قضايا

وليد خالد احمد: ازمة الثقافة العراقية واشكاليات المثقف العراقي (2)

صناعة الثقافة وتشكيل السلوك المجتمعي: ان القدرة على التفكير هي الخاصية المميزة للانسان. فمن خلال الانتاج المادي للحياة، وبالتعامل مع كل من الطبيعة والمجتمع، وبالتفاعل مع البشر فيما بينهم، ومن خلال انعكاس كل من الطبقة (الانحدار الطبقي) والمجتمع على الانسان، تظهر الافكار، وتتشكل في اذهان الناس قيم، هي علاقات بين البشر، وهي علاقات واعية. فالناس فيها على بينة من انهم يؤثرون بعضهم على بعض من خلال السلوك المتبادل فيما بينهم. ومع ان الناس لا يكونون على وعي بالعلاقات الاقتصادية فيما بينهم، فانهم على العكس على وعي بعلاقاتهم الاجتماعية عادة، ومن ثم تشكل في  اذهانهم افكار معينة وهم بواسطتها يصبحون اكثر وعياً بهذه العلاقات الاجتماعية نفسها.

ان العقل، هو ارقى ما لدى الانسان من اجهزة. والتفكير، هو ارقى ما يقوم به من نشاط. وبهذا التفكير يحاول ان يحول ويغير ويحسن البيئة التي تحيط به مستخدماً قوته الاساسية وهي العمل. ومن خلال العمل المشترك تولد اللغة، وتحول الانسان الى هذا الكائن الذي نعرفه. فأنه اذا كان قد قيل بأن الإنسان كائن اجتماعي وانه كائن صانع ادوات، فانه في الحقيقة كائن مفكر، كائن سياسي.

والتفكير هو معرفة جوهر الاشياء. ويدل تاريخ التفكير الاجتماعي للشعوب على ان اصل الافكار مرتبط اوثق الارتباط بتطور الحياة المادية للمجتمع. ومن ثم تمارس هذه الافكار تأثيرها الضروري على مجرى التطور الاجتماعي، ومع ان الانتاج المادي بما ينطوي عليه من قوى وعلاقات هو اساس ومصدر الثقافة بقيمتها المادية والروحية، فان الثقافة لا تتبع بطريقة تلقائية ما يقع من تغيرات في الحياة المادية للمجتمع، وانما تتميز الثقافة باستقلالها النسبي عن اساسها المادي، بل وباتصال تطورها بثقافات المجتمعات والشعوب الاخرى من حيث الزمان والمكان.

ان استقلال الثقافة نسبياً عن أساسها فمعناه ان الثقافة جزء من البناء الوطني للمجتمع، هذا البناء الذي يتميز بتعقد تكوينه وتعدد مستوياته وتباين العلاقات بين اجزائه من جانب والاساس الذي يقوم عليه من جانب آخر. ومن هنا، فان البناء الفوقي لا يعكس آلياً ولا مباشرة ولا فوراً اوضاع الأساس المادي للمجتمع، وبخاصة اوضاع العلاقات الانتاجية بين طبقاته. وبالتالي فانه ليس انعكاساً شفافاً لعلاقات الانتاج. فالى جانب حقيقة ان كل جزء من اجزاء البناء الفوقي يتميز بمضمونه الخاص الفريد، فانه يتميز ايضاً باستقلاله النسبي عن علاقات الإنتاج.

ان قوى عديدة موضوعية وذاتية تحول دون التطابق الحرفي بينهما. فعلاقات الانتاج او الاساس المادي للمجتمع او البناء التحتي في المجتمع المتناقض طبقياً هي في الواقع علاقات متناقضة اصلاً تعبر عن تناقض المصالح بين الطبقات. ولذلك فان البناء الفوقي الذي يعكسها متناقض هو الآخر.

والطبقة التي تمثل القوة المادية السائدة في المجتمع هي نفسها وفي نفس الوقت القوة الروحية السائدة. ومع ذلك فهي لا تنفرد بالساحة الاجتماعية. وانما هناك قوى في مواجهتها تعارضها وتقاومها. ومن هنا تتعدد ابداعات الثقافة، بل وتتصارع فيما بينها. واذ ان بعض عناصر البناء الفوقي تبقى قائمة حتى بعد القضاء على البناء التحتي الذي انجبها، اما بحكم قوة العادة والتقاليد واما بحكم صلاحيتها لخدمة المجتمع الجديد، فان عناصر من الثقافة تستمر في الوجود بعد زوال المجتمع الذي تولدت عنه. ففي البناء الفوقي لأي مجتمع عناصر غير عابرة ذات اهمية للبشرية جمعاء، كالمبادئ الاخلاقية وافضل الاعمال الفكرية والادبية والفنية.

