قضايا

رشيد العالم: أوجه الخلاف بين العلم والدين

rasheed alalimالمَعرفة سِرُّ الوُجُود وجَوهر الكائنات والأشياء وكل مَا في الوجود إلا وينطوي على مَعرفة ظاهرَة وأخرَى بَاطنة، وغـَاية المَعرفة أن يرَى المَرءُ في الكون والطبيعة وعَناصِر الوُجود دليلا على وُجُود الله، قال تعالى:

(سَنريهم آيَاتنـَا فِي الآفاق وفي أنفسِهم حَتى يَتبيَّنَ لهُم أنه الحَق) (فصلت/53).

ففي هَذه الآية وغيرها حَثَّ الله الإنسان على التدبر فِي خلقِهِ  وصَنائعِهِ وإعجَاز كونـِه، للوُصُول إلى مَعنى الحَياة والوُجُود، ومَعنى العُبُوديــة علاوة على إدرَاك المقصد الأسمَى مِن خلق السماوات والأرض فالله لم يَخلق الكون عبثــًا أو تسلية أو لهوًا، قال تعالى: (وما خلقنا السموات والأرض إلا بالحَق)، أي أنَّ الله سخر هذا الكون ليَعمَلَ الإنسَان ويرتقي بعِلمِه وأخلاقِهِ إلى الله سُبحانه وتعالى، ولذلك كان العِلمُ وسِيلة لمَعرفةِ الله، فإيمَان مَن عرف الله عبر آياتِهِ الكونيَّــة ليس كمن عرف الله عَبر طقوس تعبديَّة تجريديَّة.   

 فالعلوم مَراتب ودرجَات و(أبو حَامد الغزالي) قسم العلوم في مصنفه (إحياء علوم الدين) إلى قسمَيْن أسَاسِيَّين:

العلم النــافع: وهو العلم بالله وسُنتِه في خلقه وحكمته في ترتيب الآخرة على الدنيا فهو عند الغزالي مطلوب لذاته وضروري للتوصل به إلى سعادة الآخرَة.

العلم الضَار: وهو العلم الذي لا ترجى منفعته ولا يَستجلبُ غَير الضرر للإنسان في دينه ودنيَاي مثل السِّحر والشَّـعوذة وغيرها من علوم صِناعَة القتل والدَّمَار.. وهُو علمٌ مَنبُوذ على الإنسان أن لا يَطلبَهُ وأن يتجنبهُ مَا أمكن.

فمهما ارتقى المَرءُ فِي سُلم المَعرفةِ ظلَّ مُفتقرًا إلى الجَانِب الأهم الذي يُمثلُ أسَاس المَعرفة العلميَّة بشقيهَا التجريبي والنظـَري وهِيَ المَعرفة الإلهيّة التِي تجعلُ من المَعَارف الدنيوية دليلا إلى الله ومُوجهًا إلى عَظمتهِ وعَليَاءِه وأنواره، فعلمَاء العَصر الحديث على عَطائهم المَديد وزخمِهم الفريد ونبوغهمُ الفـَـذ ونظريَّاتِهم العلميَّة العَميقة والمُعقدة وقعُوا في شِبَاك المَعرفة الظـَّاهريَّة التي أسمَاها مؤسس الفلسفة السفسطائية، الفيلسوف اليوناني (بروتاغورس) الذي عاش في القرن الخَامس قبل الميلاد، بالمعرفة النسبية لأنها قائمة في نظره على الحَواس المُجرَّدة. فقيُـود المعرفة النسبية التِي تحصرُ العُلوم والأنظمَة والقـَـوَانين والأسباب فِي قوَالب جَامدة ومُسبِّبَات مَحدودة أدت إلى بُرُوز تيَّــار مِن علماء معاصرين من أمثال (ستيفن هوكينز) (رتشارد فينمان)، (سكموند فرويد)، (ستيفن وينبر)، (دافيد سوكوزي).. ينكرون البُعد الرُّوحِي والبعد الأخلاقي للعلم، كما يَجحدُون الله ولا يَعتبرونه مَصدرًا مِن مَصَادر المَعرفة ومهندسا كاملا خلق الأسباب وجَعل لهَا مُسبِّبَاتهَا، لأن جلَّ عُلومهُم بُنيت على قواعِدَ صَارمَة وعلى مَنهَج عِلمي أساسُهُ (المُلاحظة، الفرَضيّة، التجربة الاستنتاج).

 فتعلقهُم بالإلهيَّاتِ أو الميتافيزيقــَا أو ما ورَاء الطبيعة أو الدِّيــن أو الوَحي..وغير ذلك من الغيبيَّات الدِّينيَّــة سَيُؤدي إلى إعَاقة البَحث وتشويش النتائِــج مَا يؤدي إلى نِسبَة العَجز عَن فهم الظوَاهِر الكونيَّة والطبيعية إلى الله وهُوَ مَا لا يعترفُ به المَنهَج العِلمِي الحَديث.

