قضايا

وليد خالد احمد: ازمة الثقافة العراقية واشكاليات المثقف العراقي (1)

مدخل: لم يشهد العراق منذ بداية القرن العشرين مثيلاً لما يشهده حالياً من تدهور شوه كل ما كان يعزه في تاريخه الحديث والمعاصر من قيم مادية وروحية، وهو تدهور لا يمكن عزله عن التدهور الشامل الذي اصاب المجتمع العراقي بأسره منذ 14/ تموز/ 1958 ولا سيما في العلاقة المتبادلة بين المجتمع من جانب والثقافة من جانب آخر.

فالازمة الثقافية الماثلة الآن لا تعدو ان تكون جزءاً من الازمة الاجتماعية الشاملة، وتتمثل هذه الازمة في حقيقة الأمر في عجز المجتمع العراقي عن تطوير قواه البنيوية لتدهور علاقاته الاجتماعية الطبقية والمذهبية، وعلاقاته الاقتصادية بخاصة، بفعل اهمال حكوماته المتعاقبة لاغلب مؤسساته الانتاجية والعلمية والثقافية.. مما ولدَّ حالة اثرت بمجملها على البنى الاجتماعية المتوسطة والادنى، مما حدى بأفراد هذه المستويات التطلع بأمل كبير الى الثقافة والى المثقفين، حتى يمارسوا دورهم الطبيعي في التبشير بكسر حالة الجمود والسكون بين قوى المجتمع وتطورها حضارياً.

فأزمة المجتمع العراقي هي ازمة العجز الصارخ عن تطوير قواه البنيوية وبالتالي فأنه باسره يشكو من عجز خبيث في تطويرها، ناهيك عن تخلي حكوماته –سابقاً وراهناً- عن مسؤولياتها في قيادة التنمية الاقتصادية، فألقت بالمسؤولية على عاتق رؤوس الاموال المتخلفة ومن ثم اطلقت العنان لأنشطتها التي تولد اعلى الارباح.

من جانب آخر، فأن هناك جموداً واضحاً في بنى العلاقات الاجتماعية مصحوباً بعملية اعادة تشكيلها على اساس متدهور عن الاساس الرأسمالي الطفيلي المتخلف الذي ينطوي على الاستغلال المادي القهري للعاملين وما يدره من ربح لاصحابه. اما سلوك هذا المجتمع فيقوم على اساس المكسب المستباح بلا حدود، ويسعى لتحقيق الريع لا الربح.

ولقد جرى هذا التحول منذ بداية عقد الستينيات، غير انه تفجر تماماً منذ ان سنت الحكومات السابقة سياسة بيع بعض مؤسسات القطاع العام الى القطاع الخاص ولا سيما منذ بداية عقد التسعينيات، وهذه السُنة قائمة حتى اللحظة لكن تحت مسمى الخصخصة والتمويل الذاتي، فأشتعل المجتمع بالانشطة الربحية غير المنتجة او ما يعرف بالانشطة الطفيلية، ورفض –اي المجتمع- ممارسة الانتاج الرأسمالي نفسه، واشتغل بالخدمات، وبرع في اعمال الوساطة والسمسرة والتهريب، وانشغل بجني المكاسب السهلة التي لا تعتمد في مصدرها على العمل والكد داخل العراق وانما اصبح التعامل في الانشطة الطفيلية وبخاصة التجارة الاستيرادية مع العالم الخارجي، هو المصدر الاول لكل ذلك.

وبسيادة هذه الانشطة سادت العقلية الطفيلية عقلية الوساطة والسمسرة والتهريب والسوق السوداء.. وسادت انماط تخريبية في الاستهلاك ترويجاً لواردات أقل ما يقال عنها انها مخلفات صناعية وصار الانتساب الى الخارج شرفاً وتشريفاً، واصبحت التبعية مطمح جميع اولئك اللامنتمين الى وطنهم.

سادت هذه السياسة الاقتصادية من اعلى المجتمع لكنها سرعان ما اقتحمت كافة الطبقات حتى العمال والفلاحين والمثقفين واخذت في اعادة تشكيل وصياغة الطبقات على استعبادي استغلالي، ومع سرعة انتشار التفاوت الشاهق بين الطبقات مع السرعة المذهلة في تكوين الثروات، دب التحلل الاجتماعي وشاع اسلوب الارتزاق والتعيش على حساب الغير، ولا شك ان اختراق النشاط الطفيلي لكافة الطبقات قد حقنها بقيم فاسدة حتى ليصبح القول بأنه أفسد وعي المجتمع.

