قضايا

أياد الركابي: خرافة عالم البرزخ.. من أين تأتي الخرافة في الذهن والإعتقاد؟

تنشأ الخرافة: من النقص في المعلومة ومن التزويد الخاطئ للمقولات ومن التدليس وعدم الكشف عن الحقيقة ومن الإبتعاد عن قواعد العلم والمنطق، من هنا تأتي الخرافة و تنشأ ويشتد عودها وتقوى، خاصةً في ظل وجود المروجين لها والناشرين، ومن بين هذه الخرافات القول بأن - البرزخ - هو عالم مستقل بذاته، أي إنه العالم الذي يتوسط بين عالم الدنيا وعالم الآخرة، وقد روج لهذه الخرافة رجال دين ووعاظ وكتب صفراء نجدها هنا وهناك، بحيث جعلوه عقيدة وإيمان مستحدثين في الذهن فكرة العوالم الخمسة التي يمر بها المرء،

مع إن - البرزخ – في حقيقته هو: - لفظ دال على معنى الحاجز أو الفاصل بين: [شيئين متساويين في الماهية، مختلفين في الطبيعة]  وهذا التعريف الذي إشتققناه من الكتاب المجيد لمعنى البرزخ هو بيان حال لمعنى - الحاجز - الذي يمنع الإختلاط أو الإمتزاج للشيء ذي الماهية الواحدة وذي الطبيعة المختلفة، وتعريفنا المتقدم لمعنى البرزخ لا يختلف عن معنى التعريف المعجمي الذي ورد في المقاييس وفي لسان العرب، و تعريفنا هذا مستنده لغة العرب ومادل عليه الكتاب المجيد في قوله تعالى:﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ*بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ﴾ - الرحمن 19، 20 .

والبرزخ في النص: - إنما يتحدث عن الحاجز الذي يفصل بين الشيئيين المتساويين في الماهية والمختلفين في الطبيعة - وليس عن عالم مستقل بذاته، ومادة التساوي والإختلاف المذكورة في التعريف أعلاه قد بينها الكتاب المجيد بقوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا﴾ - الفرقان 53 .

النص يتحدث عن الماهية الواحدة والتي مادتها قد وردت في لفظ الماء، والذي هو واحد في البحرين من جهة الماهية، ولكن يصعُب الإختلاط أوالإمتزاج بينهما بسبب الإختلاف في الطبيعة، وقد بيّن الله ذلك بقوله: - هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج - في إشارة للتباين في طبيعتهما، وهذا البيان وهذا التحديد جعل من لفظ - البرزخ – إنما جيء به للدلالة على الفصل بين هاتين الطبيعتين المختلفين،

ومعلوم في اللسان العربي إن الكتاب المجيد يُمنع فيه الترادف اللفظي، واللفظ فيه إنما يوضع للمعنى المُراد منه على وجه الخصوص و دون غيره، ولهذا لم يستخدم الكتاب لفظ - الحجاب - هنا، مع إنه يعني الحاجز أيضاً، والسبب في عدم الإستخدام لكون الحجاب يكون في وحدة الطبيعة، على عكس – البرزخ – الذي يكون مع إختلاف الطبيعة، والفعل في - البرزخ - يكون فصلاً في الطبيعة وليس لمجرد الفصل والحجز .

 

قال تعالى: ﴿لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ - المؤمنون 100 .

والخطاب والتمني في لسان النص حكاية عن حال الميت، الذي يتحدث عنه النص في اللامباشر أو قل إنه يبين لنا فيه: - إشتراك عالمي الدنيا والآخرة في الماهية ووحدتهما -

 ولكنهما مختلفين في الطبيعة ولهذا أستخدم مادة - البرزخ - للفصل بينهما مما يمنع إختلاطهما أو إمتزاجهما، ويمنع من خلالها نقل أو تلقي المعلومات بينهما،وهذا يجرنا للقول: - بإن الإنسان حين يموت ينقطع عن عالم الدنيا ويعيش عالمه الخاص به -، ولا يكون بل ولا يصح بين الأحياء والأموات التواصل والإتصال أو تبادل الأعمال و الأفعال .

