قضايا

محمد جواد سنبه: نبذ الخرافة من الواقع الشيعي.. ردّي على مقال د. سليم الحسني الموسوم بعنوان: قوة الخرافة في الواقع الشيعي (2)

mohamadjawad sonbaفي الحلقة الأولى من هذا المقال، اوضحت بشكل مقتضب، الدوّر الثقافي الذي قامت به، مؤسسات تنويرية أهلية، دعمتها المرجعية الدينية الشيعية في النجف الأشرف، في باكورة القرن الماضي. كما اشرت الى مدى تأثير تك المؤسسات بشكل مباشر، لانضاج عقلية المجتمع العراقي، واسهامها في نشر العلم والمعرفة، بين مختلف طبقات المجتمع العراقي، في وقت كان فيه الجهل، يخيم على المجتمع بشكل كبير جداً، بسبب رزوخ العراق، تحت وطأة الاستعمارين العثماني والبريطاني بالتتابع.

في هذه الحلقة، ساستكمل مناقشة القضية المبحوثة (قوة الخرافة في الواقع الشيعي). ولكن في البداية لا بدَّ من الاشارة، بأَنْ لا وجه للمقارنة بين وضع العراق، في حقبة القرن الماضي، بخصوص تأسيس الانشطة الثقافية والتوعوية، وبين دور المرجعية الدينية الشيعية حالياً، في تشجيع ورعاية مثل تلك المشاريع، حتى تكون نتائج (القضية المبحوثة/ قوة الخرافة في الواقع الشيعي)، صحيحة النتائج.

لأنَّ الاحتلال الامريكي للعراق عام 2003 أحدث وضعاً صعباً بين طبقات المجتمع العراقي المختلفة. ومن ابرز سمات ذلك، زعزعة استقرار المجتمع العراقي بشكل كبير، أمنياً واقتصادياً وسياسياً وثقافياً، ونفسياً، وحتى على مستوى التنازل، عن الهوية الوطنية العراقية، كحالة لها حضور كبير في الواقع العراقي (ظهرت بعد الاحتلال الامريكي للعراق)، وهذه الحالة من اكبر الاخطار، التي تهدد وجود الشعب برمته. في القرن الماضي كان العراقي متمسكاً بهويته العراقية لدرجة الاستقتال على بقائها.

هذا الخلل البنوي في كيان الانسان العراقي، أدى الى انحدار وتدهور المستوى الثقافي العام بشكل كبير، لأسباب تتعلق بادارة الدولة، وأخرى تتعلق بصراعات القوى الدينية والسياسية، التي طرحت مشاريع التناحر الطائفي والاثني والاقليمي والدولي، واخرى تتعلق بزمن القهر الصدّامي.

لقد قررت المرجعية الدينية في النجف الاشرف، اتخاذ عدة مواقف صلبة مع السياسيين، الذين يديرون الدولة العراقية، لايقاف عملية التردي والانحدار، في الاوضاع الأَمنية والاقتصادية، واستشراء الفساد، وهدر المال العام بشكل كبير.

وبناء علية، فان هذه الظروف القاهرة، جعلت المرجعية تنصرف للأمر الاهم دون المهم. وبناءً على ذلك، فإِني سأضع في هذه الحلقة، المعوقات التي تقف بوجه المرجعية، وتمنعها من اتمام دورها في رعاية وتوجيه، عملية التثقيف الجماهيري، لدرء خطر الخرافة عن المجتمع العراقي، وبالوقت نفسه، سأُقدّم بعض الحلول التي قد يمكن تطبيقها، للحؤول دون زيادة تدهور الثقافة المجتمعية، مع تقادم الزمن.

فأقول، ان المرجعية الدينية اتخذت عدة قرارات حاسمة منها:-

الأول: عدم التدخل في الشأن السياسي. إِلاّ في الحالات ذات الضرورة القصوى التي تخص شأن المواطنين.

الثاني: الوقوف بمسافة واحدة من الجميع.

الثالث: التعبئة الجماهيرية لقتال داعش، وتأمين كافة المتطلبات لهذه المهمة الكبيرة والصعبة.

الرابع: الاهتمام بالوضع الانساني، لكل النازحين والمهجرين من المناطق الساخنة.

هذه المواقف الايجابية التي قامت بها المرجعية الدينية، استبطنت موقفاً رخواً، بالناحية المتمثلة بتحصين المجتمع ثقافياً، وبناء المواطن الصالح، بسبب تقديم الأهم على المهم كما اسلفت.

صحيح ان الانسان الصالح، هو المسؤول عن بناء نفسه، لكنه بحاجة الى محفزات تشجعه، ليكون أكثر صلاحاً، من خلال انضاج وعيه المعتقدي والمعرفي والسلوكي.

فتلك الاسباب جعلت المرجعية الدينية، تعزف عن التفكير، بدعم المشاريع المنتجة للثقافة والانشطة الفكرية، في مجال المجتمع المدني، خشية من انجرافها في دوامات السياسة، بصورة غير مباشرة، وبذلك تكون النتائج عكس المتوقع.