وهنا تكمن ازمة الثقافة العراقية واشكاليات مثقفها. فمجتمع النشاط الطفيلي ليس بحاجة الى الثقافة بمعناها العام، وان يكن بحاجة الى ثقافته الطفيلية. ان له قيمه المادية والروحية التي يجندها بالطبع وينشرها بين الناس، وهي قيم انحطاطية، قيم الركود الاجتماعي الآسن، قيم النهب والسلب الصارخ السافر، قيم اغتيال كل المقدسات من خلال بناء الثروات.

واستناداً الى أمية هجائية طاغية، واستناداً الى احتكار وسائل الثقافة والاعلام، واستناداً الى احتكار الحكومة لارزاق الاغلبية الساحقة من المثقفين، واستناداً الى عجز الطبقات الشعبية عن تقديم ثقافتها البديلة لأسباب شتى تتراوح بين المناخ المعادي للديمقراطية والتراخي من جانب مثقفي المجتمع، استناداً الى ذلك كله، تمت وتتم عملية اعادة تشكيل وصياغة الثقافة العراقية على اسس النشاط الانحطاطي.

وتبدأ هذه العملية بتجريد الشعب العراقي من انجازاته التاريخية لتفرض عليه قيم التطور الرأسمالي  التابع المشوه، ولتنتهي بتبرير وتبييض صفحة الاحتلال الامريكي وتوابعه. وهنا يكمن جوهر موضوع دراستنا في قسمها الثاني المتمثلة بأدوار مثقفينا وانماطهم الفكرية ومواقفهم الوطنية.

فمما لا شك فيه، ان الحديث عن المثقف العراقي وازماته المتمثلة في تحديد مواقفه وتفعيل ادواره واشكالية علاقته بالسلطة ومحيطه الاجتماعي، يقود الى الحديث عن المفهوم الدارج للمثقف الذي جنى جناية كبيرة على الثقافة وعلى موقعه في المجتمع العراقي. هذا المفهوم الذي رسخه عملياً النفعيون وادعياء الثقافة. ولهذا السبب تراجعت مكانة المثقف من مستوى العلم والثقافة والوجاهة في المجتمع ولدى الحاكم والسلطة المعنوية والادبية والفكرية، ومن موئل الضعفاء وملاذ المظلومين في مجتمعنا التقليدي.. الى الانسان الذي لا يفيد، الفائض عن الحاجة، الذي ينتحل وظائف لا وجود لها او غير القابل للتمثل والاندماج والذي ترتاب فيه السلطة وتؤلب عليه الدهماء واجهزتها، ان تطاول وخاض في هرطقة سياسية واجتماعية واقتصادية.

هذا المفهوم الهابط للثقافة، تضافر واقترن بوضع ملتبس وبائس للمثقف في فهم الخاصة والعامة عندنا، فغدا كل متعلم –يفك الابجدية- وكل اداري، وكل من يرطن بمفردات اجنبية لها علاقة بالطبخ والشارع والمقهى والسوق والحانات.. يعد مثقفاً. اما المثقف المفكر الكاتب المبدع المنتج، فلا شأن له ولا يؤبه له في مجتمع أميّ طغت عليه القيم المادية والاأبالية، وانحسار الاخلاق، وفقدان الاتجاه والهدف من الحياة.

ان حواراً جاداً ومعمقاً وهادفاً بمناقشة ازمة الثقافة العراقية واشكاليات المثقف العراقي ووضعهما في المجتمع والبناء الفكري بتعزيز القيم والمعايير الوطنية والاجتماعية والروحية، واحياء الفضاء الثقافي، من خلال تفعيل شروط الحياة الفكرية واحلال الشرط الثقافي المكانة اللائقة به في سلم الاولويات والمناصب والمسؤوليات، كفيل باعادة الثقة الى النفوس واشاعة روح الاطمئنان والامل في التخلص من العقد والانكسارات وردم الهوة بين الواقع الكئيب والممكن المنشود والتشوق الى مرتجيات عهد جديد بكثير من الامل والثقة والعمل المنتج.

في يقيني، ان قيام حوار صريح كهذا ترعاه المؤسسات الاكاديمية والثقافية –على علاتها- حول المسألة الثقافية والفكرية وتداعياتها في العراق، افضل بكثير لواقع عراقنا ومستقبله من انشاء وزارة للثقافة على رأس دوائرها ادعياء متخلفون أميون عابرون ابتداءاً من الوزير ونزولاً لاتفه موظف.

