قضايا

رحيم الساعدي: الحسين بين العاطفة والعقل

raheem alsaidiيدور جدل حول قضية الحسين العاطفة أم الحسين العقل، فالجانب الذي يرجح الفكر يؤمن بان العقل هو الصورة المثالية التي يمكن من خلالها تمثيل القضية الحسينية تمثيلا عقلانيا يؤدي الى بناء الإنسان والمجتمع والحضارة، ويعتقد هؤلاء - وكثير منهم يمتلك فهما جميلا بالرغم من جانبه الانتقائي – ان هذه العاطفة هي المسؤول الأول أو احد المسؤولين عن تراجع المذهب الشيعي أو العراق بالركب الحضاري، فالشعائر التي تقام في كل سنة فيها من تبديد الزمن الشيء الكثير ومن الشعائر من يتخذ طرفا حادا يقوم بخلق فهما نفسيا متطرفا لدى الناس او المجتمع، بالإضافة الى الضوضاء (النفسية والإعلامية والاجتماعية والطقوسية ...الخ) والتي كان يمكن ان تقنن لان الوطن بحاجة الى تكثيف الجهود للبناء والتطور .

وبحكم تصوري لمفهوم فلسفة التاريخ ولطبيعة النفس البشرية،يمكن القول انه لا يمكننا الاكتفاء بالنسبة الى القضية الحسينية بالجانب العقلاني دون ثنائية العقل والعاطفة او التنظير والتطبيق او التفكير والاستشعار . وقد يتوافق مع فكرة الفيلسوف كانت التي تربط بين العقل والتجربة بالقول إن المقولات العقلية جوفاء بدون التجربة، كما أن هذه التجربة عمياء من دون العقل .

على انه يمكن القول ان العاطفة هي الأكثر بروزا وتقدما فيما يخص المثال الأخلاقي او الإنساني او التاريخي، فالقاعدة الأساسية الخاصة بعلم الاجتماع انما تعنى بتجمع وتفرق الناس في الحضارات والمجتمعات التي انهارت وهي تخص جانب كل من المحبة والكراهية او بتعبير الإمام علي انما يجمع الناس الرضا والغضب، أي المحبة والكراهية وهي ذات الكلمة التي كانت عند الفيلسوف اليوناني انبذوقلس (المحبة والكراهية) التي تجمع الأشياء وتقوم بتطبيقها وقد عممها انبذوقلس على النفس والطبيعة الإنسانية. حتى ان بعض المشاعر يمكن ان نعدها محركا للتاريخ، وبجدية كبيرة فان المحبة هي أعلى سلم معرفي يصل إليه مخلوق وقد ناله الرسول الكريم بكونه حبيب الله وهي صفة روحانية عليا صورتها الظاهرة العقل وباطنها العميق هو اللذة العليا أو السعادة المطلقة .

هنا يمكن القول انه لماذا تبرز العاطفة أو المحبة مع قضية الإمام الحسين التي لا يمكن إخضاعها الى الحالات أو السلوكيات الاجتماعية السوية بالمقارنة مع ملايين الحالات التي مرت علينا في التاريخ من استئصال الأفراد الأبطال أو المثاليين أو استئصال العائلة أو التطهير العرقي ...الخ، لماذا توصف بكونها المشرط الذي يميز بين محبة ومحبة وبين ملة وملة، هو بالتأكيد ليس مجرد الاستمرار الإعلاني أو الإعلامي الذي يساعد على ديمومة قضية ما، وصورة انتشار العقائد يصفها غوستاف لوبون المفكر الفرنسي وخبير فلسفة التاريخ والاجتماع بان ديموتها تكون بالتكرار والإعلام وان الزمن هو من يطبخ آراء وعقائد الجماهير على ناره البطيئة .

