قضايا

رشيد العالم: طارق رمضان والفصل بين السلط

rasheed alalimلقد شكلت الفلسفة السِّياسيّة أحد مُكونات وخصَائص الفِكر الإنساني منذ فجر التاريخ، كما أن النزَاعَات السياسية كان لهَا دور هَام فِي بناء العقل السِّيَاسي وصِيَاغة الفكر البشري القديم والمُعَاصِر، فمن بين المسائل الفكرية التِي أثِـيرَ حَولهَا النقاش منذ زمن بَعِـيد، مَسْألـَة الفصْل بَيْن السُلـَط، فالفِكرُ السِّيَاسيُّ مُنذ (أرسطــُو) يُمَيز بَينَ عِدَّةِ وَظـَائِف دَاخِلَ الدَّوْلـَة، غَيرَ أنَّ الفـَصْلَ بالمَفهُوم السِّياسِي المُتدَاوَل في الأدبيَّات الدُّستوريَّة والسِّيَاسيَّة الحَاليَّة لم يَبرُز إلا فِي كتـَابَات (جون لوعام)، ثمَّ أوضَحَهُ (مونتيسكيو) فِي مُؤلفهِ الشَّهير (روح القوَانين) حيث مَيَّز بَينَ أنوَاع السُلطة التشريعيَّة، والتنفيذيَّة والقضَائيَّة.. وأكـَّد على ضَرُورَة استقلال كل سُلطةٍ عَلى الأخرى وذلك تجنبًا للاستبداد والسُّلطوية وسلطة الحاكم الواحد..

فبالنظـَر إلى المفكرين الإسلاميين، قلمَا نجدُ أصوَاتـًا جَهُورَة تنادِي بالفصل بَيْن السُلـَط وذلك لاعتِقـَادِهِم بأنَّ الإسلام دِينٌ لا يُفرِّقُ بين السلط، غيرَ أنَّ (طـَارق رَمَضَان) أحَد أبرَز المُفكـِّرين الإسلاميين في القرن الوَاحد والعِشرين، والذي صَنفتهُ مَجلـَّة (نيُويُورْك تايْمْز) على قائمَةِ مِائة مُفكر الأكثرَ تأثيرًا فِي العَالم، يُعَدُّ منْ بَين أشَدِّ المُفكرين والفلاسفة المُنـَادِين بالفَصْل بيْن السُلـَط في الدُّوَل ذاتِ الغـَالبيَّة الإسلاميَّة.

مِن المَعرُوف أن للدكتور (طارق رمضَان) أستـَاذ الدِّراسات الإسلامية المُعَاصِرَة بجَامعَة (أكسفورد)، مَجمُوعَة من المَوَاقِف الصَّائِبَة والقويَّـة، كمَا أنه خِلال العُقود الثلاث المَاضيَّة دَافع بشدَّةٍ عَن حُقـُوق مُسلمِي أورُوبَّا وعَن حُريَّة المَرأة المُسلمَة ضِدَّ العَلمَانيِّين المُتطرفِـين الذي يُشيطِنـُون الإسلام ويعتبرُونهُ ضد العَدَالـَة والمُسَاوَاة والحُريَّة الأوروبية.

وباعتبَاري أحَد المُتتبعين لخطاب (طارق رمضان) الدِيني المُنفتح والمُنسَجم مَع السياق التاريخِي الحَالي، قارئـًا لعَدد كَبير من كتبه، تبين لِي أن (طارق رَمَضان) يُدَافِع عَن الفصل بين السُلط في نموذج العلمَانِيّة الأوروبية ويقول في كتابه (قناعَتِي الشخصيَّة)

" بأن العَلمَانيَّة حينمَا لا تكون مُسَيَّسَة ومُوجَّهَة مِن طرف أيديولوجيَّات وأحزَابٍ سيَاسيَّّة ، فإنها طبعًا، تسَاهِم في صَون حُقـُوق الأفراد والمُجتمَعَات وتحمِي التعَدُّديَّة الدِّينيَّة والثقافيَّة وتصُونهَا".

