قضايا

عبد الحسين شعبان: الأزمة العراقية الراهنة.. مستقبل الدولة والسيناريوهات المحتملة (2-2)

abdulhusan shaabanثالثاً: من برسي كوكس – مس بيل، إلى بريمر – زلماي خليل زاده، نغروبونتي

أما الدولة بعد الاحتلال الأمريكي وبموجب صيغة بول بريمر- زلماي خليل زاده نغروبونتي، فإنها توزّعت على ثلاث كيانيات سمّيت مكوّنات، هي الشيعة والسنّة والكرد، وفقاً لهذا النظام تمت المحاصصات الطائفية والإثنية وسارت على هذا الطريق من الناحية العملية منذ العام 2003 ولحدّ الآن، ويبدو إنها أصبحت مرتهنة إليه وأسيرة له، بل إن شرنقة تكاد تلف هذه الصيغة على نحو شديد لا يستطيع أحد الفكاك منها.

ومن مظاهر الأزمة الراهنة هو: غياب الحد الأدنى من التوافق الوطني حول الوحدة الوطنية قاد إلى رؤية متناقضة للجماعات السياسية والطائفية، وهذه الرؤية تزداد تعقيداً بفعل اشتباك المصالح وتضاربها وبحكم التداخلات الإقليمية والدولية، يضاف إلى ذلك سعي أمراء الطوائف في الحصول على المزيد من الامتيازات لشحن أبناء طوائفهم ضد الآخر بزعم الخطر القادم.

 فالشيعية السياسية، وخصوصاً الجماعات المسلّحة، سواء في السابق أو في الوقت الحاضر وتحت تسميات "الحشد الشعبي"(1) الذي هو جيش موازي للجيش النظامي من الناحية العملية وإن كان خاضعاً رسمياً لرئاسة الوزراء ومرتبطاً برئيس الوزراء، نقول إن الشيعية السياسية ولاسيّما المسلحة تطمح إلى دور أكبر بعد انتهاء العمليات العسكرية والقضاء على داعش.

ويضم الحشد الشعبي الذي يرأسه هادي العامري، لواء بدر الذي كان تحت إمرته، وعصائب أهل الحق بقيادة قيس الخزعلي وكتائب حزب الله وهي من التنظيمات التي قاومت الاحتلال، وجماعة المجلس الإسلامي الأعلى بقيادة عمار الحكيم ومجموعة من حزب الدعوة بقيادة نوري المالكي، وجماعات أخرى صُنِّعت لتدخل في إطار الحشد الشعبي لتشكيل قوة ضاربة أخرى، إضافة إلى القوى الموجودة. وبقيت مجموعة الصدر "سرايا السلام" خارج دائرة الحشد الشعبي.

إن نشاط هذه المجموعات الشيعية، السياسي والعسكري، يستند إلى 3 ركائز أساسية:

الركيزة الأولى – هي التحالف مع إيران والترحيب بالدور الإيراني الذي تقوم به في العراق، سواء في مواجهة داعش أو في دعم العمليات السياسية، أو في الدفاع عن المذهب، حتى التدخل العسكري في سوريا، هو بالدرجة الأساس عن المقامات المقدسة، وخصوصاً في السيدة زينب.

أما الركيزة الثانية – فهي وقوفها بقوة ضد عودة القديم إلى قدمه، أي الحؤول دون محاولات عودة أتباع النظام السابق، وهو الأمر الذي يجعل من موضوع المصالحة الوطنية مجرد شعار ترويجي، ليس للتطبيق بحكم المخاوف المزروعة والمستمرة بين الأطراف المختلفة، وخصوصاً باستمرار قانون المساءلة والعدالة الذي هو امتداد لقانون اجتثاث البعث الذي أصدره بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق العام 2003، (وقد صوّت البرلمان العراقي على قانون جديد تحت عنوان "قانون حظر حزب البعث" في 3 آب /أغسطس/ 2016).

الركيزة الثالثة – هي الوقوف ضد الخطر الوهابي، الذي يجري أحياناً تهويله لدرجة كبيرة. وهذه الركائز الاستراتيجية الثلاث تعمل عليها قوى الشيعية السياسية وإيران بصورة متداخلة ومتكاملة، وهي ضمن برنامج تدرّجي وبعيد المدى، له ركن سياسي وآخر مذهبي، يتعلق بالمصالح والصراعات الإقليمية، إضافة إلى ركن اقتصادي وتجاري ومالي.

أما السنّية السياسية المشاركة في العملية السياسية أو غير المشاركة فهي تخيف أبناء المناطق الغربية والسنّة العرب عموماً من:

1 –"الخطر الشيعي"، وخصوصاً محاولات انفراد الشيعية السياسية بالحكم وتهميشها الطائفة السنية، بحجة الأغلبية .

