قضايا

عدنان البلداوي: مضامين الخطاب المنبري بين الكلاسيكية وواقع الحال

adnan albaldawiكان أغلبية خطباء المنبر الحسيني في ظروف خاصة أمام محنة الترصد التي فرضت عليهم أن يتجنبوا أي مفهوم يحمل مضامين توعوية بمختلف أشكالها، حتى ولو كان طابعها ثقافيا، خوفا من التأويلات السياسية المنقوعة بنية الخطر الأمني .. أما اليوم وقد أسفرت الكلمة الجريئة الصادقة عن وجهها المشرق في أجواء التحرر من الجبابرة والطغاة، فقد أصبحت أمام خطيب المنبر او المحاضر مسؤوليات جسام تكتنفها كثير من الخطورة إذا ما أهملت ..

 اليوم أصبح يواجه واجبات جادة وحاسمة ومصيرية، في مجتمع قد توغل في مفاصله كثير من المفاجآت المغرضة والتقاليد المستوردة والتجاوزات اللامنصفة ضد الإسلام.

اليوم تتحدى ثقافة الخطيب وعلميته كثير من الفضائيات، وهذا يعني ان جهدا مضاعفا لابد ان يبذله لأجل اللحاق بهذا الضخ المعلوماتي الواسع، إذ لايمكنه ان يقنعنا بما لديه من خزين كلاسيكي هو اليوم لايقوى أمام الأرصدة الكلامية الجديدة، لاسيما التي تحمل معها ريحا صفراء عصية على تفهم الحقيقة..!

ان واقع الحال اليوم يتطلب من الخطيب قدرة إيصال الوعي الثقافي الى جو الأسرة - التي هي أس المجتمع – وتبصير أفرادها بالاختراقات النفسية المدروسة والمخطط لها سلفا، على ان لاتكون التوعية من نوع (لاتستمعوا الى كذا ... غضوا أبصاركم عن ذلك..) دون الوقوف عند المحاور السلبية تحليلا وتفسيرا وتعليلا وجلاء موقف، ثم وجوب التبصير بعواقب الأمور ..

ان من أقل جهود الخطيب ان يحمّل جميع الآباء والأمهات كامل المسؤولية تجاه أبنائهم، لأن هناك كثيرا من الأسر تحتاج الى وسيط تربوي وتوعوي يعين قدراتها المحدودة، وهنا يبرز دور المعلم والخطيب والمحاضر، وفي حالة فقدان تلك الأدوار، يولد الضياع والتشرد والفوضى، هذا مايخص الأسر التي تفتقر الى الثقافة والتوعية، أما الشارع الثقافي فهو الآخر يحتاج الى مساهمة الخطيب او المحاضر، وتتمثل تلك المساهمة في حث المثقف الى محاولة المشاركة في بث الوعي المطلوب، وكذلك حثه الى تبديل المضامين الأسلوبية المتعارف عليها بأخرى أكثر فاعلية وأشد تأثيرا، سواء أكان ذلك في لقاءات مباشرة مع الجمهور أم بوساطة وسائل الإعلام المتنوعة، فالخطيب او المحاضر بهذا التوجه يكون قد جعل من المثقف او صاحب القلم الصحفي معينا له في مهمة البناء في هذه المرحلة الصعبة.