من هنا، نستطيع ان نطرح مظاهر او معالم خطيرة لأزمتنا الثقافية الراهنة التي باتت تشكل نوعاً من الاضمحلال الحضاري.

اولاً-  انتاج ثقافي يتميز في الواقع بالضحالة وبؤس الطرح، وبالجهل والتجهيل، ويقوم على مسلمات غير مسلم بها وليس لها من نتيجة سوى الحيلولة دون النظر في الامور الجوهرية والانصراف الى الصغائر والتفاهات والثقافات الرخيصة مما يشكل افلاساً روحياً بالفعل يضاف الى ذلك اهدار اللغة العربية تعليماً واعلاماً وخلق مصطلحات وتسميات عامية ركيكة ومبتذلة وترويج مصطلحات وعبارات اجنبية تشكل مسخاً رديئاً لرصيدنا اللغوي مع ربط فئة الشباب باللغات الاجنبية المطلوبة للعمل او الرائجة حتى في الاغنية.

ثانياً- محاولة اعادة تشكيل بعض المثقفين العراقيين- ممن لهم الاستعداد لذلك – ومن ورائهم المجتمع كله بروح القيم الانحطاطية الطفيلية مع التنكر لكافة القيم التي سادت حياتنا من قبل. في الوقت نفسه تنمية ونشر عدم اللامبالاة بالمجتمع وعدم الاشتغال بالسياسة وتنمية ونشر غرائز وقيم فردية مدمرة للمجتمع في محاولة تزييف الواقع بل تجميده حتى يمكن القول باننا اصبحنا امام معضلة خطيرة هو اعادة تحديد هوية العراق من جديد.

ثالثاً- ازمة البحث في العلوم كافة من انسانية وعلمية وبصفة خاصة ازمة البحث في علم الاقتصاد والعلوم السياسية في طبيعة الدولة والسلطة في الدولة، في الطبقات والفئات المختلفة، في علم الاجتماع.هنالك بالطبع دراسات قيمة ورائدة ولكنها في النهاية قليلة العدد محدودة الانتشار، فقد تدهورت مكانة الكلمة المكتوبة بالمقارنة بالكلمة المسموعة او الكلمة المرئية.

رابعاً- تحويل مناهج التعليم لتخريج صناع ومهنيين او مجرد متخصصين لا يشتغلون بالتفكير. ومن هنا تدهورت مكانة الجامعة على الرغم من شدة الاقبال عليها للحصول على الشهادة، بل ان دوائر الثقافة المختلفة مشغولة في الواقع بتقديم ونقل ثقافات تصيب الناس بالبله او العته او البلادة والعجز عن التفكير، صحيح انها تقدم بعض اولويات الثقافة والمعرفة للأميين لكنها لا تتصدى لطرح القضايا الجوهرية للتفكير العام. وعلى العكس فانها تشجع على اهمالها وعدم التصدي لها اصلاً، بل ان المهمة الاساسية لدوائر الثقافة الرسمية هي حمل الناس على عدم التفكير في القضايا الاساسية التي يجب ان يفكروا فيها وفي نفس الوقت حملهم على التفكير في الامور الثانوية والتافهة التي لا تستاهل التفكير فيها. ولهذا، فهي دوائر امينة على مهمتها التي عهدت بها دولتنا اليها وليست هذه الدوائر على عكس ما نظنه احياناً بالدوائر القاصرة او المقصرة. انها تؤدي مهمتها في منع الناس من التفكير، فمجتمع النشاط الانحطاطي ليس بحاجة الى الثقافة لكي يبقى او هو بالدقة بحاجة الى ثقافة من نوع يتولى انتاجها ونشرها بنجاح.

علينا هنا ان نستعيد حقيقة الاستقلال النسبي للثقافة في المجتمعات، فالواقع ان مثل هذا الاستقلال يتواجد بشكل اكبر في المجتمعات النامية، فان الطابع المتخلف وغير الكامل لتشكيل الهياكل الاقتصادية غالباً ما يؤدي في الواقع الى تقليص دور العلاقات التحتية في تطوير الهياكل الفوقية.

ولهذا فان الفجوة بين الاقتصاد والسياسة هي الفجوة التي تحكم الاستغلال النسبي للبناء الفوقي في المجتمعات النامية وهي اوسع بكثير مما هي عليه في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة. ولهذا تظهر هنا اهمية خاصة للهياكل الفوقية بما فيها الثقافة بالنسبة للهياكل التحتية وتلك ظاهرة يستفيد منها كل من اعداء الثقافة وانصارها على السواء.