2 – التدخل الإيراني وما تطلق عليه "التمدّد الصفوي" بهدف التعبئة ضد الخصوم السياسيين والنفوذ الإيراني بوجه عام، سواء كان الأمر بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

وترتكز في مشروعها السياسي على:

أ – اعتبار دول الخليج وتركيا حليفاً للسنيّة السياسية، مقابل تحالف إيران مع الشيعية السياسية، وذلك بهدف إحداث توازن نوعي في ميزان القوى الداخلي.

ب – عادت بعض المجموعات من السنية السياسية بمن فيها قوى ورؤساء عشائر وشخصيات إلى التعويل أكثر من قبل على واشنطن والتقرّب منها مباشرة أو عبر دول الخليج وتركيا، بهدف كسبها للوقوف ضد النفوذ الإيراني من جهة ومن جهة ثانية ضد حلفاء إيران من الشيعية السياسية الحاكمة.

ولذلك وتحت ضغط الواقع والشعور بالتمييز والتهميش تضطر أحياناً إلى قبول فكرة "الإقليم السنّي" للحدّ من نفوذ الشيعية السياسية، كما أنها تسعى للحصول على دعم إقليمي، ولا سيّما من بلدان الخليج العربي، وتركيا بهدف التوازن مع الدعم الإيراني للشيعية السياسية كما تبرّر، وهكذا فإن مثل هذا التجاذب يستمر، بل يتصاعد. وكانت لقاءات الدوحة (أيلول/ سبتمبر/2015) تعبيراً عن المخاوف إزاء تطور الأوضاع الراهنة في العراق، وخصوصاً في المناطق الغربية منه، ولا سيّما بعد احتلال داعش الموصل وتوغله في مناطق غرب العراق.

وإذا كان الأمريكان، قد باشروا باستقبال جماعات وكتل وقوى سياسية عراقية في إطار الاستماع إلى وجهات نظرها، وخصوصاً لمرحلة ما بعد "داعش"، شملت رؤساء عشائر ومجموعات سنيّة وأوساط كردية وبعض الشخصيات وغيرها، فإن ما ترشّح منها يؤكّد أن واشنطن تريد تقليص دور إيران والمجموعة الشيعية المتحالفة معها، لكنها سوف تلجأ إلى ذلك بشكل تدرّجي وهي تنتظر انتخابات العام 2018، وخصوصاً بعد دحر "داعش" وتحرير الموصل، ومن ثم البحث في مسألة الأقاليم التي يبدو أن الأمريكان أخذوا يميلون إليها أو يرجّحونها للتطبيق بعد أن كادت مجرد أفكار أو سيناريوهات، وخصوصاً أن هناك أوساطاً من السنيّة السياسية تشجّع عليها، إضافة إلى تحالفهم الفرعي مع إقليم كردستان وتسليح وتمويل البيشمركة، الذين يؤيّدون إقامة الإقليم السّني أو نظام الأقاليم بشكل عام.

ويعبّر الكرد عن مشروعهم بوضوح أكبر بدعوتهم إلى إقامة كيانية خاصة، بمعنى الانفصال في دولة مستقلة عبر إجراء استفتاء لسكان إقليم كردستان، استناداً إلى تمسّكهم بمبدأ حق تقرير المصير، ومع أن مشكلات داخلية تعترضهم على هذا الصعيد، بسبب الخلافات الحزبية والسياسية الكردية – الكردية، وخصوصاً بين جناح الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود البارزاني وبين جناح الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة جلال الطالباني الذي تحالف مؤخراً مع كتلة كوران "التغيير" بقيادة نوشيروان مصطفى، إلاّ أن الفكرة أو التلويح بها ما زال يشكّل هاجساً للكرد يتم استثماره في الصراعات السياسية الداخلية من جهة، وبين بغداد وإربيل من جهة ثانية.

وفي حين يقترب البارزاني من أنقرة، ويبتعد عن بغداد، فإن كتلة مناوئيه والمقصود كوران والاتحاد قريبة من طهران ومن بغداد في الآن، يضاف إلى ذلك أن هناك تحفظات إقليمية ودولية بخصوص فكرة الدولة المستقلة، وهو ما لوحظ بشكل خاص بعد زيارة رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني لواشنطن الأخيرة في 3/5/2015.

 وعلى أي حال فالمشروع الكردي بإقامة كيان خاص "دولة" سوف يبقى عنصر إشغال وإهدار للدولة العراقية، إن لم يتم التفاهم مع ممثلي الشعب الكردي للتوصل إلى حلول سلمية ووطيدة، وهذا يحتاج إلى ظروف طبيعية بحيث يستطيع الشعب العراقي اختيار ممثليه الحقيقيين أيضاً.

