قضايا

حسن عبد الهادي اللامي: العصبية داء وسلاح بيد الاعداء!

hasan abdulhadiallamiتطفو بعض رواسب الجاهلية بين الفينة والاخرى في مجتمعنا الذي أصطبغ إطاره العام بالمدنية والتحضر بل ان بعض مناطقه لازالت تحت أسر تلك الرواسب، وقد تُؤصِّل لها عبر سلوكها في مجالات الحياة بالرغم من أتسام طابع عيشها بالحياة العصرية ووسائلها وتقنياتها الحديثة والمناهج المتطورة ...، ألا ان النَزْعة المستهجنة تلازم بعض سلوكياتهم ومنها العُنصرية والتعصب، ولستُ في إطار البحث التفصيلي عن مدلول هاتين المفردتين، فمما لابد منه لبيان معناهما، ان معنى العُنصُريّ: اسم منسوب إلى عُنْصُر : من يتعصّب لجنس أو شعب معيَّن ...، والعَصَبِيُّ : مَن يُعِينُ قَوْمَه على الظُّلم، أَو من يحامي عن عصبته : وهم قَرَابة الرَّجُل لأبيه وبني عمِّه - ويغضب لهم ..، وهذه الحالة التي ينبغي انها ذابت بفعل تعاليم الاسلام ومنهجه في الحياة الذي أسس لِنُظم الحياة الاسرية والاجتماعية وركزّ على القيم الروحية في بناء الحياة الكريمة للمجتمعات والسعي لبلورتها والمُسارعة في تفعيلها والتزيُن بجمالها والتفاخر بالاعتياد عليها والتعصب لأقامتها فهي خير موارد التعصب لو صح التعبير لِما أُثِر عن امير المؤمنين عليه السلام انه قال : " إن كنتم لا محالة متعصّبين فتعصّبوا لنصرة الحق وإغاثة الملهوف". و الالتزام بتعاليم الاسلام ينبغي ان يكون جوهريا لا شكليا وان ينفذ نور التنزيل القرآني الى القلوب بحيث يكون الباعث في حركة الافراد هو الدار الاخرة وعدم ارادة الفساد و العلو في الارض، وهذا لا يتحقق الا في ظل مجاهدة النفس وتهذيبها من شوائب الجهل والتعصب والانانية ...، وأما التبعيض في الايمان هو امر يرفضه الاسلام ولا يرتضي لاتباعه ازدواج الشخصية فمن جهة يحرص الفرد على شكليات الدين ولكن باطنه مصاب بأمراض نفسية فتّاكة تَظْهَرُ اعراضها على سلوكهم بمجرد ان يثيرها شيئاً ما ! فالتمييز العنصري والتعصب الجاهلي سلوك يُضعِف الامم والمجتمعات ويثير فيها التباغض وريحه المُدمرة ويؤصل الكراهية وسكاكينها القاطعة لأواصر التآلف والمحبة ويسود التشرذم والتفرّق والطبقية .. فالأفراد الذين يوغِر صدورهم جلوس فقير مُعْدَم الى جانب غَني مُترف هو تحطيم لِأُبهة الاثرياء والنُبلاء فهذا في معاييرهم جريمة ان يتساوى الغني ذي الحسب والنسب بِالمُعدَم !!! ولا قيمة لِما يُقال من ان الناس سواسية كأسنان المشط، وهُم لآدم وادام من تراب ! وهؤلاء لا تحلو الحياة لَهم الا بأن يمتازوا بما لديهم – مالاً، جاهاً، علماً، نسباً.. - وان لا يُقْرن شخصهم بأي احد لا يشبهُم، فهُو بالنسبة لهُم دون!