واذا كان صحيحاً ان دور البناء الفوقي بأسره انما يتحدد بطبيعة الدولة والطبقات التي تسيطر عليها، فان الثقافة تصبح بذلك اداة تشكيل وتنظيم النشاط الاجتماعي. وتلك هي وظيفتها الخاصة. اما وظيفتها العامة فهي توجيه المجتمع نحو الافضل. ففي كل مجتمع يطلب من الثقافة بصفة عامة ان تشكل وترسخ نظاماً للقيم يساعد على توجيه افراد المجتمع، نظاماً يعطي الأولوية للقيم الاجتماعية، للاحتياجات الضرورية اجتماعياً، وللطرق السليمة اجتماعياً لاشباعها. ونظرا للطابع المتصاعد للاهداف الاجتماعية، والطابع المتصاعد لطرق تحقيق هذه الاهداف، فان الثقافة الاجتماعية هي التي تهدي المجتمع في النهاية لتطوير قواه الانتاجية.. وبهذا المعنى تصبح للثقافة وظيفة اجتماعية اوسع من وظيفتها الطبقية.

ويفترض ذلك، ان الثقافة تتطور مثلما يتطور المجتمع، ولذلك يتميز تطور الثقافة بالانتقال من مستوى ادنى الى مستوى ارقى، غير ان العملية لا تجري بهذه البساطة. انها لا تجري بصورة تلقائية، كما انها لا تمثل مجرد تراكم في القيم، وانما تنطوي على عملية اجتماعية واعية لمواصلة واطراد التحرر الروحي للانسان من كل القيود الاجتماعية التي تحد من تطوره او تحط من قدرته على الخلق. فالتقدم الثقافي انما يعني استخداما اوسع وانتشارا اكبر للقيم والمثل العليا، كما يعني في الوقت نفسه مشاركة اوسع من قبل الجماهير في الخلق الواعي لهذه القيم والمثل العليا.

لقد طورت المجتمعات الطبقة الثقافية على اساس طبقي. وبالتحديد على اساس التخصص، اي على اساس فصل العمل اليدوي عن العمل العقلي. ومن ثم نشأ احتكار الطبقة السائدة للعمل العقلي. وفي كل عصر كانت الطبقات المالكة تحتكر الثقافة كوسيلة من وسائل تأمين هيمنتها، ومن ثم حرصت على حرمان الطبقات العاملة منها، من انتاجها ومن استهلاكها على السواء، لكن ذلك لم يمنع الطبقات العاملة من صنع ثقافتها هي الاخرى.

في كل مجتمع طبقي تتكون الافكار الاجتماعية لكل طبقة بطريقتها الخاصة. واذ تصبح افكار الطبقة السائدة هي الافكار السائدة، فان الطبقة التي تسيطر على وسائل الانتاج المادي تسيطر بالضرورة على وسائل الانتاج الثقافي. ونتيجة لذلك تخضع لها بوجه عام افكار اولئك الذين لا يملكون الانتاج الثقافي. وفي كل عصر كان المثقفون هم الممثلون لمصالح الطبقات السائدة، كانوا هم القوة الروحية السائدة في المجتمع، يعبرون عن الطموحات الاجتماعية والمصالح الاساسية للطبقات السائدة. لكن ذلك لم يمنع ابداً من افراز الطبقات المستغلة والمضطهدة لمثقفيها من ابنائها او المنتمين لها.

في عصر العبودية كان الكهنة والفلاسفة في المقدمة كمثقفين. وفي عصر الاقطاع كان رجال الدين والفلاسفة والادباء والفنانون والعلماء. وفي ظل الرأسمالية ارتفع شأن الثقافة. فقد مهدت لقيام الرأسمالية تورة ثقافية عظيمة الشأن ابرزت قيم الحرية والإخاء والمساواة، وطرحت كل شيء على تحكيم العقل.