ففي الدُّول الأوروبيَّة لا يَستعملُ (طارق رمضان) مَفهُوم فصل السُلط وإنمَا يَدعُو إلى تطبيق العَلمَانيَّة على قدم المُسَاوَاة مَع جميع الأفرَاد دُون تمييز ويُدَافع عنهَا، لأنه لا يَحتاجُ إلى استعمال مفهوم فصل السلط فِي بلدان قطعَتْ قرُونـًا من الفصَل بين السلطة الدينية والسلطة السياسِيَّة، كمَا أشَار إلى ذلك في كتاب (خطورَة الأفكـَار) وهو حِوَار فِكري رفقة عَالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسِي (إدكارْدْ مُورَان) حيث أكد على ضَرُورَة الفَصْل خاصَة بين السلطة السيَاسيَّة والسلطة الدِّينيَّة، وفِي المُقـَابل لا يستعملُ (طارق رَمَضان) مَفهُوم العَلمَانية في البلدان ذات الغالبية المُسلمَة للدفـَاع عَن مَبدأ الفصْل بَينَ السُلـَط، لأنهُ يَعِي تمامًا كمَا صَرَّح بذلكِ فِي إحدَى البرَامِج الحوَاريَّة، أنَّ الأمر يُثيرُ حسَاسيَّة الكثيرين لأنهم لم يُطيقـُـوا جَوهَر العلمَانيَّة، ولم يفهَمُوا مِنهَا غيرَ الشِق الرَّاديكـَالِي المُتطرِّف والمُسَيَّسْ الذِي يتهَجَّمُ عَلى الأديَان والمُعْتقدَات ولا يَعترفُ بهَا، وبالتالي فـ(طارق رمضان) يفضِّلُ مَفهُوم فصَل السُلـَط على استعمال مفهوم العلمانية في دُوَل المَشرق العَربي وشمَال إفريقيَا وغيرهَا مِن البُلدَان ذات الغالبيَّة المُسْلمَة.

فالمُفكر الإسلامي البَارز دَقيق في هَذِه المَسألة بالذات حتى من خلال ترجَمَةِ مُؤلفـَاته، ومنَ الجَدير بالذكر أن الإسلام خلافـًا لمَا يعتقدُ البَعض عَرف فترَاتٍ تاريخيَّة مِن الفَصْل بينَ الدِّين والسيَّاسَة وبين الدين والسُلطـَة حتى فِي حَيَاة (النبي صلى الله عليه وسلم).

ففي (غزوة بَدر) حِينمَا توجَّه النبي صلى الله عليه وسلم لمُلاقاة العدو، قام (الحبَّابْ بنِ المُنذر) كخـَبير عَسْكري وقال: يَا رسُول الله ! أرأيت هَذا المَنزل، أمنزلا أنزَلكهُ الله ليْسَ لنـَا أن نتقدمه ولا نتأخر عَنهُ، أي هَلْ هُوَ وَحيٌ مِن الله وأمرٌ مِن عِندِهِ حَيث لا مَجَالَ لمُناقشتِه أم هُو اجتهَادٌ مِن عِندِ رَسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مجيبًا الحباب، بَل هو الرَّأيُ والحرب والمكيدَة..فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم، في النهاية برَأي (الحباب بن المنذر)، مَا يُعَد مَشورَة، وفصْلا بَيْنَ الدِّين وأمور الدنيا والسيَاسَة والحَرب.

وفي مثال آخر يُبرز الفصْل بَين مَهَام النبي كخليفة دِيني وكقائد سيَاسِي، مَا حَدث في غزوَةِ أحُد حِين جَمَع النبي (ص) أصحَابَهُ لملاقاة المُشركِين، وكان رَأي النبي (ص) البَقاء في المدينة، إلا أن الكثير مِن الصَّحَابة خاصة الذينَ لم يَشهَدُوا بدرًا أشاروا بالخُرُوج للعدو، فما كان للنبي (ص) إلا أن انقاد لرَأيهـِم.

وإنَّ (أبَا بَكر) لمَّا تولـَّى الخلافة قالَ لهُ أبُو عُبيدَة: أنا أكفيكَ المَال، وقال عُمَر : أنا أكفيكَ القَضَاء، فتوزَّعَت الأعمَال والمَسؤُوليَّات على رجال مُختلفِـين.. مَا يُعَدُّ فصْلا للسُلط والمسؤوليَّات التي يَتفرَّدُ بهَا شَخصٌ وَاحِدٌ باسم النـَّسَبْ الشـَّريف فِي بَعض البُلدَان ذات الغـَالبيَّة المُسْلمَة.