أما التركمان فهم يشعرون بالغبن لعدم تمكّنهم من إقامة كيان خاص بهم، فضلاً عن وقوعهم في منطقة حساسة لتضارب المصالح، ولا يزال المسيحيون (الكلدان والآشوريون والسريان) في حال شديد البأس والخطورة، بسبب إجلائهم من مناطقهم في الموصل وبعض قرى وقصبات سهل نينوى وترتفع نسبة الهجرة في أوساطهم، ناهيك بتعرضهم لعنف وإرهاب مستمرين منذ الاحتلال وإلى الآن.

وهكذا فإن الدولة تسير بخطوات حثيثة نحو المزيد من الاصطفاف الاصطفائي والتباعد العملي الذي سيزيد من عوامل الانشطار والتمزّق.

 

مستقبل الدولة: التحدّيات والسيناريوهات

إن التحدّيات التي تواجه استمرار العراق كدولة قائمة هي:

1-  تحدّيات سياسية خارجية، إضافة إلى تحدّيات اقتصادية دولية بسبب شروط التبادل التجاري واستيراد الغذاء وانخفاض أسعار النفط واستيراد السلاح والمديونية، الأمر الذي يجعل البلاد أكثر خضوعاً للهيمنة الخارجية، وخصوصاً في ظل وجود النفط، وذلك يطرح تحدّيات جيوسياسية من خلال روابط التبعية، ولا تأتي هذه فقط من الغرب الإمبريالي، بل من إيران وتركيا و"إسرائيل"، سواء باستخدام القوة العسكرية أو لاقتطاع الأراضي، أو لإجبار العراق على توقيع اتفاقيات "سلام" استسلامية مع "إسرائيل" وإنهاء كل علاقة بقضية العرب المركزية "فلسطين" وفتح أسواقها للصناعات والتكنولوجيا "الإسرائيلية"، وكذلك لإحداث المزيد من التصدّع داخل المجتمع العراقي.

2-  تحدّيات داخلية، وأولها وأهمها وأخطرها هو الاحتراب الطائفي المعلن والمستتر، وهيمنة الطائفية السياسية على مقاليد الدولة وأجهزتها وممارستها للتقاسم الوظيفي الطائفي والإثني. يضاف ذلك عدم الإقرار بالتنوّع الثقافي، ولا سيّما أن مشاكل الإثنيات والأديان والطوائف أخذت بالظهور على نحو شديد بعد الاحتلال، إما بسبب كبت طويل الأمد واضطهاد وعدم مساواة، وإما بسبب رغبة في التعبير عن هوّية فرعية وخصوصية جرى طمسها أو تغييبها خلال مسار الدولة العراقية. والمسألة تتعلّق بالكرد والتركمان والآشوريين والكلدان والسريان كتعبيرات قومية وإثنية، وبالأديان مثل المسيحية والإيزيدية والصابئة وغيرهم، وفي إطار الأديان بما فيه الإسلام والمسيحية وطوائفهما، وبالطبع فإن نهج الاستعلاء والإقصاء والتهميش الذي عانته هذه المجموعات الثقافية على مرور تاريخ الدولة العراقية دفعها إلى التعبير عن نفسها وهوّيتها الفرعية وفي بعض الأحيان بانغلاقها وضيق أفقها بسبب ما عانته.

وتبقى المسألة الأساسية هي التحدّي الطائفي المحتدم والمصحوب بالكثير من عناصر الكراهية والحقد والبغضاء، ولا سيّما التي يقوم أمراء الطوائف والمستفيدون من الانشطار الطائفي بتغذيتها، وخصوصاً علاقة الشيعة بالسنّة، حيث أدى هذا الانقسام إلى احترابات وتكفير، إذ أن دعاة الطائفية هم في الغالب الأعم "طائفيون بلا دين"(1) على حد تعبير عالم الاجتماع علي الوردي واستخدموا الطوائف بما يسيء إلى الدين، بتقديم ذلك على مبادئ الوطنية والمواطنة، وليس ذلك بعيداً عن التداخل الخارجي الإقليمي والدولي.

إن التحدّي الديني وفروعه الطائفية قاد إلى موجات مختلفة من التعصّب والتطرّف والإرهاب والعنف، وانتشار ما سمي بالحركات الأصولية "الإرهابية" سواء اتخذت اسم جماعات القاعدة أو داعش أو جبهة النصرة أو جماعات مسلحة خارج دائرة القانون سنّية أو شيعية، ولاحظنا كيف اهترأت دولة مثل العراق واقتطع جزء عزيز منها هو الموصل، بكل تلك الخفّة واللاّمسؤولية، والأمر ذاته في سوريا، حيث لا تزال الرقة ونحو ثلث الأراضي السورية تحت هيمنة داعش.