وفي المجتمع الجديد الذي تأسس على العمل الحر في المصانع والاقتراع العام في الانتخابات لم يلبث ان اتاح لاول مرة في التاريخ لطبقات مضطهدة ومستغلة ان تنال حظاً متزايداً من الثقافة السائدة وان تلعب دوراً متزايداً ايضاً في خلق ثقافتها الخاصة.

هكذا تتحدد مسؤولية المثقفين، فهم ضمير المجتمع، وهم بصفة خاصة ضمير طبقاتهم. انهم يحملون الوعي الاجتماعي الى هذه الطبقات، مهمتهم هي التوجيه بدءاً باعلان الحقيقة وانتهاء بالالتزام الاجتماعي ازاء طبقاتهم. فما مدى هذا الالتزام؟

ان الثقافة الملتزمة اجتماعياً وطبقياً تعني في الواقع مراتب متصاعدة من الالتزام. فهناك اولاً مرتبة الوصف، ويتم بالاعلان عن الحقيقة الاجتماعية. وهناك ثانياً مرتبة التفسير، ويتم بالشرح والتحليل واحياناً التبرير للحقيقة الاجتماعية. وهناك ثالثاً مرتبة التغيير، ويتم بالتطابق بين جوهر الابداع الثقافي وحركة المجتمع، وبالتحديد بالتطابق بين وجدان المثقف ووجدان الجماهير.

وهنا يتشابه ابداع المثقف وابداع المصلح الاجتماعي او المناضل الثوري. فكل منهم يستمد الالهام من مجتمعه وشعبه. فمعنى ان تفكر هو ان تعرف، ومعنى ان تعرف هو ان تفعل، والفعل هنا هو النضال، وبالنسبة للمثقف فان المعمل المجتمع نفسه.

بالطبع يتفاوت المثقفون هنا من حيث نوع الالتزام الاجتماعي، فالمثقفون المنتمون للطبقات الحاكمة ملتزمون دفاعاً عن مصالحها بالاقتصار على مرتبة الوصف واحياناً ما يصل التزامهم الى مرتبة التفسير، وغالباً ما تتخذ طابع التبرير.  وقد يصل التزام مثقفي الطبقات الحاكمة الى مرتبة التغيير، لكنه التغيير بالرجوع الى الوراء. وعندئذ يلجأون عادة الى اساليب تغييب العقل وتزييف الوعي. اما مثقفو الطبقات المضطهدة والمستغلة، فانهم ملتزمون بالطبع دفاعاً عنها بالذهاب حتى الى التغيير، اي الانتقال من الحاضر الى المستقبل.

ومن المفهوم ان تتجمد ثقافة الطبقات الحاكمة عند حدود الحاضر، لكن عندما يتوقف مثقفو تلك الطبقات عند هذه الحدود، فانهم يتراجعون بالتزامهم الاجتماعي الى مستوى التبرير. اما عندما يتخطون الى تغييب العقل وتزييف الوعي فانهم ينفون انفسهم كمثقفين.

ان المثقفين على اختلاف طبقاتهم هم ضمير المجتمع. وعندما يفسد ضمير المجتمع فان ازمة المجتمع تكشف في الوقت نفسه عن ازمة الثقافة وازمة المثقفين، عندها لا تعود الثقافة السائدة تكفل للمواطنين الفرد رؤية داخلية في احداث عصره ولا هي تستطيع بالتالي ان تكون هاديا في تصرفاته.

 

البنى الثقافية وتنميط المجتمع

تخلق العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وكذلك البنى الثقافية السائدة في فترة تاريخية معينة نمطاً معيناً من الحياة، بقيمه الخلقية والروحية، يدفع الانسان مهما كان انحداره الطبقي الى ربط احلامه وطموحاته بالنمط والمثل الحياتي السائد. وفي مجتمع كمجتمعنا نرى نمط الحياة السائد يدفع مصائر العديد من افراد المجتمع ولاسيما اولئك المنحدرين من طبقات اجتماعية وسطى ودنيا، الى التشبث الى نمط الحياة المدني/ المتحضر السائد مما يبعدهم عن التفكير الموضوعي في واقع حياتهم نفسها وعن طريق تطويرها ومن ثم تغييرها.

