قضايا

حسن عبد الهادي اللامي: صياغة الخطاب وأثره في النهضة الحسينية

hasan abdulhadiallamiلا يخفى ما للأعلام من دور في اي حدث ينقله سواء كان على نحو التصعيد او التسقيط او الترويج او البيان .. ولذا اهتمت التيارات والحكومات بهذا الجانب اهتماما بالغا حتى عُد الاعلام سلطة اخرى تضاف الى باقي السلطات التي تحكم في البلاد .. وشخصية إسلامية لها ثقلها السياسي والاسلامي والنَسبي كالحسين بن علي لا يمكن ان نقرا نهضته قراءة سطحية ساذجة قائمة على عفوية اشخاصها دون تخطيط مسبق!

فـ(الحسين) ليس من اولئك الانفعاليون الذي تحركهم الاهواء وتجترهم المصالح فهو فرد متزن نفسيا ولديه مؤهلات وخبرة في ادارة الحياة فضلا عن انه يمتلك حصانة مؤَيدة بتأييد نص وحياني بإنه من اهل البيت الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا وثالث الاوصياء المستخلفين ، وسادس الحُكام الذين ينبغي ان يُبَايَع لهم - في نظر جماعة بيعة السقيفة التي تؤمن بشرعية الحُكّام المتقدمين (1). فهذه وغيرها تضع امام الباحث رؤية متكاملة عن وجود نهضة منظمة في كل حركتها وخططها ومن جملة تلك المهام التي خطط لها ابو الاحرار الحسين عليه السلام الحرب الاعلامية التي كانت قد أسعر فتيلها معاوية منذ ازمان طويلة حتى حقق من خلالها مكاسب كثيرة خدمته هو وابنه يزيد واخفقت اي تحرك اصلاحي قام به الامام علي وابنه الامام الحسن حتى آل الامر الى ابي عبد الله الحسين ليجد ان الغيوم السوداء كثيفة جدا امام رؤية نور الحقيقة الى درجة تم توظيف الشريعة ضده! فأتموه بانه باغي !!! وعملت الاقلام المأجورة واهل الكذب والتحريف من وضّاع الحديث عملا لازلنا ندفع ثمنه! كل ذلك يجعل قائد مثل ابي عبد الله الحسين لا يتعامل بعفوية مع تلك الطغمة الاموية الفاسدة الشيطانية .. فحدد مهام القادة بعد واقعة الطف إذا فشلت عسكريا بمقتله ورسم الخطة المناسبة لأقطابها فالخليفة الشرعي بعد ابيه هو الامام علي بن الحسين زين العابدين ، واخته الطاهرة العالمة زينب بنت علي ،هما قطبي ادارة تلك الحرب! حيث قاما بالدور الاعلامي المكثف بغية كشف الحقائق امام الأمّة وبيان اللبس والالتواء الذي كان يعبئ له اعلاميا جيش يزيد في استنهاض الشاميين ضد اهل العراق وضد نهضة الامام الحسين ... ، والذي يهمني هنا ليس هو استعراض ذلك الدور بكل احداثه! بل لنا وقفة منطلقها هو ذلك الدور الاعلامي وصياغات بيانه حيث اتسم الخطاب بطرح قضية نهضة الامام الحسين واهدافها والدوافع منها وفضح وكشف حقيقة يزيد وبني امية ، وابطال الشبهات التي بثها يزيد وجلاوزته في رسم صورة موهومة عن الثائر في المدينة ومكة والمتخذ العراق منطلق للنهضة على انه خارجي ... فما وصل الينا من اخبار واثار كالخُطب والمحاورات والاجراءات التي اتخذها الامام زين العابدين وعمته الطاهرة العالمة السيدة زينب خلال محنة الاسر ، تضمنت ارقى صياغة في الخطاب الاعلامي المؤثر الى درجة ان تأثيرها بلغ مبلغا ان ذكر ارباب السير [خشي يزيد أن يرحل من مقعده] وفي بعضها [خشي يزيد أن ينتفض أهل الشام عليه!] كما ترويه مصادر التاريخ..