، فيغيظهم ويزعجهم ان يُساوى بين اسودٍ وابيضٍ،او غني وفقير، او مدير وموظف، اوقائد وجندي، اوعامل النظافة ورئيس الدولة، او الريفي والحضري، او بين العشائر أو.... فالمساواة هنا عندهُم تثير اِشمِئزازهم، وتعصبهم لطبقتهم ! وقد نجد بعض هؤلاء الافراد يحرصون على إقامة شعائر الدين وتظهر عليهم شكليات التدين ولكن هؤلاء في وادي والاسلام في وادي اخر !! الاسلام هو الدين الذي وقفَ بقوة بوجه التمايز وعالج تلك الامراض التي كانت مستشريه في نفوس الاوائل من معتنقيه واتخذ النبي الاكرم صلى الله عليه واله، طُرقا عملية وأساليب ارشادية وتوجيهات تربوية في تذويب هذه النعرات الجاهلية، والشواهد كثيرة لمن يُسَرِح نظره في رياض تاريخ نبي الإنسانية ويجلو بصيرته بأنوار سننه ويتنسم عِطر سيرته، كمعالجة ظاهرة الرق - شراء الانسان وبيعه ! وظاهرة التمايز العِرقي واللوني والطبقي والطائفي والعشائري ... كحادثة جُويبر الذي كان دَمِيماً مُعدماً وتزوجيه من الحسناء الذلفاء من نُبلاء المدينة وعليتها، والمساواة في العطاء، وحُبّه للمساكين ومجالستهم وعطفه على الصغير وتوقيره للكبير و احترامه للنساء ... إن تصحيح قناعاتنا عن معنى بذل النصرة للعشيرة مثلا والدفاع عن ابناء العمومة والاسرة، ينبغي ان يكون مستنداً على تفكير سليم وهو نُصرة الحقيقة اينما ظهرت، والوقوف بوجه الظالم وان كان رحماً، وبالتالي فوقوفه بوجهه ايضا سيُعد نصرة له!، إذ ان ردعه عن ظلم الناس فيه خير العشيرة والاسرة عموما وفيه نجاته من عذاب الله تعالى لان " الظلم ظلمات يوم القيامة " كما يقول الحديث الشريف، ولذا وُضع معيار في تصحيح العصبية الإيجابية تميزا لها عن العصبية الجاهلية هو ما ذكره رسول الله صلى الله عليه واله لمّا سُئل عن العصبية فأبان جانبها السلبي بقوله : " أن تعين قومك على الظلم "، وما بيّنه حفيده الامام علي بن الحسين السجاد عليه السلام بقوله " العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم" ووثّق الاسلام الروابط الانسانية ودعمها بقوة وجعلها منطلقاً للروابط الايمانية وشدد على حرمة انتهاكها الى درجة ان هذّب نفوس المؤمنين بكسر حاجز الطبقيّة والاعتبارات النسبية والعشائرية فأعلن في دستوره بأنّ " المؤمنون إخوة " لِما لهذا الرابط من عُمق في وجدان ومشاعر الانسانية ودور في الحياة الاجتماعية، ولعلنا اذا رمقنا تاريخ نبينا الاكرم في تأسيسه لنظام المدنية كان من جملة أصلاحاته في التربية الاجتماعية هو المؤاخاة فلا فرق بين اسود وابيض او شريف او مُعدم او حاكم ورعيته او اعجمي و عربي ... فالكل سواسية تحت خيمة الايمان وان معيار التفاضل والكرامة هو الاتقى والاكثر جرياً في خدمة عباد الله وهذا ما ينال جزائه الفرد في الاخرة وترتفع منزلته عند الله تعالى الذي منّ عليه بالهدى والاستقامة، وان يلجم نفسه عن التفاخر والترفع ويدعو الله تعالى ان يعصمه منهما . بينما نرى في دول اوربا في العهود الماضية تأصيل للفوارق بين البشر عرقيا ودينيا ولوناً...