قضايا

حسن عبد الهادي اللامي: استراتيجية العمل السياسي بعد نهضة الامام الحسين.. عهد الامام الباقر نقطة التحول

hasan abdulhadiallamiقد اكون جريئا على الشائع في اذهان الكثير ممن يعتقدون ان نهضة الامام الحسين لم يكن من جملة اهدافها إقامة حكومة "محمدية علوية" بل ان الامام الحسين كان كمن يذهب الى مضجعه ليرقد شهيدا ويكون دمه أسفين الخلود لكلمة التوحيد وهذا في تصوراتي تفكير له جذور ممتدة مع الفكر الجبري والذي يحول الانسان الى كرة ساكنة تتقاذفها الاحداث وتتلاعب بها المتغيرات.. والحسين ليس كذلك بل هو رجلُ الحياة وصانع المشاريع وممسك بكظم الاحداث يغيرها بفكره المتوقد والثاقب وهداه الذي هو على صراط مستقيم، ولِم لا يكون مستهدف اقامة دولة وحكم وهو يرى ان يزيد لا يصلح للحكومة ومثل " الحسين " لا يبايع مثله، وانه ما خرج إشراً ولا بطراً بل لطلب الاصلاح ومعلوم ان الاصلاح هو برنامج ومشروع ولا يتحقق الا في ظل حكومة وزعامة وهذا ما يحاول البعض ان يبعده عن شخصية الامام الحسين متخيلين ان الامام رجل دين لا سلطة او سياسة وهو تصور غير صائب قطعا ويقينا، والامّة بعد فاجعة كربلاء بدأت تستعيد وعيها من الخدر الذي أفتعلته السلطات الحاكمة المنقلبة على النظام الاسلامي الاصيل حيث شُلت الارادة الحرة للمسلمين بعد رحيل النبي وتشوهت صورة آلية النُظم السلطوية والقيادة الى درجة ان الحاكم الثاني عمر يعتبر بيعة الحاكم الاول فلتة كادت ان تُشعل فتنة وحرب بين الفئات الاسلامية ويرى الحاكم الثاني ان بيعته مُبتنية على الوصية بمقتضى المصالح المشتركة والزِمالة والتعاضد الذي قدمه عمر بينما يحاول تلافي نظم انتخاب الحاكم فيما بعده بجعل الامر شورى مع توصيات ضرورية في تأصيل لسنة الشيخين كمنهج يطرح على المرشح للحكومة الثالثة وهذا ما رفضه الامام علي في شوراهم المنعقد الذي اسفر عن بيعة عثمان حاكما يخلف الاوليين ليُقصى علياً لانه لم يعترف بشرعية منهج الشيخين وافصح عن مصدر سيرته بالأمة على نهج الرسول الاكرم واجتهاده، واغتيال "علي" في خضم المواجهات الحامية بين الخلافة الشرعية والحقة مع المتسلط معاوية والتي افرزت قطب مشاكس يجتذب المناؤين لحكومة علي - وما اكثرهم- ويستهدف شرعنة حكومته وبث الدعايات والشبهات للتشويش على حكومة الامام علي وهذا ما جعل الصور المنتشرة في الامة آنذاك ترى من معاوية حاكم له امتداده المرتبط بحكومة عثمان وبالتالي امتداد لحكومة الشيخين فهو خليفة الخلفاء ونفس الوقت هناك صورة ترى من علي رجل صارم لا يُسايس وهو صاحب نفير ومواجهات فهو يستهدف اقامة حكومته بهذه الصرامة ويريد ازالة المناؤين عن سير حكومته وصورة اخرى ترى ان الكل طالب للسلطة ..، وقليل هم من يرى ان حركة الامام علي (ع) في تنقية وفلترة مراكز الحكم هو الاصح لجسد الامة من بقاء الغدد السرطانية التي كان يقرأ (علي) مستقبلها قراءة استشرافية تنبأ فيها بديكتاتورية ستجعل الدماء انهار تجري الى ما شاء الله، وان الامام الحسن اسس لإزالة بقاء السلطة في ال أمية وان لا يكون الحكم عضوض قائم على التوارث فاغتيل الحسن ايضا لكي ينهدم ركن من الاتفاقية التي تمت بين معاوية والامام الحسن (1) ولذا بادر معاوية الى نصب ولده يزيد خارقاً للمواثيق والاتفاقات وهذا ما جعل الامام الحسين ينهض ثائرا ومحركا للراي العام الى درجة ان ذبحوا اهل بيته وسَبَوا حرائر الرسالة ! وانبلج فجر الحقيقة وفُضح اللص ! وتكشفت الامور بأنحراف الامة عن مسار الهدى النبوي وكيف ان الامة تعيش أزمة فقدان هويتها بين قيادات متطفلة على منصب خليفة رسول الله وبين غياب تأثير القادة الهداة من العترة الذين هم عِدلُ القرآن الكريم دستور الامة الإسلامية حيث اصبح مهجورا والسنة محرفة ... ولذا انكشف للباحث طبيعة ذهنية