فهي صياغة ارعبت السلطات وحَرّكتْ الراي العام الى درجة ان [ضج أهل الشام بالبكاء] حيث ارتفع اللبس عنهم وتيقنوا انهم كانوا في خدر يزيد وجلاوزته الى درجة ان افقدهم وعيهم عن تحري الامور ومعرفة الحقيقة من الدعوى ! وفي عصرنا عصر التواصل التكنولوجي والتقارب الثقافي كان لزاما ان تكون صياغة الخطاب لها نفس الفاعلية والتأثير و بنحو مواكب للثقافة المعاصرة! وخصوصا مع الاعلام الُمضلل ووسائله الملتوية في الطعن بالنهضة الحسينة بصورة غير مباشرة او حتى بصورة مباشرة . فالأعلام المُعادي يستهدف مظاهر الاحياء العاشورائي ومحاولة تجريده من شرعيته وجعله في ضمن الخُرافات والطقوس التي تستهدف تشويه الاسلام بل هي من البدع التي يستحق من يمارسها ان يطعن في دينه بل يُكّفر ويقام عليه الحدّ وهو نفس المنهج الذي مارسته السلطات إبان حكم يزيد حيث تم اشاعة فتوى مفادها ان الحسين خارج على امام زمانه وهو يريد شق عصا المسلمين فهو متمرد على نظام الدولة الاسلامية التي بناها الرسول محمد جده والخلفاء الراشدين !!! هذا مفاد الخطاب الاموي وهو خطاب مؤثر في اذهان ذوي التدين الساذج والذين يتأثرون باي رذاذ تخديري مطعم ببخور النصوص الشرعية ! ولو تأملنا بأولئك الذين كشف عنهم اللبس بخطابه الرائع الامام الحسين في يوم عاشوراء، لوجدنا ان الغيمة السوداء كثيفة اَمام نظر الشاميين فَعَسُرَ عليهم وعي الحقائق الحسينية ! ولكنها لم تكن بتلك الكثافة امام نظر الكوفيين! فأبصروا نور الحقيقة كالحر بن يزيد وغيره فتابوا واعانوا القائد المُصلِح ابي عبد الله سيد الشهداء حتى قتلوا في جبهته .. فالشاميون لم يتأثروا بصياغة الخطاب الحسيني إبان مرحلة اللقاء؟ ففي المعركة وعند مواجهة الامام الحسين وجيشه كانوا متخمين بالشحن الاموي وغسيل الدماغ والبرمجة التي مارسها وعّاظ السلاطين جعلهم لايعبؤن بما يقوله الامام الحسين بل ان كل اجراء اتخذه الامام الحسين من لبس عمامة جده النبي ومطالبتهم بأبن بنت نبي على وجه الارض غيره لم تؤثر فيهم؟ بينما ضجوا بالبكاء حينما خطب فيهم الامام زين العابدين وحدّثهم بحقيقة الامر ايام محنة الاسر بمحضر يزيد بن معاوية! وخشي حينها يزيد على نفسه! هكذا كانت قوة الخطاب وصياغته في القوة ان أزاحت الغيوم السوداء من امام المموه والمُلَبَس عليهم! .. للجانب الاعلامي في ايامنا من دور كبير في قناعات الناس مع مختلف وسائل الاعلام وتنوعه وما للصياغة من اثر عميق في توجيه الخطاب وتسويقه .. والمنبر له الدور الاكبر في الذهنية الشيعية لما له من عمق تاريخي واكب نهضة سيد الشهداء من لحظة ما بعد مقتله الى يومنا أي منذ ان وقفت (ابنت علي- زينب الكبرى -) لتطلق صرختها المدوية بوجه الطغمة الظالمة ونحتت على شريط الزمن مقولتها الشهيرة مُخاطبة رموز الضلالة والفساد: {فوالله لا تمحو ذِكْرنا} لتبقى ابد الحياة تعطي زخما لمنبر الهدى .. وكذلك تلك الخطبة التي انارت القلوب والعقول للأمام زين العابدين هي لحظة تاريخية جعلت للشيعة والسائرين في طريق الحرية والكرامة منطلقا لاتخاذ المنبر وسيلة فعّالة لتوجيه الجماهير وادارة الراي وبيان الامور .. حتى تشرّف المنبر بان ألصق اسم سيد شباب اهل الجنة به فصار المنبر الحُسيني .. وصياغة الخطاب ينبغي ان لا ترتكز على عنصر العاطفة والبكاء والاهتمام باستدرار الدمع فهذا اللون ينبغي ان يكون من جملة القالب العام لِلُغةَ الخطاب وصياغته لا ان يكون محور الخطاب المنبري ! كما يفعله الكثير من خطبائنا – اعزهم الله تعالى - فالتركيز على البعد العاطفي كمنهج في صياغة الخطاب لا يخلو من قراءة ناقصة تنتج مُتلقي انفعالي فقط! تجده ينفعل لقضية سيد الشهداء على مستوى المظاهر والممارسات الاحيائية (الشعائر الحسينية) ولكنه لا يحرك ساكن امام انتهاك الاهداف التي نهض من اجلها سيد الشهداء؟ يهتم الفرد المتلقي (بسبب صياغات الخطاب المنبري العاطفية) بالأدماء – التطبير مثلا - في نهار عاشوراء كممارسة يعتبرها تعبيرا عن احياء يوم عاشوراء ولكنه لا يهتم في باقي ايامه بلزوم ان يضحي في سبيل اقامة حكومة اسلامية بقوانين حسينية ! هذا اللا انسجام لو صح التعبير هو غير مقصود من حيثية الدوافع في اغلب الاحيان لان الواقعين فيه هم ضحية الخطاب وصياغاته وليس عن سوء نية! فالخطيب الحسيني اذا حوّل المنبر الى مغناطيس يجذب المشاعر والعواطف فقط لتصعيد حالة الحزن لِيُوجد رابط بين (الامام الحسين والبكاء) من خلال تركيز صيغة الخطاب بنحو يستدر الدموع على الشخص الفقيد، فان هذا سيزول من ذاكرة الفرد بمجرد زوال الاجواء والايام العاشورائية! فهو بكى على شخص الامام الحسين لانه مقطع بالسيوف وأظمئه العطش هو وعائلته! ولكن لم يبكِ على فوات فرصة كبرى وقيمة عظمى مثل الامام الحسين كقائد وحاكم جاء يحمل العدل في كف ويحمل الرحمة في الاخر؟ لم يبكي على الحسين كقيمة معنوية لا تتلاشى في مظاهرها التي ينبغي ان يجسدها الحسيني بكرة وعشية! بل راح يبكي على (الحسين) كإنسان وشخص آلمته جراح السيوف وطعنات الرماح وذبح ابنائه واهله ؟ بدل ان تكون لغة الخطاب وصياغته تثير الوعي وتحرك العواطف والمشاعر على فوات فرص البناء والتكامل! فماذا تكون لغة الخطاب؟، التركيز على إثارة عاطفة المتلقي بعرض صور مؤلمة لمعاناة الامام الحسين واسرته واصحابه! لو كان الحسين واصحابه همهم انفسهم لما صمدوا الى اخر قطرة بل كان همهم إعزاز الدين ورفع راية العدل والهدى على راية الظلم والفساد! فهم لا يعبئون باي جمع او غدر او خيانة لانهم تيقنوا ان الحياة بدون قيم هي حياة مستحيلة (لا ارى الموت الا سعادة والحياة مع الظالمين برما) فأي سعادة يراها الامام الحسين في الموت؟ هي سعادة جزاء نصرة الحق كقيمة عليا ما دامت الحياة الزائفة تدار من قبل الظالمين! فصيغة الخطاب ينبغي ان تعطي زخما تفاؤليا في إثارة العزائم لبناء الحياة بناءاً مُبتني على اسس واهداف نهضة الامام الحسين (عليه السلام) .. الصياغة ينبغي ان تأخذ مضامينها من رسالية صاحب النهضة ومشروعه كتجربة خاضها إنسان تحمل مسؤولياته لبناء الحياة ولكنه لم يكن يجد الارض خضراء ومفترشة بالورد أمامه! بل وجد الأسنة والسيوف تقف بوجه مشروعه الاصلاحي، فبينا هو يقدّم لهم مناهج الحياة الكريمة ُهم يجيبوه بوابل من السهام والرماح!!! فغدوا حيارى لا يرون لوعظه *** إلا الأسنة والسهام جوابا علينا ان نهتم بصياغة الخطاب الحسيني بنحو يثير الوعي ويجعل دموعنا تقطر على الحسين كمنهج ورسالة فقدتها الامّة فلو قُدِر لها ان تمسك زمام ادارة الحياة لتحولت الى دار سعادة لأنها بيد سيد شباب اهل الجنة ، فلنسعى لتحقيق اهدافه بوعي وتصميم حقيقي ونمزج دموعنا بإنجازاتنا في بناء الحياة الكريمة ...

 

حسن عبد الهادي اللامي - كربلاء المنورة

 

في المثقف اليوم