 

خامساً: الأزمة العراقية والسيناريوهات المحتملة

وضعت الأزمة العراقية الأخيرة، الدولة ومستقبلها على بساط البحث، فهل سيتعرّض العراق للتفتيت؟ ثم ما هي السيناريوهات؟ وإذا كان هذا السيناريو محتملاً بفعل استفحال الأزمة العراقية وعدم وجود حلول جذرية لإعادة لحمة الدولة باستمرار الطائفية السياسية التي تمثّل جوهر الأزمة، فالدراسات المستقبلية تضع سيناريوهين آخرين لأزمة الدولة، أولهما سيناريو استمرار الحال على ما هو عليه أو تفاقمه، الأمر الذي يمكن أن يقود إلى احتمالات أخرى، وثانيهما سيناريو التوحيد، وخصوصاً إذا ما توافرت إرادة سياسية موحدة وظرف موضوعي وذاتي مناسب. ما الذي يمكن أن يحصل؟ وأي السيناريوهات المستقبلية سيكون أقرب إلى الواقع؟

 

1 – سيناريو التفتّت(1)

أ - التفتّت الواقعي(Defacto fragmentation)، وذلك بتحوّل الدولة إلى كانتونات أو فيدراليات أو دوقيات أو مناطقيات لا يربطها رابط وثيق فيما بينها سواءٌ كانت معلنة أو غير معلنة، معترف بها أو غير معترف بها رسمياً، داخلياً أو إقليمياً أو دولياً، لكنها قائمة بالفعل ويمثّل إقليم كردستان نموذجاً لها، من حيث السلطة والإدارة والموارد والخدمات، وهكذا تضمحل وتتقهقر الدولة تدريجياً.

ب - التفتّت الرسمي Dejure Fragmentation)(وهو الشكل الفعلي للانقسام أو الانشطار وقد يتحقق بالقوة وبعد احترابات ونزاعات مسلحة، أو بالاتفاق سلمياً، وقد يحصل على اعتراف دولي وإقليمي، وقد تأخذ الأقاليم المنقسمة أسماء أخرى غير الدولة القائمة أو تضيف شيئاً إلى اسمها السابق، وسيكون لهذه الدولة نشيدها الخاص وعلمها ورموزها، إضافة إلى مؤسساتها وتمثيلها الخارجي، ومن المحتمل أن يكون هذا التفتت الفعلي هو نتيجة أو مرحلة أخيرة للأمر الواقع، خصوصاً إذا ما استمرّت سلطات محلية بصلاحيات موسّعة ونفوذ سياسي وعسكري واقتصادي، ناهيك بامتيازات، حينها سيكون من الصعب تخلّي النخب الحاكمة الإقليمية عنها.

ج - الانضمام والإلحاق(Joining and Annex)، وهو وسيلة أخرى للتفتت، يضاف إلى التفتت الواقعي والتفتت الرسمي (الفعلي)، إذْ من المحتمل أن تسعى بعض دول الجوار إلى ضمّ ما تبقى من الدولة أو شطرها عند الانقسام، سواء باستخدام القوة لفرض واقع جديد أو بدعوة من أطراف سياسية أو جماعات مسلحة وتحت عناوين التحالف والمصالح المشتركة "القومية" أو "المذهبية" أو غير ذلك، وأعتقد أن الجارين الكبيرين والمحتربين تاريخياً على الأرض العراقية (بلاد ما بين النهرين) وهما تركيا وإيران يمكن أن يكونا جاهزين لاحتواء التفتت العراقي، وخصوصاً بالتمدّد الجيوبوليتيكي.

ومن العوامل التي تسهم في تزايد التحدّي وعدم الاستجابة الفعّالة لحلول ممكنة هو الإخفاق في مواجهة الأزمات والمشكلات الحادة وعدم التمكّن من تلبية المطالب الشعبية، بالقضاء على الفساد ومحاسبة المفسدين، وكذلك عدم التمكّن من تحسين الخدمات واستمرار الإرهاب وأعمال التفجير والمفخخات وتدهور الوضع الأمني، إضافة إلى استمرار التفاوت الشاسع بين الفئات الاجتماعية في الدخول والموارد، وعدم تحقيق المشاركة السياسية الحقيقية بما فيها المصالحة الوطنية والتخلّي عن مساعي الانتقام والثأر ومحاولة كسر شوكة الآخر، ناهيك عن بشحّ موارد الدولة ووصول نموذجها التنموي إلى طريق مسدود، واقتراضها من البنوك الدولية وغير ذلك.

