قضايا

رشيد العالم: مَفهُوم التديُّن بَين الإنسان القديم والمُعَاصِر

rasheed alalimمنذ فجْر التـَّاريخ والعقل الإنسانِي يُجَسِّدُ العَلاقـَة بَيْنَ الإنسان وحَاجَتِهِ إلى الله، فقبلَ بعثـَةِ الأنبيَاء والكتب السَّمَاويَّة هُناك عِدَّة اكتشـَافــَات علميَّـة أركيُولوجيَّة ونقـُوش صَخريَّة وكتابَات مِسْمَاريَّة تعودُ إلى الحَضارَة المِسمَارية الأولى والسُّومرية والآشـُوريَّة والبرُونزيَّـة تثبت تعلق الإنسَان بالبُعد المِيتـَافيزيقـِي كسَبيل للبَحث عن الإلِـه، فعلى سَبيل المثال هُناك عِدة نقوش تثبتُ بأنَّ الإنسَان القديم كانَ فِي بحثٍ دائم عن الحَقيقة الإلهيَّة، من بين النقوش نجد نقوش: (طاسيلي ناجر) بالجزائر، وجبَال (أكاكُوس) بليبيَا، و(وادي درعة) بالمَغرب، ونقوش (تامجَالي) بكازاخستان، و(يوتاه) بالولايات المُتحدَة الأمريكية..إلخ، كلهَا تثبتُ بأن الإنسَان الحَجري والبدَائِي كـَان فِي سَعي دَائم في البحث عن الحَقيقة التِي تكمنُ فِي مَا ورَاء الوُجُود والطـَّبيعَة والعَالم المَحْسُوس، بَيْد أنَّ جَهل الإنسَان ومَحْدُوديّة قدرَاتِه الإدراكيَّـة والمَنطقيـَّة والمَعرفيَّة آنذاك، قادتـْهُ إلى شِبَاك التشبيه والتجْسِيد، فكان يُصَوِّر الإله فِي صُورَة حَيوان خرَافِيٍّ لهُ عِدَّة رُؤوس ويتطايرُ من فمِهِ الشَّرَارُ ويمشِي على ألفِ قدَمٍ ولهُ ألفُ جَناح.. أو يُجسدهُ فِي صُورَة طبيعيَّة أو ماديَّـة،  في البَحر كما نجدهُ واردًا في المِيثولـُوجيَا الإغريقيَّة باسم (بُوديسُون)، أو في   الشمس كما هُوَ واردٌ فِي أسَاطير المِصريِّين القدَمَاء باسم (الإله رَع)، وقد يُجسَّدُ مَعنويًّا كمَا جَسَّد الإغريقُ الحِكمَة في (أثينا)، والحُب والجَمَال فِي (أفروديت)، والفنـُون والشِّعْر في (أبُولـُو)..  إلى غَير ذلك، ممَّا يُؤكدُ على أنَّ الفِطرَة كانت مُلازمَة للإنسَان مُنذ ظهُورهِ أوَّلَ مَرَّة، وأنَّ الإنسَان كمَا أدرَك سُبُلَ البَقـَاء التِي تكمُنُ فِي الأكل والشُّرب والجِمَاع...، أدرَكَ أيضًا ضَرُورَة الجَانِب التعَبُّدِي والرُّوحِي، والخُضُوع لله الذِي خلقَ الكـَون وسَخَّر السَّمَاوَات والأرض والمَحَاصِيل الزِّرَاعيَّة.. بَيْد أن العَلاقة التي كانت تربط الإنسَان القدِيم بالطـُّقوس الدِّينيَّـة مِن تقدِيم قرَابين وأضْحِيّة .. كانَ مُرتبطـًا بالخَوف والرَّجَاء وهُوَ مَا يُفسِّرُ اقترَان الطـُّقوس الدِّينيَّـة عِندَ القدَمَاء بتقدِيــم الأضحيَّة والخيرَات وتقديمِهَا إمَّا بدَافِع الشـُّكر عَلى النـِّعمَة وإمَّا بدَافع اتقاءِ شّرٍّ أو حَادِثٍّ يُهَدِّد النـُّفوس..

فحينمَا كانت بَعضُ الظواهِر الطبيعيَّة تهَدِّدُ حيَاة الإنسان القدِيم أو حِينمَا كان يَرجُو شيئـًا مَا يُعينـُه عَلى البَقـَاء فحِينهَا يَتوجَّهُ إلى الإله فيَسألهُ النجَاة والشِّـفَاء والعَافيَّــة والأمْن والرَّاحَة..، وكثيرًا ما عُبدَ إله دُون آخر لسَبب الاستجَابة، فيحكي التاريخ أن إلهًا كانت تعبدُهُ قلة مِن النـَّاس و كانت تدعُو الإله بأن يُنزِّل عليهم مطرًا ليَعُمَّهُم الخيَر وتكثرَ نِعَمُهم وثمَارُهم ومَحاصِيلهُم الزِّرَاعيَّة..فحينما شَاع بأن الإله بعد أيام من الدعاء استجاب صَلواتهم وأنزل عليهم مطرًا غزيرًا بعدَ قحْطٍ وجَفاف،  توافدت القبائل الأخرى لعبَادَةِ نفس الإله.