حتى أُقر في دستورهم وصارت سياسة التفرقة العنصرية امرا رسميا معمول به في تلك البلدان بين السود والبيض من جهة و الأوروبيين من جهة أخرى، في الإسكان و التعليم و الوظائف و وسائل النقل و الأماكن الترفيهية... حتى دخلت مجتمعاتهم في دوّامة المشاكل والحروب الاهلية والمشاحنات والجرائم .. ومؤسف حقا ان نجد في مجتمعاتنا من تلوث بهذا الداء سواء ممن هم في مواقع المسؤولية او ممن هم ضمن الدائرة الاجتماعية وروابطها المتنوعة فيتخذوا من التمييز المناطقي والسكاني او النسبي او الثراء او التحزبي او الانتماءات المذهبية والدينية .. معيار في التوظيف او الترقيات او الاقصاء و التقريب او الاستحقاقات المادية والمعنوية او الاذونات القانونية او في المُعاملة من حيث الاحترام والتوقير الى درجة التحية والسلام !!! فالبعض تحيته للغني مثلا او صاحب الجاه تختلف عن الانسان الاعتيادي، فعن الامام علي بن موسى الرضا عليه السلام قال : « من لقي فقيراً مسلماً فسلم عليه خلاف سلامه على الغني لقي الله عزّ وجلّ يوم القيامة وهو عليه غضبان » !! وهذا ما أستغله اعداء الانسانية والاسلام فاتخذوا من تلك العصبية سلاح لتدمير الامم والشعوب، فبين الفينة والاخرى يرمون بقنابل موقوته - الفتن - في طريق الامم والشعوب وخصوصا اذا كانت تلك الشعوب مؤهلة لتلك الانفجارات الاجتماعية ! وقابلة لنمو الفتن من خلال الشائعات واثارة القضايا الحساسة .. وهي سياسة الماسونية الساعية الى تدمير البلدان الاسلامية بـ ( فرق تسد ) فتؤجج قضايا خامدة قد سكّن فورتها لطف الله تعالى بعباده .، ومما يزيد في إشتعال نيرانها جهل اولئك الموبوئين بالتعصب بأنجرارهم خلف مُخططات اعداء السلام والمحبة، فتنشب المُهاترات بين أفراد مذهب واخر، او جماعة واخرى، او طائفة و اخرى فيَحتدم الحال من الكلام الى القتال!، كل ذلك تعصبا للجهة التي ينتمي اليها، وهؤلاء في الحقيقة هم اداة تُحركها المُخططات من حيث لا يشعرون!، فبينا هم في عمق سوْرةِ التعصب ونيرانه نجد أولئك الاعداء يضحكون ملئ افواههم سرورا على ما يشاهدونه من صراع بين ابناء المجتمع الواحد ...، فيدخل البلد في نفق مُظلم من القلق واللا استقرار وتُستنزف موارده، ويتشتت ابنائه في دوامة الفتن والتخلف والجهل و الدماء ...، إن ضرورة نفَاذُ البَصِيرَةِ في قراءة ما وراء الحدث واجباً عقلائيا لا يتركه الا الحمقى ومن سَطُح تفكيره وسَذُج نظره، فالأندفاع مع التيار والركض خلف أي ناعق بِحجة التعصب لامر ما والنظر للاخر بعين العداوة فكل ما يصدر منه هو سيئات هذه النظرة ينبغي تجاوزها وان تُذوّب كراة التناحر بالرجوع الى الاصالة والأخذ بالمشتركات التي تربط ابناء المجتمع فهُم إما أخوة في الانسانية او إخوة في الدين فرابط الاخوة يبقى غنيا بالمودة وعصياً على ان تقطعه اختلافات لا تستحق التهويل او التفرقة فبالاجتماع رحمة وبالتشرذم نقمة، والحوار المُنتِج و المُثمِر هو الحل في كل تجاذب فكري .. – وخصوصا في مواقع التواصل !. إن المثقف اليَقُظ هو ذاك الذي يشخّص الداء ويتفنن في إطفاء سَوْرة النفوس المندفعة تعصباً لقضية ما مع تيار نيران الفتنة التي تؤججها اعداء الانسانية والدين، ويالهُ من دور يقع على عاتق الواعين !، ويالها من مسؤولية سيوثقها التاريخ لتكون منهجا يُحتذى وسبيل يُتخذ في المساهمة بتماسك روابط المجتمع وهو يرزح تَحْتَ وَطْأَةِ الفتن، وأفشال مخططات الاعداء .

 

 حسن عبد الهادي اللامي - كربلاء المنورة

 

في المثقف اليوم