ويمكن أن يقود سيناريو التفتيت، وخصوصاً فيما إذا تم القضاء على داعش، وبعد تحرير الموصل إلى تنازعات على السلطة، وقد يقود إلى حروب أهلية مصغّرة، محلية، وليس بالضرورة أن تكون بين الشيعية السياسية والسنية السياسية، بل داخل السّنية السياسية ذاتها، وداخل الشيعية السياسية، وداخل الإقليم الكردستاني (بين إربيل والسليمانية)، وذلك للاستحواذ على مقاليد السّلطة والنفوذ والمال، وخصوصاً في ظل غياب جهد وطني عام لإعادة بناء الدولة وترسيخ كيانياتها القائمة على المواطنة وسيادة القانون، وإرساء قواعد اللعبة الديمقراطية على نحو صحيح.

 

2 – سيناريو استمرار الحال

وهذا يعني بقاء الوضع على ما هو عليه من دون إحراز تقدّم يُذكر، وذلك سيعني فشل الخطط المعلنة للإصلاح، بسبب عوامل الكبح والمعارضة من جانب الجماعات المتضرّرة من الإصلاح، وخصوصاً أن هناك تحالفاً سرّياً بين مختلف الكتل والجماعات على عدم فتح ملفّات الفساد، وحين تجرأ وزير الدفاع خالد العبيدي على كشف محاولات ابتزازه، وصفّق له الشارع طويلاً، بغض النظر عن شبهات الفساد التي تحيط وزارته، عاقبه مجلس النواب بسحب الثقة منه، فمن بعد ذلك سيغامر ويكشف ملفات الفساد أو التعرض للفاسدين.

وإذا توقّف مشروع الإصلاح وهو متعثّر فعلاً، فإن ذلك سيكون سبباً في الخيبات والمرارات التي سيعيشها العراقيون، وأن استمرار مثل هذا الأمر لفترة غير قصيرة سيؤدي إلى تعميق فشل الدولة الفاشلة والرخوة، ويساهم في تفتيتها وتشظيها. ومن احتمالاته عدم بقاء رئيس الوزراء في موقعه، (وكاد الأمر يحصل لولا ضغوط الولايات المتحدة المتوافقة مع إيران بهذا الخصوص). وانفتاح الأزمة على مصراعيها، فالأمر لا يتعلّق بالعبادي، بل بمستقبل الدولة العراقية ومسألة مكافحة الفساد وملاحقة الفاسدين؛ فهل يمكن استمرار الدولة وهي غارقة حتى رأسها بالأزمات والمشاكل، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وخصوصاً بفشل إدارتها وفشل إدارة حلّ الأزمة؟

هل سنذهب إلى انتخابات مبكرة؟ أم إن العبادي سيستخدم "صلاحياته" أو يتجاوزها بفعل الخطر الذي يتهدد الدولة العراقية بإعلان حالة الطوارئ وتعليق الدستور وحلّ البرلمان وتشكيل حكومة إنقاذ وطني جديدة انتقالية من كفاءات عراقية تحدّد بعد سنتين مثلاً، ثم الذهاب إلى انتخابات؟

 

3 – سيناريو التوحيد

إذا كان هناك سيناريو التفتيت وسيناريو بقاء الحال دون تغيير، فالدراسات المستقبلية لا تهمل سيناريوهات أخرى أيضاً، فهل هناك سيناريو توحيد؟ هذا السؤال هو مقدمة لحوار حول دور النخب في شأن مستقبل البلاد، فحتى موجة الاحتجاج هذه، هناك من يحاول ركوبها والاستفادة منها وتوظيفها بما فيها قوى تعاونت مع الاحتلال ومخرجاته، وكانت جزءًا من أسباب الخراب التي تعانيها البلاد.

إن النخب الفكرية والثقافية والأكاديمية في مجتمعنا لا تزال ضعيفة ومستلبة وملحقة لحساب النخب السياسية التي بيدها القدح المعلّى ولها سطوة عليها، بل إن لها القابلية على الاستتباع حسب توصيف المفكر الجزائري مالك بن نبي "القابلية على الاستعمار"، ولا سيّما أن النخب السياسية تملك المال والسلطة أو جزءًا منها، والنفوذ وأحياناً معها ميليشيات وبعض دول الجوار أو القوى الدولية، لذلك فإن أي استعادة لدورها، يتطلّب استعادة الوعي أولاً واستعادة الإرادة. ويحتاج مثل هذا إلى التحدّي والاستجابة الخلاقة لمتطلبات التغيير ونتائجه.