وبالعودة الى العاطفة أو المحبة التي تتعلق بالإمام الحسين فهي كما افهم المقياس الأهم اليوم وبالأمس وغدا للقضية الحسينية فهي ليست مقياس جميع الأشياء إذا أردنا ان نربطها بالتصور السفسطائي، لكنها الأكثر نقاء وصمودا على مر تاريخ ال1400 سنة ونيف .وصمودها بالرغم من عشوائية العاطفة أحيانا انه بالرغم من ضعف خاصرة العاطفة إلا انها تفوقت على العقل بملاصقتها لقضية الإمام الحسين لتحيل العقل الى مرتبة دونها ومقياس نجاحها بالتأكيد تمثل بكونها تعطي الزخم الأهم لقوة القضية الحسينية على الإطلاق، وما جدال بعض الأحبة اليوم من إقحام العقل ليكون شيخ مشايخ قضية الإمام الحسين إلا احد أدلة أن العقل أحيانا أو التفكير الإنساني يحاول ان يتدخل بنبت القضية الحسينية التي تنمو بالعناية الإلهية، فيحاول الآخرون تقنينه وتاطيره بالفكر الباذخ جدا وبقوانين جديدة ومحددات ونواهي وأمزجة وآراء يضنون انها الأفضل .. وهي تشابه قضية محمد اركون في الجانب الانسني من فكره فهو يريد اطفاء تفاصيل المقدس .

ان الحسين الشهيد وهو مقياس جميع المحبات (بالأمس واليوم) يقسم الناس الى قسمين كما هو حال أبيه (وربما قسم أيضا بقية الرجال الناس الى قسمين منهم المحب والكاره له) وهو عليه السلام على هذا النحو يحيلنا الى أداة حادة جدا هي المحبة والكراهية وقديما قال أمير المؤمنين على سلوا القلوب عن المودات فإنها شواهد لا تعرف الرشا، ان هذه الأداة الحادة جدا لا تخدع فا ما ان تحب أو تكره . ومع الحسين بن علي تختلف الـ (اما ان تحب أو تكره) فهو ليس نوع من أنواع الأكلات التي لديك حساسية منها، إنما الحسين بن علي الشهيد المفجوع بأهله يمثل الجانب العميق للدين الإسلامي، فالعاطفة أو المحبة مع الحسين تعني المحبة المجردة لذاتها من دون غاية .

هذه القاعدة الأولى التي عرفناها عن المحبة وهي تكشف عن نصاعتها وعدم التفافها وجديتها واستنادها على قاعدة عامة (اما ان تحب الحسين أو لا) والآن قولوا لنا الم يقل الإمام علي ومن بعده الفلاسفة ان العقل قد يغشه من استنصحه (وقصد بها الحواس) الم يخطا العقل بتقديراته على مر التاريخ، لو لم يكن هذا اذا من أين قدمت لنا الأخطاء، هم يقولون ان العاطفة لا قيمة لها اليوم ( لان فيها الكثير من العويل وجلد الذات والإسراف وأذى النفس وتضييع الجهد والزمان وتضييع فرص اللحاق بركب الحضارة وبناء الذات ....الخ)، مع ان منتقدي هذه القضية يجلدون ذواتهم بطرق أخرى كثيرة منها على سبيل المثال (عبادة الأنا، شرب الخمر، الانقياد خلف الجنس من دون إرادة، الترفع والتكبر،جلد الذات بالإدمان الالكتروني ...وكثيرة هي الشواهد وقاعدتها ان كان أراد احدهم الاستفادة من القاعدة (هو انها تترك لذة لدى فاعلها) .

وقد نصفها بأنها من مسائل العقل الذي يقيس وفق رغباته وتوجهات (العقل الجمعي الدوغمائي المثقف) الذي يعتقد بان تلك القضية (العاطفة أولا) خاطئة تماما، وانه يجب ان يزيحها بشتى الطرق من وجودها الاجتماعي من بين الناس (وهو ليس إلا عملية الضغط على العقل لتقديم تصور جديد ومفيد يحفظ للعقل كرامته التي تتوقف في موسم الفجيعة ولا اعد هذا إلا ردة فعل نحو حدث استمر لما يقارب ال15 قرن من قبل العقل المغلوب على أمره، وانا هنا أتحدث عن عقل جمعي لا عن فرد، فالعقل العام لم يجد التفسيرات لبقاء القضية الحسينية بهذا الزخم من الحضور وهو يستحي من القول انها العاطفة التي غلبته، فالعقل غالبا يرى نفسه شيئا كبيرا مهما، ولهذا فان العقل الجمعي يحيل المسالة الى نوع من الجهل لدى العامة من الناس وان هؤلاء مخطئون فهم يتركون المهم وينشغلون بالطقس .