ويقودنا ذلك للقول: - لا يصح القضاء عن الميت في باب العبادات والمعاملات -، فلا تصح الصلاة عن الميت قضاءً، وكذا لا يصح عنه الصوم ولا يصح الحج ولا سائر الأعمال والعبادات، وأما ما يُقوله بعض المتفقهة: في هذا الشأن فهو ليس صحيحاً، لأنه مجرد كلام وترغيب لا أصل له ولا موضوع، ودليلنا على ذلك قوله تعالى: - كل أمرئ بما كسب رهين - أي إن المرء المعين هو المتعلق به الثواب أو العقاب، ولا يصح تحميل الأخرين تبعات الغير من أعمال ووظائف، ويدل على ذلك أيضاً قوله تعالى: - كل نفس بما كسبت رهينة -،

 وقد دل على ذلك ماورد في الأثر عن مولانا علي عليه السلام في قوله: - اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل –، ويعني ذلك بطلان القول الدارج: - بأن أعمال العباد في الدنيا تصحح لأهل الأخرة - .

وأما مايقوم به العباد من أعمال وأفعال رجاء المثوبة والمطلوبية لجهة الموتى فهي لهم، أي هي لمن يقومون بها من الأحياء ينتفعون بها دون الأموات، وفي هذا الشأن لا بد من تصحيح الخطأ الذي وقع فيه كثيرون، حول مفهوم - الشفاعة من الموتى والتوسل بهم وقراءة الفاتحة لهم - .

إذ الشفاعة لا تصح من الموتى لغيرهم من الأموات، وإنما - العمل الصالح - هو شفيع المرء عند الله، والله هو صاحب الحكم في قبوله ورده، وكذا التوسل لا يصح بالموتى ولا طلب النجدة والنصرة منهم، كما لا يصح قراءة سورة الفاتحة لهم لأنها تخص الأحياء في خطابها ودعائها،

وكما قلنا إن النص المتقدم في سورة المؤمنون، هو حكاية بلسان حال الميت الذي يتمنى ويطلب العود إلى عالم الدنيا، لكي يصحح من أخطائه ويعمل صالحاً، لكن النص يقول: - إن ذلك مجرد أمنية وما يمنع من تحقيق ذلك هو هذا الشيء الذي سماه – البرزخ -، قال: - من ورائهم - وفعل - وراء – هنا ليس بمعنى أمام، ولا يفيد الضد في هذا النص كما توهم بعض من اللغويين، إنما هو فعل يُراد منه الخلف بدليل خطاب الميت وليس الحي، فيكون – البرزخ – في هذا النص بمعنى الميت وليس أمامه، يحجزه ويفصله من الرجوع إلى عالم الدنيا، .

ونعود لنقول إن صيغة - البرزخ - الواردة في لسان النص لا تعني أبداً، عالماً خاصاً مستقلاً بذاته، بل تعني الحاجز الذي يفصل بين شيئيين مختلفين بالطبيعة متماهيين أو متساويين في الماهية وهو - فصل إقتضاء – وقد دلت على ذلك الآية 61 من سورة النمل (أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ .

وأما ما يُقال عن إن - البرزخ - هو عالم يعيشه المرء بعد وفاته، فهو قول غير صحيح بل إنه مجرد وهم وخرافة كما قلنا، وقد تسلل إلى أفكارنا وأذهاننا عبر أخبار ومرويات غير صحيحة ومخالفة لكتاب الله المجيد .

ولا يظهر في معنى - البرزخ - ما يدل على إستقلاليته في كتاب الله أو إنه عالم مستقل بذاته، يمكن أن يعيشه الإنسان ويبقى فيه بعد مماته إلى قيام الساعة، لأن ماورد في هذا الشأن بلسان الأخبار وما يُحكى عنه فمستنده ضعيف ولا يُعتد به ولا يصمد أمام النقد والتحليل، وقد فصلنا القول في ذلك حين بحثنا حجية الأخبار والروايات وهل هي دليل مستقل في إستنباط الأحكام الشرعية ؟ ولا نُعيد .