وبما انهم لا يختارون الظروف ولا العصر الذي يعيشون فيه، فان اعادة خلق الانسان وغرس القيم الروحية الثقافية الاصيلة فيه، واعادة تربيته تولد الوعي الكامل بتلك الظروف، ويمكنه بذلك استنباط طرائق التغيير في تنامي قدراته واغناء ذاته.

ولكن الغالبية العظمى من فئات مجتمعنا محرومة من غائية عملها، ولا تملك سوى قوة العمل الوسيلة الوحيدة للوجود مما يخلق نمطاً اجتماعياً متخلفاً للسلوك ومعايشة الواقع تغيب فيه كل رابطة اساسية بين الانسان وذاته ويتقوقع داخل نفسه في عزلة تامة عن محيطه، ويزيد من غربته ذلك السيل العارم من الاعلام الثقافي الذي يشيع البلبلة والغثائية والسطحية والجهل المركب، مقدماً حصيلة من المعاني والوسائل الاحتيالية، تصرف الفرد عن الاتيان بأية فعالية انسانية حقيقية تساهم بدورها في خلق القيم الثقافية الاصيلة والتي تعمل على تغيير اسلوب ومستوى حياة هذه الفئات وبخاصة الشعبية منها تغييراً عميقاً.

والحقيقة ان الانسان واقعياً وموضوعياً كائن شامل. هو كائن مادي وروحي متكامل وهو بنشاطه العلمي المتنوع ينتج كلاً من الانتاج المادي والانتاج الروحي للحياة. وهذان الانتاجان لا ينفصلان في الانسان بل يشكلان وحدته المتميزة في هذا الكون.

فالانسان، استناداً الى قدر من المعرفة، يطور قواه المنتجة ويصبح صانع ادوات، فالانسان استناداً الى قدر من تطوير قواه الانتاجية، يطور الطبيعة البدائية او الوحشية من حوله. ويخلق من ثم لنفسه طبيعة اخرى اصطناعية او طبيعية متحضرة، هي في النهاية ثمرة العمل الانساني والمعرفة الانسانية. هي ثمرة الثقافة المتراكمة. حتى لتصبح الثقافة بذلك هي المعرفة العامة التي يتصدى بها الانسان لتطوير قواه المنتجة وتطوير علاقاته الاجتماعية والانتاجية ايضاً. بل وتطوير وعيه بنفسه، ومن ثم تصبح الثقافة زاده وعدته لتطوير الطبيعة والمجتمع والانسان.

والانسان هو واقعياً وموضوعياً كائن سياسي. ليس الانسان كائناً اجتماعياً فقط، اي انه لا يعيش الا في مجتمع فقط، وانما هو كائن لا يستطيع ان يتعرف على ذاته الا في محيطه البشري. ومن هنا، فهو كائن صانع ادوات، وهو كائن واع. وتتأكد بذلك طبيعة الثقافة بوصفها الوعي الاجتماعي العام. فالثقافة دائماً ظاهرة اجتماعية، وهي بمعناها الواسع تمثل مجموع القيم المادية والروحية التي يعزها الانسان. ومحتواى هذه القيم من عصر الى عصر هو الذي يشير الى المستوى الثقافي للمجتمع المعين.

وبوصفها مجموع القيم المادية والروحية للمجتمع فانها تطوى جناحيها على امرين:الاول: هو هذه القيم ذاتها، اي مجموع المعرفة العلمية والمفاهيم والاعمال الادبية والفنية والقانونية ومبادئ الاخلاق واللغة. اما الثاني: فهو مجموع وسائل خلق تلك القيم واستيعابها ونقلها ونشرها.

ان القيم الثقافية الاصيلة التي نعنيها هنا، هي الحضور الشامل للقيم الانسانية التي تحتضن في جوهرها الانجازات الانسانية على مر العصور. انها تختصر ثمرات جهود الانسانية بصراعاتها ونجاحاتها واخفاقاتها، وتقدمها من ثم خبرة ثرة للفرد وللمجتمع من اجل المستقبل.

فليست هناك ثقافة تخص هذا المجتمع او ذاك فقط، وليست هناك ثقافة دخيلة او ثقافة مستوردة، انما تتواصل الثقافات في حركتها فيما بينها مؤثرة ومتأثرة، حاملة انجازات وبصمات هذه الثقافة الوطنية او تلك.