ان الحالة الثقافية في العراق معقدة ومزنة حقاً، فنحن منذ تأسيس دولتنا لم ندشن حواراً فكرياً ثقافياً متفاعلاً ومثمراً، وما ينشر على صفحات جرائدنا ومجلاتنا من حين لآخر، هو عزف منفرد وصوت نشاز لا ندري هل يقرأ ويترك أثراً يختمر في النفوس ويفعل فعله في لاحق الايام ام لا يشغل اكثر من الصفحات التي شغلها وسودها؟

لقد كنا نؤمن بالتراكم الذي ينتج التوعية والانطلاقة، ولكن بعد اكثر من (كذا) عقد من الانتظار الابله حصل تراكم الرداءة، وسادت قيم التخلف والجهل والرعونة وطغيان الامية، أمية الفكر، وامية التعليم، واقع تعبر عنه دلالة تلك المقولة التي شاعت بين المثقفين والمتعلمين وعامة المجتمع: ماذا تفيد الثقافة؟ ما فائدة العلم؟ لأن كل شيء في مجتمع متخلف منهزم تنهشه امراض الانانية، اصبح يقاس ويوزن بمكونات الحياة الرخيصة – أكل وشرب، مقتنيات استهلاكية نساء...- اما الروح وقوة الارادة والابداع وسعة الخيال وحرية الفكر وما يستتبعه ذلك من أمل في حياة اكثر انفتاحاً وحرية وثقة في قدرات الذات ونقد فعال لحياتنا الثقافية والسياسية والاجتماعية، وحوار متكافئ يرسم اتجاهات فكرية تعبر عن تيارات سياسية واجتماعية يتجسد فيها الحق في الاختلاف، مثل الحق في الوجود دون النزوع الى التسلط والهيمنة والابتزاز الذي يمارسه بعض السياسيين، وتسيد ثقافة الارتجال والمناورة واساليب المكر. فذلك كله غائب وغير مرغوب فيه، ويبدو انه أبعد عن نزعة الديمقراطية واستعادة عافية الروح ونقاء الضمير.

لقد ضاع منا حتى ما كان يبشر بمستقبل ثقافي وحوار فكري واعد كانت تتجلى فيه بذور الاتجاهات التي كانت تحاول التعبير عن نفسها متسترة تحت غطاءات مخادعة، مثل كتابات جيل الخمسينيات والستينيات. لقد كان هذا الجيل برغم الاختلافات وتعدد الانتماءات طمح الى تأسيس واقع ثقافي ورعاية واحة الفكر التي يتقيأ ضلالها رجال السياسة ولكنه اخفق. اشتبكت عليه اشجار الغابة وطرائدها وتناهبته الايديولوجيات فلم يفلح في بناء مدرسة عراقية فكرية حية لا تنحني امام الاعاصير ولا تسقط في مستنقع سنوات الدماء والردة وجنون تدمير الذات وسياسات الارتجال والمغامرة والحقد وسديمية النظر.

ان جيل هذين العقدين وما تلاهما.. مثل الجيل السياسي ولنفس الفترة الزمنية اخفق في تأسيس مدرسة عراقية فكرية ومن ثم فان الفكر السائد اليوم هو فكر التسطيح والضحالة والاعتيادية، الفكر المنهزم الذي يدافع عن البديهيات ويرفع شعار المسلمات، في عالم كل شيء فيه يتغير ويتجدد ويكرس الجمود والرتابة ويحمي طقوس الموت المجاني جيل يدلف نحو نهايته ويدخل في المحاق حاملاً احلامه المجهضة.

هل مطرقة السلطة ام بريقها كان هو السبب؟ ام ان مرحلة بناء الدولة ومؤسساتها بعد اعلان جمهورية العراق وما تتطلبه من جهود الموظفين العاملين في مفاصل سلطتها حالت دون نجاح هذا الجيل والاجيال التالية له، وأفشلت المشروع؟