ان أمام الخطيب أمرين : إما ان يكون جديرا  ومقتدرا  على التحليل والربط والاستنتاج في خوض الطروحات المنبرية الهادفة، وإما ان ينصرف الى تعزيز ثقافته وعلميته المحدودة تعزيزا يؤهله لمواجهة التحدي، إذ لم تعد الثقافة الشعبية الكلاسيكية  تكفي للصمود أمام عصرنة الألسنة الوقحة، مما يجعل عدم صمودها في بعض الأحيان الى  أن يضطر حاملها الى توظيف أسلوب اللعن والتشهير  تجاه الطرف الآخر، ولاشك في ان لعن الآخر هو مدعاة لتنشيط خلايا الطائفية السلبية المقيتة التي همها إشاعة التفرقة، وتقديم خدمة مجانية للأجنبي الذي سنّ شعار (فرق تسد) في الوقت الذي يجب ان يحل الحوار العلمي الهادئ والهادف بين الأطراف، كما ان صياغة مضامين الحوار البعيدة عن المبالغات العقائدية، وعن الأخذ بروايات قديمة لم يصلها التحقيق الجرئ بعد، كفيلة هي الأخرى بأخذ التوجه المنبري الجديد صوب الارتقاء الى درجة التأثير حتى فيما أخذته بعض الديانات الغربية من مفاهيم مغلوطة عن عاداتنا وتقاليدنا وطقوسنا الدينية  التي أساء فهم أهدافها الكثيرون بسبب غياب التفسير والتحليل والتقريب الهادف البعيد عن التطرف والتعصب، لأننا على سبيل المثال نؤمن بالتقية ولكننا لانمارسها بالخداع والكذب وإنما بالحكمة والصبر، وما سعينا في العمل السياسي إلا بهدف إصلاح الذات، الإصلاح الذي نراه هو العمل السياسي الأهم، لأن الذات اذا صلحت واستقامت برضاء الله تعالى وتوفيقه ينهزم الفساد ويأخذ كل ذي حق حقه، ونحن نعتز بمذهبنا ونتمسك به، لكننا لسنا طائفيين اذ لاحاجة لنا بالطائفية، لأن البحث عن الحقيقة عمل كفيل بجلب الاطمئنان، واذا تحقق الاطمئنان يعني تحقق الضمانة الأكيدة لثبات الإيمان، وإذا ثبت الإيمان تنتحر دوافع الانحراف بكل أشكاله، واذا تحقق ذلك فهذا يعني ان أجواء الذات قد أصبحت بين يدي الفضيلة والتقوى والنوايا المهذبة، واذا حلت الذات في هكذا أجواء نقية صافية نزيهة صادقة يعني انها وصلت الى مرحلة تحتقر فيها عملية استفزاز الآخر سلبيا او اتهامه بما ليس فيه، وهذا بدوره كفيل لخلق دوافع تتطلع الى كل نبع نقي صاف يفتح آفاقا جديدة تعزز مضامين الحقيقة التي تم التوصل اليها، وفي ضوء ذلك يستطيع الخطيب الجديد ان يذلل الصعاب التي يعجز عنها الخطيب الكلاسيكي، لأننا وإن كنا متجذرين إلا انه لامفر من مواكبة التطور المشروع والسعي صوب مستقبل أفضل في ظل ستراتيجية حكيمة وديمقراطية معتدلة  لافوضوية، وفي الوقت الذي نرفض فيه حدوث الفتنة في المجتمع، لكننا في الوقت نفسه ضد تعطيل الإصلاح وضد الغاء النقد البناء.

لاشك في ان المنبر له موقع مهم عند مختلف الجهات، فكيف نضع له مكانة مشرفة ونعمل على بنائه بمستلزمات تتوافر فيها المقومات السليمة ..؟

لقد شغل هذا السؤال عميد المنبر الحسيني وفقيد الخطابة المعاصرة الشيخ الدكتور احمد الوائلي رحمة الله عليه، الخطيب الذي كان بحكم تمتعه بحيوية فكرية وثروة ثقافية معاصرة، لم يطق ما دأب عليه بعض خطباء المنبر من اعتكاف على معلومات قديمة  لاتعدو النعي المباشر والبكاء وتصوير مشاهد القتال تصويرا يخرج في مبالغاته عن اصل الروايات ونصوصها، بغية إغراق السامعين بالدموع، في الوقت الذي يجب على بعض خطباء المنبر ان يعرفوا أن مجلسهم لايخلو من شريحة جديدة من المتلقين الذين يدركون ان البكاء لابد ان يفرز نتائج ملموسة وفاعلة تخدم المبادئ التي من اجلها استشهد الحسين(ع)، لأن الدموع بوعي حقيقي وواقعي للدوافع التي أفرزتها، تعطي نتائج تتجدد بها قوة الإرادة بوجه الباطل، وفي ضوء ذلك لابد ان يقحم الخطيب في أجواء البكاء مضامين يؤكد فيها للباكين بأن يحرصوا على ان لاتذهب دموعهم هذه أدراج الرياح، لأن إحدى فضائل  البكاء في استذكار مصيبة الحسين عليه السلام بعد أثر التجسيد المؤلم للواقعة في أعماق المشاعر مع هيمنة معاني الشهادة ودوافع النهضة الحسينية ، هوتطهير الذات وإحاطتها بنورانية الفضيلة ، واذا حظيت الذات بذلك فان من أولى مهامها ان تستنهض بهذه الدموع مسؤولية الدعوة الى الإصلاح الذي نهض الحسين عليه السلام من اجل تحقيقه، لأنه (ع) لايريد دموعا من عين ترى الباطل ولاتنهى عنه، ولايريد لطما على صدور يعشش فيها الكذب والنفاق، ولايريد أموالا تُصرف على مواكب العزاء بدافع الرياء والمباهاة، وويل لمن يتخذ من  شعائر الحسين وسيلة لحب الظهور والزهو الدنيوي..!