وتتفاعل الثقافات الوطنية وتسند العناصر التحديثية/ التقدمية في كل منها، العناصر التحديثية/ التقدمية في الاخرى، وتتضافر في صراعها ضد عناصر التخلف، ولا يبقى في عملية التطور الاجتماعية بشكل عام سوى ما يستجيب لحاجة المجتمع في حركته الدائمة الى امام وما ينسجم وتطلعاته ضمن خصائصه الوطنية العامة والمتأثرة بخصائص القوميات المختلفة المتآخية في البلد الواحد، وفي اطار تراث المجتمع الحضاري ولغته وتاريخه وظروفه الموضوعية.

وبما ان الثقافة وجميع ميادين البناء الفوقي عملية تاريخية معقدة تخلقها الظروف الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية، فانها تعمل بدورها على خلق القوانين العامة للتطور مؤثرة في احدى تلك المراحل على تطور العملية الاجتماعية/ الاقتصادية نفسها، والتي تتأخر في بعض الظروف التاريخية الخاصة لاسباب خارجية وداخلية معينة عن العملية الثقافية، والتي تتأثر بدورها اذا وجدت نفسها عرضة لتحديدات اجتماعية وتاريخية خاصة.. ولذلك فان الطابع التحرري التحديثي التقدمي لحالة ما والتقليدي الرجعي مثلاً يبقى شيئاً موضوعياً لا يتوقف عن وعيه او الوعي به.

والقضية هي دائما معرفة ما اذا كان هذا الاندفاع الى امام او التخلف او الجمود امر يجري على اساسه قبوله او رفضه. كما ان الاجابة على تساؤل كهذا تقرره المواقع الطبقية للمتلقي وللمعطى على حد سواء، وكذلك فان ما يعتبره المثقف الواعي المسؤول متجاوزاً في نظره لا يمكن ان يكون بالضرورة متجاوزاً في نظر المتلقي او في نظر اوسع قطاعات المجتمع. وبعبارة اخرى فان المثقف الواعي يجب ان يعي ان ما يبدو بدهياً بالنسبة له، ليس بالضرورة بدهياً لقطاعات كبيرة من المجتمع. ومن هنا تنبع مسؤولية المثقفين التاريخية في توعية المجتمع بنشر الفكر التحرري التحديثي التقدمي والخبرات العالمية الراقية الى جانب التعرض النقدي للظاهرات المتخلفة وللجمود المعرفي، والكشف المتواتر لعمليات التشويه المتواصلة للقيم الثقافية والخلقية، ولعمليات التفريغ المدروسة لمحتوى الثقافة عامة والتي تكون فكر الانسان وعالمه الداخلي. اما طبيعة الثقافة ودورها في تطوير المجتمع واغناء عالم الفرد الداخل، فيقررها نمو القوى المنتجة واتساع الصراعات الطبقية والسياسية والقومية، كذلك يحددها عمقها ومدادها الحقيقي وانحيازها التام لمصالح اوسع فئات المجتمع، بل وانحيازها التام للعقل. فالعقل وهو يرفض حالة اللاتوازن والتخلف انما يبحث عن قيم جديدة يخلفها المجتمع بكفاحه ونضاله في سبيل ثقافة شعبية قومية حقيقية تقف عائقاً وسداً امام جميع اشكال الثقافة المصنعة والتي تحاول حرفها عن اهدافها الحقيقية.

ونرى المثقفين عموماً وفي مختلف البلدان، وهم ينتمون الى الطبقة المتوسطة الوظيفية او العاملة يجدون انفسهم – الى جانب وعيهم التام بالتناقضات – يشكلون اطاراً للنظم القائمة والتي لا مجال لمناقشة غاياتها ومعناها، ومن هنا تبرز اهمية تلك اللحظة في حياة المثقف عندما يعي مسؤوليته التاريخية تجاه مجتمعه، وعندما يعرف انه يجب ان يساهم في بناء مجتمع جديد خالقاً بانجازاته العديدة في مجالات الادب والفن والسياسة وجميع ميادين البناء الفوقي، علاقات جديدة بين المجتمع والعلم والثقافة والفن، يعمل آنذاك بوعي على نشر ثقافة عامة تساعد على تطوير الفكر النقدي لدى المجتمع، لانه يعي تماماً تلك الظروف الحياتية الصعبة التي تلف حياة الاوساط الكادحة وغالبية قطاعات المجتمع العامل والتي تعيق بدورها مسيرة التطور واتساع مديات الثقافة، ومن ثم تعمل على اسقاط الاثر الفكري الناضج لأية دراسات او قرارات او معلومات عامة  او اية ثقافات تقدم اليه في اطر التطور الهائل لوسائل الاعلام، اي تطور (حوامل) الثقافة العصرية.

