 44) أو تخيل الحدث المستقبلي ( وما كنتم تستترون ان يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم – فصلت 22).

ومن الشذرة الذهبية في كلمة الإمام علي والتي تذكرني بشذرات الفلاسفة اليونان ، نستنتج ان المفردات 1- النظر في الأعمال 2- التفكر  في الأخبار 3- السير في الآثار . انما تعني النتيجة أو المحصلة التي استنبطها فكر الإمام والتي توفر بيئة مناسبة للإحاطة بالأمور التاريخية والحوادث حتى يمكن للإنسان ان يدخل ضمن سياق البيئة التاريخية السابقة (الماضي ) وهو لا يعني الازدواج في الفكر أو التوهم أو المعلومة، بل يعني إمكانية الإعاشة أو التعايش واستشعار البيئة الماضية أو التاريخية الى درجة الاستشعار العالي الذي يقدم لنا فهما وإحاطة وتصورا مفيدا لذلك الماضي أو لحوادث التاريخ  وتداخلاته .

وربما لا يمكن التوقف عند القواعد الأساسية من ثلاثية ( النظر – التفكر - السير ) بوصفها القوالب التي يستند عليها البحث  العقلي ، لان الصورة التي افهمها  هنا تعني استثمار تلك القواعد العقلية لبناء التصور  الحسي لفهم التاريخ ، فتصبح الصورة  العامة، انما استثمار الأفكار العقلية والقواعد الفكرية للإحاطة بالجوانب الشعورية والحسية في التاريخ  وهي التفاته تبرز ضرورة دراسة تبادل العلاقات الإنسانية وتفاعلها مع  البيئة والآخر من منطلق جديد يكون بتقريب الإحساس  بالحوادث التاريخية  وتنميتها لتصبح لا بكونها مجرد تقليعة تعتمدها  أفكار الحداثة أو ما بعد الحداثة ، بل  بوصفها  عملية تقريب التاريخ وعدم قطع خيوطه وإهماله لأنه المعلم  الذي لا يمكن تجنبه أو إلغاءه ،  ولان بإمكاننا التعامل معه لا على أساس استعباده بإحضاره مقيدا برغباتنا في محاولة تمثل الاستشهاد به عقائديا أو  دينيا وإرغامه على ان يكون الأداة الحادة التي يستخدم جانبها السلبي دائما في بتر العلاقات الاجتماعية الدينية أو الثقافية الفكرية ، بل في الجانب التنموي الممتع والمفيد ، فلا يستعبدنا ولا نستعبده .

وأتصور بان مراحل تكوين بيئة فهم التاريخ العقلية التي تستند على الإحساس والاستشعار تبدأ من:

1. يمتهن مستشعر الحوادث التاريخية ما يشبه دور المخرج  ، فيقوم بتجميع وإدارة اللقطة  التاريخية لا بصيغة تأليفها إنما توليفها في المرحلة الأولى وتجميع عناصرها الأساسية بغية استخراج النتائج المهمة أو شبه المهمة .

2. رسم سيناريو الحادثة التاريخية ، سواء بالتخيل المعمق أو بالورقة والقلم  وبنظام الدوائر التي تمثل (دوائر البيئة العامة ودوائر الأفكار و الشخوص أو الأماكن أو الزمن أو الأشياء والأشكال أو مرحلة تخيل وتصور الكيفــــيات من الطعوم والروائح وتخيل المسموعات).

3. الرسم من خلال الخيال أو الورقة لمنظومة الرموز والإشارات المتعلقة بتداخل العلاقات بين عناصر السيناريو . وفيها علاقات التقاطع والتداخل والتناقض وسواه .

4. استنتاج القضايا الخاصة بتداخل العلاقات والأفكار .وتصور هذه الاستنتاجات وفق عملية التخيل التي تعتمد على هضم وفهم التصورات العامة الشاملة للحادثة التاريخية المراد استشعارها .

5. من انجح التقاطات الاستنتاج هو:

أ‌- استخدام السؤال لردم الفجوات المفقودة ، وإيجاد إجابات أو بدائل لتلك الإجابات ، فالحديث عن ما بعد الطوفان أو انهيار الحضارات أو بروز الفلسفة في مجتمع ما ، يتطلب ليس فقط السؤال إنما استشعار البيئة بالآلية الأنفة الذكر ومن ثم توجيه الأسئلة المختلفة .

ب‌- استخدام المنهج الاستقرائي بوساطة الدخول الى الحادثة التاريخية ومعايشتها وتتبع تفاصيلها بالاستقراء فتصبح القضية أشبه بفريق من المحللين الجنائيين الذين يقتحمون الحادثة التاريخية ليجمعوا التفاصيل المختلفة التي يشرف عليها فلاسفة أو فلسفة التاريخ، لا العلم الجزئي الجنائي وهكذا مع بقية العلوم النفسية والاجتماعية والسياسية والعلوم العملية الأخرى .

ت‌- استخدام الافتراضات الخاصة بالجانب الشرطي، (إذا كان فانه).

ث‌- استخدام الفروض المستقبلية من داخل الحادثة التاريخية نفسها !!! وهي آلية لا تصلح إلا من خلال معايشة واستشعار حقيقي للتاريخ.

ج‌- استثمار التقدم العلمي والتقني بإدخاله الى صلب الحادثة التاريخية المستشعرة  والذي يعطينا أفضل النتائج الممكنة .

ح‌- استخدام وابتكار وسائل إحصاء واستبيانات واحتمالات جديدة تتناسب و(جانب استشعار الحادثة التاريخية وأيضا تتناسب مع استيعابنا لمفهوم الماضي .

قد تكون هذه أهم الأفكار الخاصة بهذا الجانب والتي تحمل غاية الاستفادة من التاريخ بوصفه يمثل بعض العلاج للواقع أو للمستقبل  وهي آلية فكرية بحتة لا تستهدف استنهاض  الإثارة التي تحملها الحادثة التاريخية بقدر  ما تمثل محاولة محايثة الحادثة التاريخية ومعايشتها بطريقة علمية شاملة وتطبيق بعض آليات المستشعر لها وبالتالي التوصل الى نتائج هي اقرب الى الجانب التطبيقي منها الى دراسة التاريخ وفق القواعد والأفكار العامة أو النظرية فقط .

 

الدكتور رحيم الساعدي

 

في المثقف اليوم