أليست هذه الاسباب التي كثيراً ما تتذرع بها هي من الكوابح التي تساعد على عدم تأسيس ثقافة وطنية متقدمة، وترسيخ مدرسة عراقية فكرية فلسفية تتفرع عن السياسة والاقتصاد والتعليم والعلوم والتاريخ والاجتماع.. تحدد المعالم وتثبت المقومات الاساسية، وترقي ملامح التنوع الثقافي الوطني في اطار الوحدة العراقية، وتمكن لحركة الابداع والخلق والاستقلال من ان تنطلق في مسارها الصحيح، مدرسة تتغذى من الابداع العالمي الانساني وتغتني من مخزونها التراثي الحي وتجسد التواصل والانساق والتكامل، ان على المستوى الافقي ام العمودي، مدرسة تناضل من اجل افتكاك حقها في المشاركة في رسم معالم المستقبل وتوجيهاته، وتمارس هذا الحق في الصيرورة التاريخية للمجتمع من خلال التعليم والمؤسسات الاعلامية والكتابية لفضح وتعرية المغاليق السياسية والدينية واقحام المحرمات في المعابد المندسة بالنقد جوهر الموقف الانساني.

أليس من نتائج هذا الركون الى كنف التدهور ان تنزل الانظمة السياسية – من 14/ تموز/ 1958 الى 17/ تموز/ 1968 حتى ما بعد 9/ نيسان/ 2003- بمؤسساتها الى استرضاء واستخدام اصحاب المهمات القذرة والتقرب من المغامرين وذوي السوابق القانونية وسماسرة المواقف والاميين وانصاف المتعلمين من المتاجرين بكل شريف ونبيل ليصبحوا من ذوي الشأن في تيسير الشأن العام ولا سيما الثقافي منه ؟

ان اللغة العربية دقيقة في وصف هؤلاء بأوصاف تليق بكل صنف فهي بعبقرية لا نظير لها تفرق بين الراجن والآشن، والوالغ والواغل والمهتلك، فهي صفات تميز حالة كل آكل من موائد السلطة، اية سلطة، ولا سيما تلك السلطة التي لم يستطيع المثقف العراقي الحقيقي ان يسمق اليها لأسباب اخلاقية ومبدئية فنزلت الى ادعياء الثقافة واشباه المثقفين لغاية في نفسها، ولم تستيقظ هذه السلطة وتفطن الى انها بنزولها الى مستوى هؤلاء انما هي تكرس الرداءة وتديم التخلف وتعيق الانطلاقة؟

ان القضية المركزية التي للأسف لحد الآن لم تتناولها الكتابات العراقية بشكل جدي والتي يشتد النقاش حولها، الا وهي قضية علاقة المثقف العراقي بالسلطة وبمحيطه الاجتماعي، وهي مسألة ترتبط برباط وثيق بالمسألة الثقافية التي نحن بصددها، وهذه العلاقة هي في رأينا تنقسم الى قسمين: علاقة عدوانية وعلاقة احتواء. ولكن قبل ذلك اولى واحرى بنا ان نفكر في موقع المثقف العراقي في مجتمعه، والادارة السياسية والحياة العامة، ودوره في صناعة الرأي العام وامتلاك الحقيقة وانتاجها. ونسأل انفسنا: كم من المثقفين من نودي لتسلم منصب او تولي مسؤولية، رفض التبعية والعلاقة والامتثالية للحاكم، واعياً ان هذا المنصب سيكون على حساب كرامته كمثقف وحريته واستقلال رأيه وموقفه؟

منصب تهافت عليه الكثير ولكن كم منهم باعوا ذممهم ورضوا بالرذيلة وغمرتهم اضواء المناصب وجرفتهم المسؤوليات وكانوا حرباً على الثقافة والمثقفين الذين لم يلحقوا بهم.

كيف ومتى يحمي المثقف العراقي عذريته ويصون شرفه ويكون من صناع القرار والتأثير في الرأي العام؟

نحن لا نعرف لمثقفينا –البعض منهم- الذين دعوا لتولي مسؤوليات الا تلبية الدعوة والتنكر لافكارهم ومواقفهم وقناعاتهم والانسحاق امام الحاكم الذي سارعوا الى تبرير مواقفه وتمرير افكاره ومشاريعه وتسويق جهله، وحجتهم دائما انهم يخدمون وطنهم، يؤدون المهام التي تناط بهم ولا يترددون ولا يتخاذلون وسرعان ما ينقلبون على شريحتهم التي انبثقوا منها، فيتهمونها بالانغلاق وبعدها عن الواقع وجهلها لحقائق الاشياء، وانهم هم اصبحوا يعرفون حقائق الامور وخباياها، والعارف في مفهوم القوم كائن بائن، كائن مع سيده، بائن عن الناس. وفي هذه الحال تطرح اشكالية الحقيقة، من يملكها وينتجها، والنخبة من يمثلها؟

 

في المثقف اليوم