قضايا

صالح الطائي: الحياة تبنى بالحب لا بالكراهية

saleh altaeiالتأويل إجازة منحها المتأولون بعضهم إلى البعض الآخر، فقبل كل منهما رأي الآخر، لكي يقبل رأيه، وإلا فالمتأول يعطي رأيا، والرأي قد يكون صحيحا وقد يكون خطأ، وحتى إذا ما كان صحيحا قد يؤسس لمشروع شر فيَحرُم فعله، وهو أولا وأخرا وليد عقل الإنسان والإنسان خطاء، وبالتالي لا يمكن الجزم بأن الحياة تقوم على رأي العالم الفلاني أو الإمام العلاني، إذ يكفي أن بعض تلك التأويلات كانت أول لبنة وضعت في أول أساس هيكل عقيدة التكفير، وأقصد بذلك تكفير المسلم للمسلم، فهذا أشد وأخطر من تكفير الآخر غير المسلم، لأنه كان السبب الأول في الانشقاقات التي أصابت الإسلام.

ومن يتابع جذور التأويل في المجتمع الإسلامي الأول يجد أن طبقة السياسيين الطامحين للسلطة وحدهم كانوا يتعاملون به ومعه مهنيا، وأن أتباعهم ومريديهم والمستفيدين منهم هم الذين نشروه بين الناس بعد أن شرعنه لهم وعاظ السلاطين، وأنه في مرحلة الانتشار تحول إلى مشروع تسقيط بين تلك الفرق، بعد أن خدعهم شيوخهم بمشروعية وسم واتهام المسلم الآخر به، استنباطا من أحاديث وروايات أقرب إلى الكذب منها إلى الصدق، أو انها قيلت في مناسبة خاصة لظرف خاص محدود لا تتجاوزه، وفي تراثنا الديني عشرات بل مئات الروايات الدالة على ذلك والحاثة عليه والمجيزة له.

النكاية الكبيرة أن هناك بعض الإفتائيين تركوا البحث عما يصلح الأمة، وانشغلوا بالبحث عما يعلمها تكفير الآخر؛ الذي تختلف معه في الرأي والعقيدة، بحيث يتحول التطاول إلى حسنة يثاب عليها المرء بدل أن يلام ويُعنَّف، ومن هؤلاء الشيخ السلفي ناصر بن حمد الفهد؛ الذي وضع كتابا بعنوان (مشروعية الإغلاظ على الروافض)، فأتعب نفسه وأجهدها لجمع روايات يقيس عليها، ليستنتج من خلالها جواز إغلاظ المسلم على المسلم الآخر بالقول، ومما جاء في الكتاب على سبيل المثال:

قال ابن القيم في الزاد: إن الرجل إذا نسب المسلم إلى النفاق والكفر متأولا وغضبا لله ورسوله ودينه لا لَهواه وحظه، فإنه لا يكفر بذلك، بل لا يأثم به، بل يثاب على نيته وقصده.

وهنا أجاز الشيخ السلفي الوهابي الإغلاظ بالقول على المسلم الآخر بدليل استقاه مما جاء في الروايات، فدليله على صحة هذا الحكم المجحف القاسي قوله: وما ثبت في الصحيح من قول أسيد بن الحضيْر لسعد بن عبادة (رضي الله عنهما) عندما أخذت سعد الحمية لعبد الله بن أبي: إنك منافق تجادل عن المنافقين!.

وفي الصحيح أن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) قال: قال رسول الله (ص): لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها، فقال بلال بن عبد الله، وهو من الصالحين الثقات: والله لنمنعهن. فأقبل عليه عبد الله، فسبه سبا سيئا ما سمعته سبه مثله قط، وقال: أخبرك عن رسول الله وتقول والله لنمنعهن.

والنكتة السمجة أن تجد من يحول هذا العنف القولي إلى قاعدة شرعية تبنى عليها أحكام مصيرية كما في قول النووي عن هذا الحديث: وفيه تعزير المعترض على السنة. أي جواز تعزير المعترض على السنة. وعن خرزاذ العابد قال: حدث أبو معاوية الرشيد بحديث احتج آدم وموسى، فقال رجل شريف: فأين لقي آم موسى؟ فغضب الرشيد، وقال: النطع والسيف زنديق يطعن في الحديث. فما زال أبو معاوية يسكنه ويقول بادرة منه يا أمير المؤمنين حتى سكن.