ولما كانت (حوامل) الثقافة العصرية من اذاعة وتلفزيون وفضائيات.. لها ذلك التأثير الواسع الانتشار باملاء كل ما يراد قوله على السامع او المشاهد وهو في عقر داره، ولما كانت تذيع السيء والرديء الى جانب الجيد، وتنتشر مآثر الثقافة الكلاسيكية الى جانب الهزل الرخيص، فان المردود الثقافي يكون سلبياً وتختلط فيه القيم في فوضى عجيبة. ومن ثم يصبح كل ما يقدم خدعة لا تعمل على تطوير الذات الانسانية بل بالعكس، تعمل على ضياعها وتدفع المتلقي الى الهروب من الواقع الى عالم من الاوهام الى جانب تشتيت وعيه. تضاف الى ذلك آلية الحياة الجافة التي يعيشها فيزداد ضياعه وتنهار قيمه ومأثوراته.

لقد اصبح الفرد في مجتمعنا العراقي عموماً مزدوج الذات ومخلوقاً انانياً في وجوده غير المباشر وفي وجوده كمواطن بل واصبح فرداً لا حضور له. فقد اصبح بعض المثقفين يتصرفون بلباقة اكثر واصبحوا يصفقون لكل شيء ويمدحون كل ما يحيطهم في استماتة للحفاظ على وجودهم، واصبح كل واحد منهم يحاول ان يحتل مكانه في الحياة دون ان يتغلب عليها وليأت بعده الطوفان.

ومواجهة مثل هذا الواقع تتطلب تربية وعي ثقافي يعمل على تغييره ويتداخل في وجدان افراد مجتمعنا الطيبين الذين عاشوا قروناً في ظلام التخلف وما زالوا يرزحون تحت عبئ عمليات التجهيل المستترة والواضحة تحت جميع الشعارات. وفي سبيل خلق ذلك الوعي الثقافي ونشر الثقافة الحقيقية الاصيلة بينهم، من الضروري المشاركة الفعالة من قبل جميع المثقفين والادباء والفنانين والعلماء الى جانب السلطة في صنع الوضع الثقافي الجديد مبتعدين عن الارتجالية والعشوائية والتخبط حتى نتمكن جميعاً من اقتحام الواقع وامتلاك القدرة على تغييره.

إن القدرة على تشخيص ومواجهة ذلك الانفصام الحاد بين الثقافة والمجتمع لن تجد لها طريقاً الا في جو من الديمقراطية. ففي ظل الديمقراطية ينتعش الفكر الذي يعمل في خدمة تقدم المجتمع، وفي غيابها ينتعش الفكر الرجعي المتخلف الذي يعمل على تكبيل المعرفة والوعي والعمل على الابقاء على التخلف والجهل والامية –الابجدية والمعرفية- لدى اغلب افراد مجتمعنا فيسهل كبح جماحها وترويضها والاستفادة منها للدفاع عن مصالح فئوية وطبقية معروفة. وفي غياب الديمقراطية تتكرس افكار وثقافات مشوهة تعمل على تحطيم البناء الاجتماعي والثقافي العام مما يعمل على انتشار التحلل في القيم الثقافية وظهور المصلحية والنفعية..

ولسنا في حاجة الى ضرب العديد من الامثلة. وهكذا يتراجع الفكر ويتراجع معه الخوف المقيم والرعب الدائم على المستقبل.. وسيظل الفرد مكبل الفكر مغلول النشاط خوفاً من فقدان الربح وفقدان الامان الحياتي. فالامان الحياتي في عراقنا اليوم يأتي في مقدمة الاهداف او ان يكون الشعار لدى المواطن "اذا مت ضمآناً فلا نزل القطر". فالشجاعة والبطولة والجرأة والحماس الثقافي والفني والابداعي تهرب جميعاً امام الرعب الدائم من المجهول. من مجهول استطاع تردي النظام الاقتصادي والاجتماعي والامني ان يزرعه داخل النفس العراقية ذاتها.