كما أن إجراء إصلاحات واستجابة لمطالب المتظاهرين قد يفتح آفاقاً جديدة لنشوء كتل وجماعات سياسية تسهم في عملية التغيير. ويمكن القول إن القوى الدافعة للتوحيد والتغيير تمثل طيفاً واسعاً من القوى، ولكنها قد لا تكون منسجمة أو موحّدة مع أن الكثير من المشتركات تجمعها، ولا تزال القوى المهيمنة، ولا سيّما الدينية والطائفية والإثنية، تمنع وتعرقل أي لقاء بينها، بل تضع العصا في دولاب أي تحرّك باتجاه الحوار.

وهذه القوى هي: جماعات المصالح الاقتصادية والأحزاب والقوى السياسية المهمّشة من داخل العملية السياسية أو من خارجها، إضافة إلى المجموعات الثقافية المتنوّعة التي تشعر بالغبن بسبب الإقصاء أو العزل أو التهميش أو حتى احتساب بعضها على النظام السابق، فجرى اجتثاثها، وبعضها من أصحاب الكفاءات والخبرات التي لا يستهان بها. يضاف إلى ذلك مؤسسات المجتمع المدني من داخل وخارج العملية السياسية، وخارجها، ومراكز الأبحاث والدراسات والجامعات، فضلاً عن أن البيئة الدولية والإقليمية قد تكون مشجّعة للتوحيد لأسباب تتعلق بالخوف من انتقال عدوى التفتيت إليها، ناهيك بفايروس الإرهاب.

وسيكون على عاتق الطبقة الوسطى، وخصوصاً المثقفين والأكاديميين والمفكرين ومؤسسات المجتمع المدني، دور مهم على صعيد التوحيد والتغيير، ويحتاج الأمر إلى جهود فكرية وثقافية وسياسية لتشكيل قوة ضغط لإعادة النظر بالدستور واعتماد قواعد اللامركزية الإدارية على صعيد الأقاليم الفيدرالية أو المحافظات على نحو صحيح ومن دون صفقات سياسية بوصفها نظاماً لتوزيع الثروة والسلطة، كما لا بدّ من اعتماد آليات توحيد ديمقراطية الأسلوب واجتماعية المضمون.

يبقى هناك أسس للتوحيد ولقيام دولة عصرية دستورية لا يمكن تجاوزها، وأولها الحرية، وثانيها المساواة، وثالثها العدالة، ولا سيّما الاجتماعية ورابعها المشاركة، وكل هذه تصبّ في مبادئ المواطنة، التي تشكل جوهر الهويّة الجامعة، مع احترام الهويّات الفرعية والخصوصية الثقافية.

 

د. عبد الحسين شعبان - أكاديمي ومفكر عراقي.

........................................

(1) صدر قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية في 8/3/2004، وهو يتألف من ديباجة وتسعة أبواب، و62 مادة، وهو الدستور المؤقت رقم (6)، فقد كان الدستور المؤقت الأول بعد ثورة 14 تموز (يوليو) العام 1958، وأعقبه قانون المجلس الوطني بعد الإطاحة بحكم عبد الكريم قاسم العام 1963، ثم شرّع دستور مؤقت آخر في العام 1969، وألغي هذا الدستور بعد انقلاب 17 تموز (يوليو) العام 1968 حين تم تشريع دستور مؤقت استمر للعام 1970، فشرّع مجلس قيادة الدستور المؤقت الذي حكم العراق من العام 1970 ولغاية العام 2003.

قارن:Phebe Marr – The Modern History of Iraq. 2nd Boulder, Co West View Press, 2003, p.p.26-28

قارن: تقرير بعنوان: التحدي الدستوري في العراق – تقرير الشرق الأوسط، رقم 19، في 13 تشرين الثاني (نوفمبر) العام 2003، من إعداد المجموعة الدولية للأزمات، بروكسل، مجلة المستقبل العربي، العدد 298، كانون الأول (ديسمبر)، 2003.

قارن: Jennifer Lee – American will advise Iraqis on writing new constitution, New York, 11/5/2003.

انظر: شعبان، عبد الحسين – إشكاليات الدستور العراقي المؤقت: الحقوق الفردية والهياكل السياسية، دراسات استراتيجية، الأهرام، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، القاهرة، يونيو (حزيران) 2004،

(1) حدّد الرئيس بوش الابن مهلة زمنية لإعداد الدستور العراقي الدائم الذي على أساسه ستجرى الانتخابات، وكانت كما يأتي: 15 آب (أغسطس) تسلّم مسودته العام 2005، و15 تشرين الأول (أكتوبر) يتم الاستفتاء عليه، و15 كانون الأول (ديسمبر) من العام ذاته يجري الانتخاب على أساسه، وهو ما حصل بالفعل، وهكذا فُرض الدستور فرضاً حتى وإن تمت عليه عملية استفتاء، لكن مقدماته والأطر الموضوعة له، تشير إلى أن المُهل الزمنية والقواعد التي أقيم عليها، حتى وإن كانت بمشاركة لجنة من العراقيين في الاعداد، لكنها حملت بصمة نوح فيلدمان وبيتر غالبرايت.