كما أنَّ هناك ملاحظات اخرى، لا تستحسن المرجعية الدينية الخوض في تفاصيلها، أو طرق ابوابها، تحسباً من الوقوع في مواقف سلبية، قدّ تسجل عليها. ومن هذه الملاحظات :

1. تحسّس المرجعية من اي مشروع له نشاط، خارج نطاق الجهد العلمي الحوزوي.

2. وجود منطقة فراغ في العلاقة بين الجهد العلمي، الذي تبذلة المرجعية الدينية، في الحفاظ على بيضة الاسلام والحفاظ على معالم الدين، وبين تنشيط الدور الثقيفي لنشر الوعي الجماهري، بين مختلف شرائح المجتمع، ليس على مستوى تعاليم الدين الحنيف، وانما على مستوى النضج الاخلاقي في السلوك العام، وتطوير الأنشطة الفكرية للجمتمع.

3. ربما لكثرة انشغال المرجعية، في الجانب البحثي في المجالات الدينية المتنوعة، جعلها تصرف النظر بالتفكير، في تأسيس مؤسسات ثقافية رصينة، تستطيع ايصال ثقافة الانسان الصالح، لاطياف المجتمع المختلفة. علماً ان حوزة المرجعية الدينية زاخرة بالاساتذة الافاضل من الباحثين، في مجالات الاخلاق وتفسير القرآن الكريم، والعقائد والتاريخ والعرفان، والفكر الاسلامي بمختلف جوانبه. واننا نأمل من المرجعية الرشيدة، المبادرة بمعالجة هذا الفراغ.

4. ان مرجعيتنا الدينية الرشيدة، لا تولي اهتماماً بموضوع التواصل الثقافي وتبادل الآراء الفكرية (خارج نطاق البحث الفقهي والعقائدي)، مع مؤسسات فكرية وثقافية رصينة، موجودة في العالم الاسلامي. وعدم السعي في محاولة تبادل الخبرات معها، في مجال نشر الثقافة المجتمعية. باعتبار ان نجاح النشاط الثقافي في بلد اسلامي ما، هو تجربة اجتماعية عملية، تركّزت فيها خبرات كبيرة، ومجهودات ضخمة، سقلتها ظروف تجربة استغرقت عدد من السنين.

5.  وهذا الجمود في التواصل بين المرجعيات، يفوّت على الجمهور الكثير من فرص التنوير المعرفي، والاطلاع على تجارب الآخرين. فالشعوب الحية تتعلم بعضها من البعض الآخر.

6. العالم يعيش مرحلة حضارية متقدمة، من اهم مميزاتها، الفضاء الالكتروني، الذي جعل المعلومات والكتب، وان كانت بحجم موسوعات، في متناول اليد، وتصل الى المتلقي بكل يسر وبساطة وبالمجان أيضاً. لكن هذا الفضاء لم يستثمر بشكل جيد، لنشر الوعي الثقافي، بين صفوف المجتمع والشعب العراقي، بسبب غياب المركزية المؤسساتية، التي ينبغي ان تدير  برامج التوعية الثقافية، بشكل علمي وموضوعي، لاستقطاب طاقاتنا الشبابية، وتوظيفها لصالح انتاج انشطة ثقافية ملتزمة.

ولابد من الاشارة بكل وضوح، ان وزارة الثقافة العراقية، هي وزارة مشلولة تماماً، عن القيام بدورها كمؤسسة حكومية، مهمتها تثقيف المجتمع، بكل الوسائل المتاحة لها. وهذه الوزارة تمتلك شبكة كبيرة، من الدوائر المتخصصة في المجال الثقافي. لكننا نجد أنَّ انشطتها معطلة، بسبب الفساد وسياسات المحاصصة، واصبح المواطن العراقي ضحية، لآفة التخلف والجهل وتقبل الخرافة.

اعتقد اننا لا نتخلص من مظاهر الفهم السطحي لعقيدتنا، ومن المظاهر الخاطئة في التعبير عنها، ما لم نبدأ بمشروع توعوي ناضج وهادف أيضاً. يتبنى عملية الانضاج الفكري والثقافي الشامل، لكل شرائح المجتمع العراقي. وبذلك نؤسس لمرحلة جديدة، يكون فيها المثقف الوطني، هو خط الصدّ الأول، الذي يقف بوجه كل الخرافات والخزعبلات، التي يبتدعها المتثاقفون المتهالكون الافاكون. وعند تحصين المواطن فكرياً وثقافياً، سيكون ظهيراً قوياً للمثقف الوطني الهادف، في محاربة شغب المشاغبين، وعبث العابثين. والله تعالى من وراء القصد.

 

مُحَمَّد جَواد سُنبَه - كاتِبٌ وَ بَاحِثٌ عِرَاقي

 

في المثقف اليوم