وَفِي خِلافـَة (عُمر بين الخطاب) اتسع العَمل بمبدأ الفصل بَين السُلط، حتى أنه عَمد إلى الفصْل بَين أنوَاع الولايَاتِ بتعيين وُلاة متخصِّصِين في كل إقليم مِن الأقاليم، وعلى هَذا المِنوَال سَارَتْ الدَولتـَان الأمَويَّة والعبَّاسيَّة.

وفِي نفس السِّيَاق أشار الكاتب (نعمان السامُرَائي) في مقالة له مطولة حَوْل الفصْل بَين السُلط فِي الإسلام، إلى أنه من بين أهم السلط وهِيَ سُلطة التشريع الإسلامِي، التي كانت للنبي صلى الله عليه وسلم بوَحي من الله، لكنهُ بَعد أن انتقل إلى الرفيق الأعلى، حل مكانهُ الخـُلفـَاء الرَّاشدون، ولكن دون أن يَكون لهُم حَقُّ امتلاك سُلطَة التشريع، بَلْ فِي المُقـَابل رَاحَ العُلمَاء والفقهاء يَجتهدُونَ ويَسْتنبطـُون الأحكـَام وصَار للحَاكِم حَقُّ التنظِيم.

أما فِي مَا يَخصُّ سلطة القضاء فيرى (نعمان السامرائي) أنهَا كانت مُستقلة فقد سَجَّلَ التـَاريخُ أنَّ الخُلفـَاء كانـُوا يَحضُرُون بأنفسهم مجَلس القضاء الذي يكونون فيه طرفا في الدعوى، وأوَّلهُم (علي بن أبي طالب) حينَ ادَّعَى رضي الله عنهُ مِلكيَّة درع كانَ مَعَ يهودي، فحَضر القضاءَ مُدَّعيًا مِن أجله، وَحِينَ استشهَدَ على مِلكيَّـتهِ بابنه (الحَسن) رَفض القاضِي شَهَادة (الحَسَن) لوَالِدِه، وخسِرَ (الإمام عَلي) الدَّعوَى نظرًا لعَدَم وُجُود بَيِّــنة تشهدُ لـهُ.

ومنه فلا يمكن الحَديث عن دَولـَة دِيمقرَاطِيَّة أو دُستـُور دِيمقرَاطِي أو بالأحرى عن حَاكم ديمقرَاطي، دُونَ الحَديث عَن فصْل السُلـَط، باعتبَارهِ حجر الزاوية والعَمُود الفقري الذِي يَشدُّ صَرْحَ الديمقرَاطيَّة الحَقيقيَّة.

ففِي ظِلِّ تفرُّدِ الحَاكِم بجَميع السُلط، لا يُمكنُ أن نتكلمَ أبدًا عَن العَدْل والقِسْط والدِّيمقرَاطية.. لأنَّ الديمقراطية في الأصل نظام سياسِيٌّ مَبنيٌّ عَلى أسَاس الفصْل بَين السُلط، وهُو ما يُعد ضَرورَة جوهريَّة في بُلدَانِنـَا التي يُحتكـَرُ فِيهَا الدِّينُ باسم الدِّين.. ويُحتكـَرُ القـَضَاءُ باسم الدِّين والسيَاسَة باسم الدِّيــن..وشرعية الحَاكم باسم الدِّين.. فنجدُ أنفسَنـَا أمام شَعْبٍ ضَاعَتْ كرَامَتـُهُ وحُقـُوقهُ ومَطالبُهُ التِي يُنـَادِي بها باسم الدِّين، واغتيلت الدِّيمقراطية التِي طـَالمَا نادَى بها باسْم الدِّين أيضًا.. بَينما الدِّين الإسلامي ترَكَ المَسَائل السياسيَّة للاجتهَاد البشري، وفِي المُقـَابل أوصَى بالشورَى التِي هيَ نمُوذجٌ مِن نمَاذِج الديمقراطية التي تقوم على الفصل بين السُلـَط.

 

في المثقف اليوم