انظر: شعبان، عبد الحسين – العراق: الدولة والدستور – من الاحتلال إلى الاحتلال، دار المحروسة، القاهرة، 2004

(1) يقول بول بريمر في كتابه "عام قضيته في العراق" إنه وزّع نحو 780 مليون دولار على مؤسسات المجتمع المدني (العراقي) وجهات إعلامية ومراكز أبحاث خلال فترة حكمه العراق بين 13 أيار (مايو) 2003 و28 حزيران (يونيو) 2004، ولم تعلن أي جهة أنها استلمت أموالاً من بريمر.

انظر: بول بريمر – "عام قضيته في العراق: النضال لبناء غد مرجوٍ - My Year in Iraq"، بالاشتراك مع مالكولم ماك – كونل؛ ترجمة: عمر الأيوبي، دار الكتاب العربي، ط1، بيروت، 2006.

 

(1) انظر: شعبان، عبد الحسين – المشهد العراقي الراهن: الاحتلال وتوابعه في ضوء القانون الدولي، مجلة المستقبل العربي، تشرين الثاني (نوفمبر) 2003، ص 60 - 69.

(2) يمكن للمرجعيات الدينية أن تقوم بدور وعظي وإرشادي، يدعو للتسامح واحترام الآخر والاعتراف بحقوقه وإقامة العدل والمساواة بين المواطنين والبشر عموماً، وعدم اللجوء إلى العنف، وحل الخلافات سلمياً في إطار العيش المشترك والوحدة الوطنية ومبادىء المشاركة والشراكة في الوطن، دون إقحام رجال الدين أنفسهم بالسياسة، ومثل هذا الدور التنوير سيقطع الطريق في الآن ذاته على الجماعات السياسية استغلال أسماء رجال الدين والرموز الدينية بشكل عام وتوظيفها في الصراع السياسي واللعبة الانتخابية، كما حصل فعلياً في العراق، وخصوصاً بعد الاحتلال الأمريكي العام 2003. وبالطبع من حق رجل الدين بصفته مواطناً أن يمارس العمل السياسي وأن يدخل اللعبة الانتخابية، ولكنه سيخسر دوره الوظيفي كرجل دين، يفترض فيه أن يكون خارج الصراع السياسي والآيديولوجي، وإلاّ ما الفرق بينه وبين رجل السياسة، الأمر الذي يتطلب وضع حدود بين السياسي والديني وبين السياسي والمذهبي.

انظر: شعبان، عبد الحسين - السيستاني أو ولاية الفقيه غير المعلنة، جريدة النهار، 2/3/2007.

(1) انظر: شعبان، عبد الحسين – العراق: الدولة والدستور من الاحتلال إلى الاحتلال، دار المحروسة، القاهرة، 2004.

انظر كذلك: نص الدستور العراقي الدائم. الأمانة العامة لمجلس الوزراء، بغداد، 2005.

(1) انظر: المصدر السابق.

(1) انظر: المصدر السابق.

(1) كان السيد عبد العزيز الحكيم، رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، أكثر المتحمسين من الشيعية السياسية لقانون الأقاليم أو الفيدرالية، وقد عُرض مشروع قانون الأقاليم على مجلس النواب الموسوم بـ"الإجراءات التنفيذية الخاصة بتكوين الأقاليم رقم 13 لسنة 2008"، وأبرم في 11 شباط (فبراير) العام 2008، لكنه تم تأجيل دخوله حيز النفاذ إلى 18 شهراً، وسرعان ما طواه النسيان مثل غيره من الأمور، ونتذكّر هنا الاتفاقية الأمنية الأمريكية – العراقية لعام 2008، والتي لقيت أخذاَ وردّ حتى من داخل العملية السياسية، والتي كان من المفترض إجراء استفتاء شعبي عليها خلال عام ونصف من إبرامها، لكنه لمجرد إقرارها، جرى إهمال الإجراء اللاحق الذي يكسبها "الشرعية".

(1) انظر: اتفاقية فيينا حول قانون المعاهدات، جامعة منيوستا، مكتبة حقوق الإنسان، وعرضت للتوقيع في 23 أيار (مايو) 1969، ودخلت حيز النفاذ في 27 كانون الثاني/يناير 1980.