ففي غياب الحوار الديمقراطي الحر:

- تتحلل القيم الثقافية ويتم الإجهاز الفوقي على المبدأ والشكل.. والخاسر الوحيد هنا هو الذي ظل محروماً قروناً حتى من حق اختيار الحياة.

- ترن اصداء الصوت الواحد في جنبات الحياة الثقافية، ينحسر الفكر العراقي ويصبح عاجزاً عن احتلاب الانجازات الثقافية ويؤدي بنا الى الوصول الى مرحلة وجود من يفكر عنا ولنا. وتصبح القرارات العلوية هي دستور الفكر والثقافة.

- تتحول الثقافة الى بوق دعاية وأشباه المثقفين الى مبررين وشرائح...

وفي ظل الحوار الديمقراطي الحر يمكن القيام بعمل تربوي وتثقيفي أصيل يساعد على سحب الانسان من مواقع مصالحه الانانية الخاصة ليساهم بدوره في انماء واثراء الحياة العامة وفي العمل على تغيير ظروفه الموضوعية التي لم يكن له يد في ايجادها.

وادوات العمل التربوي والتثقيفي تبدأ من المدرسة والجامعة ومكان العمل بعد ذلك، ثم يأتي دور وسائل الاعلام المسموعة والمرئية والمقروءة. وللأدب والفن دور نبيل في تكوين عقيدة الانسان ومفاهيمه الاخلاقية وثقافته الروحية ومن اجل عودته الكاملة وبوعي تام الى ذاته وانسانيته مستوعباً كل ثروة التطور الذي تم الوصول اليه على مسار التاريخ الانساني كله.

فكيف اذن نخلق اولئك الذين يمكنهم ان يعوضوا كل ما فاتهم من تطور في قرون طويلة؟ وكيف نهيئ الظروف الموضوعية لذلك؟

من بديهيات المعرفة، ان الظروف التاريخية لا توجد خارج الممارسة الاجتماعية.. وتغيير النفس في النشاط الاجتماعي والممارسة الابداعية.. فذلك النشاط يتفق وتحويل الظروف.. ونتيجة لتغيير الظروف تأتي عملية تغيير الذات المنغلقة الانانية اللا أبالية.

وكل ذلك يأتي نتيجة لتطوير نمو وتائر المستوى الثقافي العام للمجتنمع خالقاً المناخ الصحي والتربة الصالحة لتطوير الفن والعلم والأدب ومساعداً على شحذ يقظة المجتمع وتوجيهه نحو الثقافة والوعي بتحديات التخلف والقهر والقدرة على تجاوزها.

وكيف يتم لنا ذلك؟ بتسريع عمليات صراع الثقافتين في الثقافة الوطنية الواحدة لصالح الثقافة التحديثية التقدمية التي تستجيب لطموحات اوسع فئات المجتمع ولا سيما الشعبية منها.

من المعلوم انه توجد ثقافات في كل ثقافة وطنية واحدة. ثقافة تحررية تحديثية تقدمية نقدية تبدو عناصرها في النتاج الفني والادبي والابداعي الذي يعبر عن طموحات اغلب فئات المجتمع والنقيض لها الثقافة السائدة المتوارثة –التقليدية الرجعية- من عصور التخلف والتي تبدو عناصرها في صراع ضار مع عناصر الثقافة التحديثية التقدمية مدافعة ومحافظة عن مصالح الفئات الحاكمة السائدة في المجتمعات المتخلفة ذات المصلحة في ايقاف كل تطور.

وتتصارع عناصر هاتين الثقافتين على مر العصور وتساعد الظروف الموضوعية والتاريخية على تغليب عناصر هذه الثقافة او تلك في هذا المجتمع او ذاك. ويلعب الأدب والفن الطليعيان دورهما في المساهمة الموضوعية في مسار الصراع الاجتماعي بالدخول في الايقاع العام للتغييرات الاجتماعية حتى في حدود المجتمع البرجوازي حيث يقدران على الاندماج بحرية وبوعي مع حركة اغلب افراد المجتمع المتقدمة بالفعل...