الامة التي لم تكن مؤهلة للقيام بوظائفها اتجاه قياداتها الحقة ولم تكن واعية للبرنامج الذي يعتمده المعصوم في اداراتها فهي بحاجة لشحن ثقافي معمق وتربية مركزة،حتى يكونوا على مستوى المسؤولية في التضحية والاخذ بالمشروع الالهي الذي يطرحه المعصوم وهذا ما لم يجده الامام الحسين في نهضته التي خذلته الامة عموما وفشلت في إقامة دولة نقية كريمة فصُرع قائدها الشرعي امام ناظرها واستبيحت حُرمه دون ان تنهض منتفضة، تبكيه ندما وتخذله نصرة، صراع بين اراداتها ورغباتها .. ولذا بعد نهضة الامام الحسين كانت الامة بحاجة الى ان تعي رسالة الاسلام وعياً يجعلها على حد المسؤولية في ان تكون على خط التضحية والعطاء وفي قمة الوعي لتميز الراعي من الذئب والقائد الحريص الرؤوف الرحيم من المتسلط الناهب لثروات البلاد والمستعبد للعباد .. فتكفل الائمة الاطهار بالجانب الثقافي لتوعية الامة بدستورها وسبل توعيتها وترقية فهمها .. وبقي الجانب التربوي لسنن الحياة تصفعهم تارة وتتركهم اخرى لكي يلتفتوا الى تجارب الماضيين لا لينتقدوا فقط، وعين منهم الى مستقبل سيكونوا مسؤولين عن تشييده في حاضرهم، فعليهم ان يصححوا المسيرة وينتهجوا سبل الوعي المنيرة ويجدوا ويجتهدوا في الاخذ بمراشد اهل الذكر ويُلزموا انفسهم الصدق في اتباع الصادقين، فأتخذ الامام السجاد عليه السلام السُبل الروحية المركّزة عبر الدعاء والعبادة وتأصيل معارف القران والسنة عبر الدعاء، وجاء الامام الباقر عليه السلام مكثفا الجانب العلمي والمعرفي حيث يرى الجهل النوعي والمركب مستشريا في الامة فبث المعارف والعلوم بشتى انواعها وكان يؤكد على التحصيل العلمي ويدعم طلابه على التحصيل، ولم يقتصر نشاطه في المحيط الديني بل اتسع ليلج المحيط السياسي ولذا كان له دور في تعميق فكرة ان يكون القائد عالما كاملا وحذقا في كل الامور حتى يكون اهلا للقيادة وهذا ما ترجمه الامام الباقر في محضر هشام بن عبد الملك الاموي وبلاطه حين حاول الانتقاص من شخص الامام عند اللقاء فحاول ان يحرج الامام بدعوته الى ممارسة الرماية بالنبال ظنّاً منه ان الامام لا مهارة له في الرمي فخيب الله تعالى ظنه ورمى الامام الباقر النبال بصورة لايوازيه فيها احد حتى اضطرب عن غيرارادة هشام بن عبد الملك وراح يصيح من الغيظ : (يا أبا جعفر أنت أرمى العرب والعجم!! وزعمت أنك قد كبرت!!).. فماذا قال له الامام عليه السلام (إنا نحن نتوارث الكمال). وثار الطاغية، واحمر وجهه، وهو يتمزق من الغيظ، وأطرق برأسه إلى الأرض، ثم رفع رأسه، وراح يقول: (ألسنا بنو عبد مناف نسبنا ونسبكم واحد؟). ورد عليه الإمام مزاعمه قائلاً: (نحن كذلك ولكن الله اختصنا من مكنون سره وخالص علمه بما لم يخص به أحد غيرنا). (2) الى اخر المحاورة التي ركز الامام فيها على اتصافهم بالعلم والكمال وهما صفتان يخلو منها غيرهم وخصوصا حكام الجور امثال بني امية .... وكان للأمام مجالس يستقبل فيها علماء وفقهاء الامّة يجيب على أسالتهم ويناقش ذوي الفكر منهم وكان لجماله وهيبته موضعا من قلوبهم الى درجة ان قتادة فقيه البصرة بلغ به الحال ان تبخرت كل افكاره وغارت مسائله الى مستوى ان لم يتمالك نفسه ان قال: أصلحك الله والله لقد جلست بين يدي الفقهاء وقدام ابن عباس، فما اضطرب قلبي قدام واحد منهم ما اضطرب قدامك! قال له أبو جعفر (ع): ويحك تدري أين أنت؟ أنت بين يدي بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فأنت ثم ونحن أولئك. فقال له قتادة : صدقت والله، جعلني الله فداك والله ما هي بيوت حجارة ولا طين. وبلغ به الاضطراب وهو فقيه مشهور ومعروف ان تشتت ذهنه عن طرح مسائل للمناقشة حتى يستفيد من الامام الباقر ان سأل الامام عن الجبن! فتبسم أبو جعفر (ع)، ثم قال: رجعت مسائلك إلى هذا ؟