تأملت سَاعَة في عَلاقة الإنسان القديم بالإله، ثمَّ نظرت إلى عَلاقتِهِ بالله فِيِ العَصر الحَالي فوجَدْتُ أنَّ الإنسان القديم فِي عبَادَةِ الله كانَ أحْسنَ حَالا في – الإخلاص التعبدي – عَلى مَا هُوَ عَليه الإنسَان الحَالي، بغضِّ النظر عَن العَقيدَة والعِبَادَة والشـَّريعَة وطريقـَة الصَّلاة..

 فالإنسان الحَدِيث صَار لا يَعْبُدُ الله ولا يتقرَّبُ إليه لا فِي مِحْنةٍ ولا مِنحَة، لانشغالهِ بفتن الحَيَاة الدُّنيَـا وملذاتهَا ومَفـَاتنهَا التِي لا تعَدُّ ولا تحْصَى وانشِغـَالِهِ باللـَّـهْو و اللـَّعِب والاخترَاعَات والابتكارَات والهَوَاتف الذكيَّـة التِي صَارَت جُزءًا لا يتجَزَّأ مِن كينـُونتِه، والتِي لا تفارقـُهُ سَواء كان في المَطبَخ أو فِي الحمَّام أو فِي المَسجد أو فِي المَلهَى، والإنسَانُ القديم كانَ حتـَّى في وقتِ فرَاغِه يَعبدُ الله عَبرَ طقوسِهِ الفلكلـُوريَّة وعاداتهِ الشعبيَّة مِن رَقص ومُوسِيقـَى وتأمُّـل وتزَيُّـن وطهي الطعام وإعدَاد أشربَةٍ قويَّـة وطوَاف حَولَ النـَّار كمَا عِند الثقافـَة الهندُوسيَّة بالهند و عند الهُنود الحُمْر بأمريكا، بينمَا الإنسَانُ الحَالِي مُنشغلٌ بكل مَا جَاد به العَصْرُ العَولمِيُّ الحَديث من أشيَاءَ عَلاقتِهُ بالله أضيَقَ من سمِّ الخيَاط وأوهن مِن خيط العَنكبُوت.

الإنسَان الحَالِي فقدَ الإخلاص فِي العُبُوديَّة للواحِدِ الأحَد، وصَار يَعتقِدُ فِي قدْرَةِ العِلم والأنظمَة التقنيَّـة والتكنولوجية أكثرَ مِمَّا يَعتقدُ فِي قدرَةِ الله، عَكس الإنسَان البدَائِي الذي كانَ يَطرقُ بَابَ الفِطرَة أنـَّى طرَأ لهُ حَادثٌ مُعَيَّن.

أمَّا بخُصُوص الإنسَان المُتدَيِّن فعندَ شَريحة كبيرَةٍ مِن المتديِّنِـين صَار الدِّينُ نوعًا مِن العُرف المَعنوي  الذِي يَجبُ القيَام به ونوعا من الإرث المَادِّي الذي يجبُ توريثهُ مثلمَا تورَّثُ الأرَاضِي والأملاك، دُون إدرَاك مَاهيَّة أنَّ الدِّينَ يَختصُّ بالقلب و الوجْدَان و أنَّ العبَادَة الحَقيقيَّة لا تكمنُ في الطقس اليَومِي، الفولكلـُوري و  الاعتيَادِي، وإنمَا تكمنُ فِي مِقدَار إخلاص الإنسان لربِّهِ وإخلاصِهِ فِي عَلاقتِهِ مَعَ النـَّاس وحُسن تعَامُلِه وسُلوكه، فالعبادة لا يُرَادُ بهَا الرُّكوع والسُّجود فقط بقدر مَا يُرَادُ بهَا إخلاص القلبِ والقـَالبِ لله كما قال (ابن عَطاء الله السكندري) في مُؤلفِه اللـَّطِيف (الحكم العطائية) ولذلك كانَ النبي الكريمُ ينشأ الصَّحَابَة وفقَ هَذا المَبدأ وكانَ دائمًا ما يُعلمُهُم أنَّ الصَّلاة لا تدخلُ الإنسانَ الجَنة حَتى ولو صَلى طولَ الدَّهر، لأن مَفهُوم التعبد الحَقيقي، مُتجَاوزٌ للطقس الدِّيني الاعتيادِي، ولذلك حينما سَئم الإنسَان مِن صَرَامة الطقس الدِّيني اليَومِي الذِي تحوَّل إلى ظـَاهِرَة الاجتمَاعيَّـة مُرتبطة فقط بالشَّكليَّات والمَظـَاهِر والقشـُور.. انقلبَ الكثير إلى تجَريبِ دِين جَدِيدٍ، دِين خَاص، رُوحَانِي، دِين بلا دِين.. فصِرنـَا نسمعُ بأنَّ مُعتنقِي الدِّيَانة البُوذيَّـة مَثلا فِي ازديَادٍ دَائِم ومُثير، مَا يجعَلنا نسَاءل أنفسنـَا هَل هذه العبَادة غيَّرَت فينـَا شيئـًا أم لا؟ هَل هَذبت أخلاقنـَا وحَسَّنت طباعنـَا وقوَّمَتْ أفعَالنـَا وسَدَّدَتْ عُقولنـَا ودفعتنا إلى العمل الصَّالح؟

إذا كـَان الجَوَاب: لا !!

فإمَّا أننـَا فِي حَاجةٍ إلى فهمٍ آخر للتدَيُّن أو أننـَا في حَاجةٍ إلى دِين آخـَر.

 

في المثقف اليوم