وهي دعوات لتجميد العقل، والقبول بكل ما جاء عن السلف دون أي محاولة لامتحانه وفحصه وتمحيصه. وهو نفس تجده في كثير من الروايات التي اعتمدها الشيخ ناصر بن فهد ليجيز من خلالها التطاول على المسلم الآخر دون تحديد، ومما رواه وأكد عليه:

جاء في السنة أن عبادة بن الصامت غزا مع معاوية أرض الروم، فنظر إلى الناس وهم يتبايعون كسر الذهب بالدنانيْر وكسر الفضة بالدراهم، فقال: يا أيها الناس، إنكم تأكلون الربا؛ سمعت رسول الله (ص) يقول: لا تبتاعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بِمثل لا زيادة بينهما ولا نظرة. فقال له معاوية بن أبي سفيان: يا أبا الوليد، لا أرى الربا في هذا إلا ما كان من نظرة. فقال عبادة: أحدثك عن رسول الله وتحدثني عن رأيك، لئن أخرجني الله لا أساكنك بأرض لك علي فيها إمرة، وفي رواية: لا يظلني وإياك سقف أبدا.

وفيها عن ابن عباس قال: تمتع النبي (ص) يعني في الحج، فقال عروة بن الزبير: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة. فقال ابن عباس: ما يقول عرية؟ (تصغير عروة) قال: يقول: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة. فقال ابن عباس: أراهم سيهلكون، أقول قال رسول الله، ويقول نهى أبو بكر وعمر.

 

وروى اللالكائي وغيْره عن عبد الله عن نافع قال: جاء رجل إلى ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن، الزنا بقدر؟ قال: نعم. قال: قدره الله عليّ، ثم يعذبني! قال: نعم، يا ابن اللخناء، لو كان عندي إنسان لأمرته أن يجأ بأنفك.

وفي سنن الدارقطني عن إسحاق بن سليمان الرازي قال: قلت لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله، كم وزن صاع النبي؟ قال: خمسة أرطال وثلث بالعراقي، أنا حزرته. قلت: يا أبا عبد الله، خالفت شيخ القوم. قال: من هو؟ قلت: فلان يقول: ثمانية أرطال. قال: فغضب غضبا شديد ا، وقال: قاتله الله، ما أجرأه على الله!

وفي السنة لعبد الله بن أحمد: عن ابن المبارك أنه سأله رجل عن مسألة، فحدثه فيها بحديث عن النبي. فقال الرجل: قال فلان بخلاف هذا. فغضب ابن المبارك غضبا شديدا وقال: أروي لك عن رسول الله، وتأتيني برأي رجل يرد الحديث، لا حدثتكم اليوم بحديث. وقام.

وفي السنة لعبد الله لما قيل للإمام أحمد عن قول الكرابيسي في القرآن قال: كذب هتكه الله الخبيث، ولما قيل لأبي ثور عن قول الكرابيسي تكلم فيه بكلام سوءٍ رديء.

وبوب اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة بابا سماه أخبار الجعد بن درهم لعنه الله، ولعن المريسي والجهم وغيْهم.

وقال الإمام أحمد في رسالته في السنة، وقد ذكرها القاضي أبو يعلى في طبقات الحنابلة في ترجمة الاصطخري: فمن سب أصحاب رسول الله، أو أحدا منهم أو تنقصه أو طعن عليهم أو عرض بعيبهم أو عاب أحدا منهم فهو، مبتدع، رافضي، خبيث، مخالف، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا.

وفي السنة لعبد الله بن أحمد: قال الإمام أحمد: إذا رأيت أحدا يذكر أصحاب النبي (ص) بسوء فاتهمه على الإسلام.

وفي ترجمة عمرو بن الوليد في لسان الميزان قال الحسين بن الوليد: خاطبت عمرو بن الوليد: أتجيز شهادة من يشتم الصحابة؟ فقال: أنظر قبل هو مؤمن حتى أجيز شهادته؟!

وهكذا بنيت منظومة فقهية منحرفة عدوانية، تجيز للمسلم التطاول على المسلم الآخر، بل تحثه على ذلك بما تغريه به من فضل زائف، فأسهمت في زرع الفتنة والشقاق والبغضاء والقطيعة والتنافر بينهما، في وقت نحن أحوج ما نكون لأن نبحث للمسلم عما يرقق قلبه على أخيه المسلم، بل وعلى غير المسلم أيضا، فالحياة لا تبنى إلا بالحب والقبول بالآخر، بينما لا تورث الكراهية سوى الحقد والحرب.

 

في المثقف اليوم