وأما القول: بإن - البرزخ - هو العالم الذي يعيشه الإنسان في القبر إلى يوم القيامة !!، فهوأيضاً قول مردود: - لتعارضه مع مفهوم القيامة ومعناه،  -، فالقيامة: - في لسان النص هي الشيء الذي يحصل للإنسان مباشرةً بعد الموت -، و أما - يوم القيامة – فهو مفهوم نسبي مُركب من - يوم وقيامة -، ولفظ يوم فيه ورد مُنكراً وهو بذلك لا يدل على الحصر والتعيين بيوم معين، وإنما هو إشارة لمطلق معنى - يوم - الذي يلاقي فيه الإنسان ربه بعد الموت، وهو مفهوم تقريبي أو قل هو وسيلة إيضاح لمعنى الحساب بعد الموت .

وأما فكرة: - الإنتظار أو حالة الإنتظار - التي يعيشها الإنسان في القبر بعد الموت وإلى قيام الساعة، فهي فكرة مردودة لأنها تتعارض وصريح الكتاب المجيد، وكما قلنا: إن إلفاظ الكتاب المجيد دالة على معانيها المحددة بدقة و لا تتعدآها إلى غيرها، ونفهم ذلك من جهة الخطاب والدلالة والوضع .

وأما معنى: - نهاية الكون - وإرتباطه بقيام الساعة فلا أصل له عندنا، والصحيح ما ورد في لسان النص بإن - نهاية الكون - هو تعبير يُقصد منه بحسب وجود الكائن الحي، وحين يُفارق هذا الكائن الحي هذا الوجود يكون ذلك بمثابة - نهاية للكون – بالنسبة له، أي إن نهاية كل كائن حي عن عالم دنيا الوجود هي - نهاية للكون - بالنسبة له، ولا فرق في ذلك المعنى بالنسبة للفرد أو للجماعة، إذ المقصود: - هو إنقضاء أجل الكائن الحي الفرد أو الجماعة عن دنيا الوجود -، هذا الإنقضاء هو - نهاية للكون - بالنسبة لهم، ونهاية الكون بالنسبة لهم هو قيام للساعة أو هو يوم القيامة .

وبناءاً على ذلك لا يجوز ألبتة: - إعتبار القبر مكاناً للجنة والنار، ولا يصح الإيمان بمقولة (ضغط القبر) كما ورد ذلك في بعض الأخبار، والتعبير الوارد في هذا الشأن لا يخلو من الترغيب والترهيب، ذلك لأن البدن تفارقه الروح بعد الموت، والروح هي مركز الإحساس بالألم وبالسعادة، وهذا متفق عليه بين العلماء وبأن الروح لها عالمها الخاص بها، ومعلوم بالضرورة إن متعلق - الثواب والعقاب - مرتبط بروح الإنسان وليس بجسده، والقبر: هو ليس إلاَّ محلاً للجسد وليس للروح، والموت كمفهوم وكفلسفة يتعلق بالروح التي هي الطاقة التي تحرك الجسد، والجسد: هو مجرد وعاء، وأما القول: - بعودة الروح إلى الجسد عند الحساب - !!، فهو قول تقريبي متعلق بمادة الشعور والإحساس في العقل، والكلام هنا ليس من باب الدقة العلمية، إنما من باب المجاز، والأمر كما ورد عن الشيخ الرئيس: هو تصور مصاديق نسبية وقد جعل الله النوم بمثابة الموت، وما يستشعره المرء في النوم من أحلام ورؤى، هي الصورة عن المصاديق التالية بإعتبار ما يكون لاحقاً، والحق إن الإيمان بالبرزخ يجب أن لا يتعدى المفهوم في الكتاب المجيد، وأما ما نُسج حوله من قصص وأخبار فهي من باب الخرافة التي تزدهر مع غياب العلم والتحقيق ..

 

آية الله الشيخ إياد الركابي

 

في المثقف اليوم