ان أكثر المتلقين لاسيما الشباب بحاجة الى الاطلاع المفصل على دقائق الصور الجهادية والمواقف المبدئية في واقعة الطف او ماقبلها من وقائع او على تجارب السلف من العلماء والمصلحين، لكي يستمدوا منها ديمومة حيويّة لمسيرة الإصلاح، وليستطيع الشاب من خلال ذلك أيضا التحكم في عواطفه الغريزية اذا خرجت عن الخط المشروع، لأن تشبّعه بعوامل الحفاظ على المبادئ الشريفة يساعده على كبح جماح نفسه، ويمنحه القدرة على الرؤية الجادة، تحقيقا لإرادة قوية تحطم الغزو الإعلامي اللامشروع الذي يهدف الى تقريغ النفس من كل ما بناه الإسلام من قيم ومثل سامية.

لقد أفصح عميد المنبر رحمة الله عليه عن مهام الخطيب ومكانة المنبر في العصر الحديث مؤكدا (إن المنبر لم يعد كما كان مؤسسة تخصنا، بل عاد مدخلا كبيرا  للتعرف علينا، ودراسة هويتنا، واختبار قدراتنا الفكرية  وتحديد اتجاه مزاجنا، فنحن طائفة تميزت بفكر مارس الصراع منذ ولد، وتعرض للملاحقة من بواكير أيامه، وذلك لأسباب كثيرة كتب فيها العلماء كتبا، وسلط المحققون عليه الأضواء، وكان ومايزال جوهرها ليس مما يروق لكثير من الجهات لأسباب شتى، ومع ذلك كله لايزال البعض لم يعط هذه الأمور حقها من الاهتمام بالمنبر وما ينبغي ان يكون عليه كما هو عند غيرنا . ان كل عمل من الأعمال او نشاط من الأنشطة اذا لم يتوافر فيه العنصر الأخلاقي فهو مجرد عن الروح وخصوصا النشاط الديني، ولاشك في ان اهم أخلاقيات المنبر هي ان يستهدف وجه الله تعالى  قبل وبعد كل شيئ، فإنه ان حاد عن هذا الهدف فقد تحول المنبر الى دكان لعرض البضائع .... ان المنبر الموهوب من اهم ما يلزمنا في هذا لعصر، لأنه يتميز عن باقي الوسائل الحضارية وآليات الإعلام بأنه هو الذي يوصل المعرفة الى أذهان الناس بغطاء غير ميسور للوسائل الأخرى ألا وهو عاشوراء  ومقدساتها التي تجذرت وعادت موسما يتشوف اليه المسلمون  كلٌ من زاويته التي يتوخاها...).

وفي ضوء ما أكده الفقيد يتعين على الخطيب المعاصر ان يتحرك بوعي وبراعة عند معالجة بعض الأخبار والروايات، لكي لايثير بها جهات مذهبية أخرى نحن أحوج ما يكون الى تقريبهم الينا، لكي يفهموا مواقفنا ويصححوا ما نقل اليهم عنا من امور بعيدة عن الحقيقة، لأننا ندعوا الى منبر من بعض مهامه، بل وفي مقدمتها القيام بدور الدعوة الى التعايش تحت لواء الإسلام، وهذا يعني وجوب انتقاء مادة المنبر انتقاء خاليا من الشوائب والتهافت (ولتكن المادة غاية في البساطة، فهي خير من مادة يحسب البعض انها دسمة ولكنها غير سليمة في أجزائها ..) وهذا ما يصبوا اليه عميد المنبر الذي أكد في مواقف كثيرة (وجوب استفادة الخطيب من حشود الذكرى، ليطرح موضوعا من المواضيع التي تعالج موقفنا من جسم الامة الذي يتعرض لافتراءات لانهاية لها، وموضوعا أخلاقيا او عقائديا يشدنا الى مدرسة اهل البيت ويحقق مطلب الامام الصادق عليه السلام بقوله : احيوا أمرنا ..)

وتأسيسا على ذلك فقد أعطى الفقيد اهمية كبيرة لدور المنبر في الانفتاح على تراث المذاهب الإسلامية الأخرى والتفاعل معها نقدا وتقييما بهدوء وموضوعية تامة .

ونختم بالمسك وصية قدمها الشيخ الوائلي رحمه الله بقوله: (ايها البراعم الواعدة .. يامن استهواهم درب المنبر لسبب او آخر، لاتجعلوا هدفكم المال قبل خدمة مبادئكم، ولاالبريق قبل النضوج والإجادة، ولا إرضاء الجماهير ولو نزلتم، ولكن للصعود بهم ولو اتعبكم ذلك، وثقوا انكم بعين الله عز وجل وعلى مرمى الأبصار من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، يرون عملكم ويمنحونكم بركاتهم  ان كان ذلك من أهدافكم ..).

انها دعوة واثقة الخطى، شديدة الوقع في العمق الخطابي المعاصر، جديرة بالإقتداء والدراسة والتأمل.

 

عدنان عبد النبي البلداوي

 

في المثقف اليوم