ولأجعل المفردة مغلفة بالدقة أقول ان (العاطفة الجمعية) بلغت من الأهمية وتقدمت على الجانب العقلي في قضية الإمام الحسين لأنها محض فعل خال من النفع (فلا نفع مادي من وراء الحسين ابن علي (ع) والتاريخ يعطينا مصاديق الأذى في محبته) اما العقل فقد قاد البائسين الى ان يأخذوا المدن والمادة أو المنصب من اجل قتل الجمال والسلام والمحبة وقتل أيقونه الهدوء الروحي وقتل احد اكبر مفكري ومنظري المحبة الإلهية.

وعندما أقول انها عاطفة غير مادية فذلك يعني ان ممارستها تمثل ما يشبه النوع من اللذة وانها تستند على القرب من رجل ظلم وأهله ومات عطشانا بفاجعة و لم يروي لنا التاريخ ما يماثلها .

وإذا أخذنا بنص الرسول الأعظم من ان لولدي الحسين حرارة في قلوب المؤمنين سوف ندرك بان لا معنى للفهم العقلي ببقاء تلك (الحضارة العاطفية) على مر التاريخ بذلك الأفق الروحي وتلك التفاصيل البسيطة التي ترافقها من أعمال الناس السلوكية .

ان العاطفة أولا أيضا لان الحسين بن علي هو رائد المنهج (المحباتي) أو المحبة الإلهية والتي تلتصق بشخصيته المغرقة بالمحبة والرحمة . ولكن هل يمكننا رمي العقل خارجا ...بالتأكيد كلا، ولكني أردت التوضيح ان العاطفة هي الأكثر ثباتا في هذا الموقف دون سواه، وبنظرة (تاريخ فلسفية) سنلاحظ ان بقايا الحفاظ على نواة المحبة الحسينية أو الفكر الشيعي إنما اعتمد على العاطفة أولا ثم العقل ثانيا في بقايا الفكر الشيعي في الحجاز ودول الخليج وتراجع في مصر لانخفاض منسوب الطقوس هناك ولكن الطقس الحسيني في العراق ولاستمراره واقصد بذلك الشعائر الحسينية (كلها من دون استثناء عدى ما نسبته 10% منها) قاد الى انتشار هذه القضية لدى الناس والتي تنخفض أحيانا على مر التاريخ بفعل انخفاض طقوسها، اما العقل فنراه يصمت أو يتراجع أو يخاف (إذا كنا نقصد بالعقل مجموعة المفكرين أو التنظير أو إدارة القضية وسوى ذلك) .

إن الغرائز هي من قتل الحسين بن علي والعاطفة هي من تحيي اليوم أمره، وتقنين ذلك لا عندما نشذب بعض الخروقات لا يعني ان نستأصل العاطفة ونحملها الأخطاء التاريخية التي سببتها العقول الخائفة أو التي خدعت أو أغريت بالمال أو انقادت ببساطة للسير في ركب الظلم والظالم أو تهاونت عن نصرة الحق أو قرأت الأحداث قراءة خاطئة أو تصورت ان ما تفعله هو الحق وكل هذه نماذج في كل وقت وان لا يخلو منها عصر أو زمن .

هذه خواطر عامة حول موضوعة العاطفة والعقل تخص من لديهم مقارنة بين الاثنين في القضية الحسينية ولا يفسد الحديث هنا الود بالتأكيد، أما الذين لا شان لهم بالقضية برمتها فهي لا تعنيهم، مع اننا نتحدث في الجانب الفكري لا غير .

 

 

في المثقف اليوم