يُمكن أن نقـُول بأنَّ هَذا الترَاكـُم العِلمِي المُثير والنـَّفيس هُو تراث حَضَاري وإنسَانِي يُعدُّ مِن أهَم مَا توصَّل إليه العَقـلُ البَشري منذ فجر التاريخ، غيرَ أنهُ حَبيس المَعرفة الظـَّاهريَّة/ النسبية التِي لا تتعدَى الشَّيء إلى حَقيقتِه وأصلِهِ وعِلة وُجُودِه.

وعلى هذا الأسَاس توفق بَعض العلماء في العلم التجريدي لكنهم فشلوا في أن يكونوا فلاسفة لأن الفلسفة فِي جَوهرهَا تتعَدَّى المَنهَجَ العِلميَّ إلى مَوَاضِيع لا تطيقهَا النظريَّات العِلميَّة نفسهَا، ولذلك وجهت لـ(ستيفن هوكينز) العديد من الانتقادات حِينمَا حَاول أن يَتفلسَف في بعض كتبُهِ مِثل (تاريخ موجز للزمن) أو (الثقوب السوداء) لأنه لم يَتحَرَّر من قيْد المنهج والمُعَادلات الفيزيائية إلى رحَابَة الفلسفة التي تسَاءلُ حتى الثواني الأولى التي سَبقت زمن الانفجار الكوني.

أما بالنسبة للمَعرفـَة البَاطنيَّة الدينيّة التي تعد أصل الإشكال القائم بَيْن العلم والدين، فهي تكمن من وَرَاء المَعرفة العِلميّة، فهـِي لا تقود إلى نظريَّاتٍ ومُعَادلاتٍ وإنما تربط الدِّين بالعلم عبر البُعد الأخلاقي والروحي، فالمَعرفة شقـَّان شقٌ إلهي وشق إنسَاني، فالأولى لا تحتاج إلى الثانية بينما الثانية تظلُّ مُحتاجَة مهمَا ارتقت وعَلت وعَظـُمَت إلى الأولى، ولذلك كانَ جَواب بَابا الفاتكان (جَان بُول الثـَّـاني) واضحًا حينمَا استقبل العالم الفيزيَائِي الشـَّهير (ستيفن هوكنز) فقالَ لهُ: إذا كانَ مَا بَعد الانفجَار العَظيم لك فإنّ مَا يَسبق الانفجار العَظِيم سيظلُّ لنـَا، وتعد هَذِه المُحَاورة الفلسفية القصِيرَة نقطة هَامَّة فِي الخِلاف بَين الدين والعلم ومُنعطفـًا يَجعلُ مِنهُمَا شِقـَّان مُتنافرَان لا مُنسَجمَان.

وبناء على هذا الإشكال  ظلَّ عُلمَاء الدين وعُلمَاء الطبيعة في خلاف جَذري دائِم، وذلك بسَبب عَدم فهم بَعضِهمَا لجَوهر مَعرفة الآخر، فالفقهاء فسَّرُوا الدين عَلى امتداد التاريخ بأنه مُجافٍ للعلم والمَنطق وأن لا دخل له إلا في ما هُوَ رُوحَانِي وإلهي خالص، بَينما الدِّين والأخلاق يَجب أن يكـُونا مُوَجِّهين للعلم، لأن العلم الحديث انفلتَ مِن عُقـَال الإنسان فصَار يَقـُود الإنسَان إلى مَتاهَاتٍ مُتعددَةٍ تضُرُّ الإنسان أكثر مما تخدمُه بل إنه بفضل بَعض العُلوم فقد الإنسان إنسَانيَّــته وفقد غايته من الوجود.

وبالتالي وَجب تدخل الدِّين ليَضبط العِلم أخلاقيـًا لا ليُقيِّدَهُ، فالعلم لا يقيدُ بل يُضبَط، ليكون خادمًا للإنسَان لا قاتلا للإنسان وللبشريّة، ووجب على عُلمَاء الدِّين وعلماء الطبيعَة أيضا أن يجلسُوا معًا ويتوافقـُوا عَلى أن جَوهَر العِلم وجَوهَر الدِّين واحدُ رغم اختلاف طبيعتهمَا، فإذا كانت غَاية العِلم (المَعرفة) فإن غاية الدِّين (الأخـْلاق)،  وبدونهما لا يمكن بلوغ المقصد الأسمَى من الوُجود وهُوَ خدمة الإنسانية وَصَوْنهَا وتعليمُهَا والرُّقي بهَا سَواء على المستوى المَادِّي أو العلمِي أو الرُّوحي.

 

في المثقف اليوم