ان وتائر التغير السريع وتعقد وتشابك الظرف التاريخي تقف عائقاً كبيراً في وجه صراع الثقافتين مرجحة كفة التخلف والجمود الثقافي العام حيث ان الارهاب الفكري المقنع وفكر الفئات السائدة في المجتمعات المتخلفة المسندة بالامكانيات الهائلة والحماية التامة يعمل على حرمان الثقافة العامة من دورها التثقيفي والتربوي وتتحول الى بوق دعاية، مؤدية الى انفصام مريع بين المجتمع والثقافة، الامر الذي يسقط الواجهة الثقافية الرسمية في دائرة الوهم مهيئة بذلك المناخ الملائم لتكريس افكار وثقافات تحطم البناء الثقافي وتضرب المنجزات القليلة التي استطاع الفكر الثقافي الديمقراطي ان يغني بها تراثنا على تعاقب الازمنة.. وفي ظل هكذا مناخ تكف الثقافة عن التعبير الحقيقي عن الواقع ويغلف الزيف احلامنا ويحيطنا بأوهام عريضة براقة عن نجاحات لا وجود لها وعن ابداعات ليست الا فقاعات ما تلبث ان تجرفها الحقيقة البشعة عن التخلف الحضاري المقيم والفرق الشاسع بين الحلم والحقيقة والواقع.

ان حسم صراع الثقافتين لصالح الفكر المتخلف التقليدي الرجعي يحدد الثقافة بكونها مجرد ثقافة الاعلام ويحول الكثير من المثقفين الى آلات دعائية تبيع نتاجها كسلعة تجارية، كما يحول شريحة كبيرة من المتلقين الى مجرد جهاز سلبي.

فما أسوأ الزمن الرديء القادر فقط على التغني بمآثر الازمنة الماضية فقط. وتباً للتشويه المتواتر الذي يحرمنا من خلق المقاييس الخلقية والثقافية التي تسلح بها مجتمعنا في مواجهة ذلك الزيف المقنع وذلك التخلف الذي يشوه حياته وحاضره.

وما اسوأ الغرس من بعض نتاج الأدب والفن في مجتمعنا عن اساطير عن السعادة والنجاح، وعن اصنام تعيش في ودعة ولذة ونجاح.. وما اكثر ما يعرض لنا من امثلة زائفة كاذبة عن التجميد المنهجي للعنف واستغلال الغرائز.. وحتى اذا ما اثيرت بعض الاثار الثقافية من ماضينا العريق وبالشكل الذي تعرض فيه ليست سوى بريق تنحصر فائدته في شل التفكير الصحيح وابعاد الناس عن استلهام دروسها وتأثرها وتجاربها الحقيقية ولا تساعدهم في مسيرة التقدم بل انها تقف مناهضة للثقافة الحقيقية...

ان صراع الثقافتين هذا لم يصب الرجعية واقطاب التخلف والتحجر بسوء بل بالعكس كانت الخسارة من نصيب المجتمع والجيل الحاضر، الذي لم يعد يسمع الا اصداء الصوت الواحد في غلالة من الارهاب الفكري المقنع، وزيادة مفردات المحرمات في الادب والفن والثقافة والسياسة.. والحصاد المر بالنتيجة هو ذلك الخواء الثقافي الذي نزع عنا شخصيتنا وعوض خواء حياتنا وخلوها من المضمون بأوهام وخيالات وشعارات براقة.. ونتساءل بعد ذلك، لماذا لا تزدهر الثقافة العراقية؟ ولماذا قصور الفكر العراقي المعاصر؟

ان الثقافة وجميع ميادين البناء الفوقي عملية تاريخية تظهر وتتطور بتوفر الظروف الموضوعية الكفيلة وتأثر نموها وتطورها، وكلنا جميعاً وبدون استثناء مهما اختلفت مواقعنا ومسؤولياتنا مدعوون جميعاً لمجابهة الخلل بجرأة والمشاركة في وضع منهاج للثقافة يأتي رداً على جميع الانكسارات والاحباطات التي اماتت حماسنا وافقدتنا الثقة في نفوسنا وجعلت من سلوكنا رفضاً قاطعاً مطلقاً للحقائق قبل الاوهام.

ان مؤسساتنا الاعلامية والثقافية واتحاداتنا الادبية والفنية مدعوة الى اعادة النظر جذرياً في جميع صيغ عملها مهتدية بتخطيط ديمقراطي سليم ينبع من الاحتياجات الفعلية لمجتمعنا العراقي العريض.

 

في المثقف اليوم