(1)Srnskà, M. – Vienne Convention on the Law of Treaties, USL, Prague, 1971.

(1)انظر: غراهام. أي فولر- العراق في العقد القادم: هل سيبقى العراق لغاية العام 2002؟ مصدر سابق.ؤسسة Rand، منشورات الملف العراقي، لندن، 1993، ص 7 و15 و 64).

 

(2) أعيد نشره في الجزيرة نت بتاريخ 10/3/2004.

(1) انظر: غراهام. أي فولر- العراق في العقد القادم: هل سيبقى العراق لغاية العام 2002؟ مصدر سابق.

(2) قارن: شعبان، عبد الحسين - عاصفة على بلاد الشمس، دار الكنوز الأدبية، بيروت، 1994، ص 178.

(1)انظر عبد الكريم الأزري، مشكلة الحكم في العراق، طبعة خاصة، لندن، 1991). انظر كذلك: عبد الكريم الأزري، تاريخ في ذكريات العراق 1930 – 1958، طبعة خاصة، 1982.

(2) انظر: الحصري، ساطع – آراء وأحاديث في التربية والاجتماع، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1984. انظر كذلك: صحيفة الحياة، العدد 12260، 19 أيلول (سبتمبر) 1996.

(1) انظر: علي الوردي، منطق ابن خلدون، دار كوفان، لندن، ص 251.

(1) تأسس الحشد الشعبي بعد احتلال داعش للموصل في 10 حزيران (يونيو) العام 2014، وذلك بناء على نداء "فتوى" للسيد علي السيستاني، المرجع الشيعي المتنفّذ في النجف، تحت عنوان "الجهاد الكفائي" وشارك الحشد في العديد من المعارك ضد داعش، وخصوصاً في محافظتي صلاح الدين والأنبار، كما ساهم في التصدي لقوات داعش عند مشارف بغداد، وكان دوره أساسياً في معركة جرف الصخر، وهناك إشادات بدوره من قوى سياسية متنفذة داخل الحكومة ومن الشيعية السياسية بشكل خاص وإيران حليفتها، لكنه تعرّض لانتقادات شديدة، واتهم بانتهاكات سافرة وصارخة لحقوق الإنسان، واستثيرت بعض القوى ضده، خصوصاً من السنيّة السياسية، وطلبت عدم دخوله مناطقها، إثر ما حصل في مدينة تكريت من عمليات حرق ونهب للممتلكات، إضافة إلى تقارير حقوقية دولية أشارت إلى انتهاكات بحق المدنيين في الفلوجة وغيرها، ومن المفارقات أن الولايات المتحدة التي تسعى لتقليص نفوذ إيران في العراق، قام قنصلها ستيف ووكر في البصرة بزيارة لبعض جرحى الحشد الشعبي بمستشفى الصدر التعليمي (12 آذار/ مارس/ 2016)، وأعرب عن اعتراف بلاده بالمساهمة المهمة التي يقدمها الحشد الشعبي تحت قيادة رئيس الوزراء، وقال السفير الأمريكي ستيوارت جونز في 6 حزيران (يونيو) 2016 إنه لا يوجد أي شيء يمكن أن يؤكد وجود انتهاكات بالفلوجة. وقد اضطرّ رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة، إلى إلحاق الحشد الشعبي بالقوات الرسمية وجعل ارتباطها به مباشرة، ويضم الحشد أكثر من 40 قوة عسكرية "ميليشيات" شيعية، وهو مدعوم من إيران سياسياً وعسكريا، وبلغت ميزانيته في العام 2015 نحو 60 مليون دولار أمريكي من الميزانية الحكومية، أما ميزانيته في العام 2016 فبلغت (تريليون و160 مليار دينار عراقي).

(1) انظر: الوردي، علي – دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، الدار العربية للموسوعات، بيروت، 1965.

(1) أو ما يطلق عليه نظرية الديبلاسيو، وتعتبر حالة الديبلاسيو واحدة من نماذج الانتهاء القانوني للدولة، وذلك بعد انحلال بنيتها الأساسية وتفرّق سلطاتها الحكومية والمحلية، سواء انتقلت إلى دولة أخرى أو أقامت كياناً خاصاً بها بعيداً من الدولة الأصلية، وتسعى هذه الأخيرة لتكوين جسم سيادي وشخص قانوني، وتنطبق نظرية الديبلاسيو في الغالب على اقتطاع أراضي دول بعد احتلالها وانهيار سلطاتها، الأمر الذي يسهّل انتقالها إلى دولة أخرى، لكن أشكالاً جديدة من الديبلاسيو عرفها المجتمع الدولي، مثل حالة يوغسلافيا والاتحاد السوفييتي وغيرها.

 

في المثقف اليوم