قال: ضلت علي! فقال: لا بأس عليك.(3)

وهذه السلطة الربانية المهيمنة على القلوب هي التي تهذب الامة وعلمائها وتثير في بواطنهم ووجدانهم تساؤل لِم مثل ابوجعفر الباقر لا يكون هو الخليفة؟ مع هذا الاشراق في شخصيته الجذابة والكمال الروحي الذي يتمتع به فيُقصى عن مسند الحكم؟ ما هو المعيار الذي تتخذه الامة في تشخيص قياداتها؟ هل من كان ديكتاتورا وجبارا يأخذهم بالقوة والغلبة ام من كان باقرا للعلم ومعدنا للحكمة وهاديا للرشاد وسائسا للعباد..؟ هذا التساؤل يجيب عنه الائمة الاطهار من خلال نشاطهم الثقافي في تأسيس الصروح العلمية والمعاهد الفكرية ونشر الفضائل والحث عليها ودعوتهم الى لم شمل المسلمين ونبذ الخلاف والفرقة.. كما وبين الامام الباقر اصناف اتباعهم وشيعتهم حتى لا يتوهم احد في دعوى التشيع فقال (ع): والله ما شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يعرفون إلا بالتواضع والتخشع وأداء الأمانة، وكثرة ذكر الله، والصوم، والصلاة، والبر بالوالدين، وتعهد الجيران من الفقراء وذوي المسكنة والغارمين والأيتام وصدق الحديث وصدق الحديث، وتلاوة القرآن، وكف الألسن عن الناس إلا من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء . ويقول (عليه السلام) في جمع من بني هاشم وغيرهم: اتقوا الله شيعة آل محمد وكونوا النمرقة الوسطى يرجع إليكم الغالي، ويلحق بكم التالي، قالوا له: وما الغالي؟ قال: الذي يقول فينا ما لا نقوله في أنفسنا، قالوا: فما التالي؟ قال: الذي يطلب الخير فيريد به خيرا، والله ما بيننا وبين الله قرابة، ولا لنا على الله من حجة، ولا نتقرب إليه إلا بالطاعة، فمن كان منكم مطيعا لله، يعمل بطاعته، نفعته ولايتنا أهل البيت، ومن كان منكم عاصيا لله، يعمل بمعاصيه، لم تنفعه. ويحكم لا تغتروا - قالها ثلاثا. وأخيرا يصنف الإمام شيعتهم إلى أصناف ثلاثة لا رابع لها فيقول: شيعتنا ثلاثة أصناف: صنف يأكلون الناس بنا، وصنف كالزجاج يتهشم، وصنف كالذهب الأحمر كلما أدخل النار ازداد جودة (4) فالعمل على تعميق الثقافة القرآنية في ذهنية الامة وتأصيل مفاهيم الاسلام من خلال تربيتهم على الفضائل وبث روح المسؤولية فيهم اتجاه عقيدتهم وقاداتهم هو محور حركتهم (سلام الله عليهم ) وتبلور هذا المنهج بعد الامام الحسين من خلال الامام السجاد صلوات الله عليه وبرز بشكل مكثف وجلي في عهد الإمامين الباقر والصادق صلوات الله عليهما، فنستطيع ان نقول ان النشاط الثقافي في عهد إمامة الامام الباقر عليه السلام يُعد العهد الابرز في الاعداد الثقافي والتوعوي لبناء أُمة تحمل في داخلها روح الاسلام الاصيل مُتبرئةً من الجهل والنفاق، ومستعدة لإقامة دولة كريمة بقياداتها المنصوص عليهم والمشخصين سلام الله عليهم، وهذا جزء من اسرار الغيبة الكبرى للمعصوم عجل الله فرجه، وهو ان يكون هناك وعيا معمقا لفهم الاسلام والاطروحة الالهية لكي تكون البشرية عموما والمسلمين خصوصا على استعداد لتقبل جوهر الاسلام بقيادة المعصوم ... 

 

حسن عبد الهادي اللامي 

...........................

(1) وهو الصُلح او الهدنة التي تمت بين الامام الحسن عليه السلام ومعاوية حول مستقبل الخلافة ووضعت شروط كان من جملتها ان يكون الامام الحسن بعد ان يهلك معاوية ومن ثم يبايع للحسين واذا مات الحسن قبل معاوية يبايع للحسين ولكن معاوية لم يلتزم بتلك الشروط والبنود،راجع (كتاب الإمام الحسن... القائد والأسوة (الشيخ حسين سليمان سليمان)

(2) الكتاب : معالم مشعة من حياة الباقر عليه السلام ص180

(3) (4)سيرة الامام الباقر(ع) تأليف: حسين الشاكري ص19-ص29

 (النمرقة : الوسادة الصغيرة يتكأ عليها وهو إشارة منه (عليه السلام) إلى أن يكونوا في موقع يفزع إليهم الناس في المهمات والمسلمات، مع امتلاكهم لمقومات الرجوع 

 

في المثقف اليوم