قضايا

وليد خالد احمد: ازمة الثقافة العراقية واشكاليات المثقف العراقي (3)

مسألة الثقافة في العراق: موضوع الثقافة وعوالمها، من اكثر الموضوعات التي شغلت العقول واستقطبت كل ذي علاقة منذ ان كان الانسان كائناً ثقافياً. ولا يكاد يمر يوم من حياتنا دون ان نصادف فيه كلمة ثقافة او نتعثر بأحد اشتقاقاتها. وموضوعها يعتبر واحد من اهم القضايا المصيرية المعاصرة، نشأت حوله عمارة معرفية دشنها منظرون وفلاسفة ومفكرون ابدعوا نظريات وأسسوا مدارس ووضعوا مناهج للنظر والتحليل ناقض بعضهم بعض الآخر، ولا يزالون يبدعون ويضيفون ويراكمون اغناءاً وتعميقاً او نقداً وتفكيكاً، لانها توازي في مفهومها الانتماء، والانتماء في فهمنا ليس ترفاً فكرياً ولا انسياقاً وراء مظهر حضاري انما هو بالنسبة لانساننا العراقي الآن ضرورة ملحة لا غنى له عنها، فهو غير مخير في الحقيقة بين ان ينتمي او لا ينتمي، انه مخير بين ان يكون او لا يكون، ومع ذلك، بقينا نحن العراقيون في موقع المتلقي وبالكاد نقرأ او نتابع ذلك الانتاج الضخم والمتنامي في عالم التنظير السوسيوثقافي والمعرفي.

ما كتب في الغرب في هذا المجال غزير وغني، الا ان المكتبة العراقية تشكو الفقر والندرة عدا القليل من التراجم والمؤلفات والتي اكتشفت في الغالب بالعرض والتكرار دون النقد والتحليل، وغلبت عليها النزعة المدرسية ودوافع الحاجة الاكاديمية الملحة.

ان الثقافة في معناها الاصيل هي –الحرث- حرث العقل والنفس والجوهر، هذا الحرث لا يتم من غير ان نقلب رواسب قناعاتنا المتخلفة الكامنة فينا لكي تكون مجتمعاً حقيقياً، بينما التعليم لا يحتاج الى الحرث وقلب الرواسب البدوية ونسف القناعات الديناصورية المتوارثة لكنه يكون مجتمعاً مزيفاً متخلفاً، ولاننا متعلمون ولسنا مثقفين فنحن اذن مزيفون متخلفون.

لقد تعلمنا لكننا للأسف لم نتثقف، لان الثقافة تنمي الوعي والوعي يقهر كل مظاهر التردي والتخلف، وبهذا تظل الثقافة السمة المميزة للامم تعكس خبرتها في افاق التقدم والابتكار وتجسد مواقفها ارتفاعاً بقدراتها وتحقيقاً لمنجزاتها الراسخة تتوارثها المجتمعات جيلاً بعد جيل.

واذا كان لكل جيل في حقبة معينة ثقافة خاصة به مرتبطة بجذوره تقوى بقوته وتهن بوهنه، فان الثقافة اياً كانت قوة جذورها لا يمكنها ان تحتفظ بمقومات دورها الفاعل ما لم تتحاور مع الواقع، علماً ومعايشة وتفاعلاً عميقاً.

واذا كان للقوى العقلية وارادت الابداع الأثر البالغ في نماء الثقافة، فان القاسم المشترك الاول بالنسبة لسائر الامم في اطار الخير والشر انما يكمن في ذلك الجوهر المضيء الذي يسمى –الاخلاق- حيث ينتفى باختفائه اي امتداد لجذور الثقافة مادامت تتعارض مع الهدف الاساسي للثقافة المتمثل في الارتقاء بالقدرات البشرية تجاوباً مع مقتضيات تطلعاتها وتقدم الصالح العالم.

ان الخروج من اية ازمة يستوجب على الصفوة المثقفة او الاصلاحية فكرياً، ان تبادر الى تأليف تيار ثقافي وطني ثوري بالمفهوم العلمي الصحيح، لا تيار منافق ومتملق وقائم على المزايدات، يغزو عقل المجتمع بغية تحويله والخروج به من ازماته التي لا امل لنا بالخروج منها الا باحداث تغييرات جذرية في تفكيرنا وعقلنا الاجتماعي تقوم على تربية وعي جديد في عقلنا تهيئة تقريباً للانتقال والتغيير الجذري في تعامله مع واقعنا وماضينا ومستقبلنا.

ان نمط حياة اي شعب هو المعيار الحقيقي لثقافته مثلما الثقافة هي المرآة التي تعكس نمط حياة الفرد والمجتمع. وبذلك تكون العلاقة الحميمة واضحة بين الامم وثقافتها ارتفاعاً او انحداراً على اي مستوى، وفي كل عصر. لهذا، فان مرارة الواقع الحالي لا بد ان تدفعنا من مواقع الاحباط واليأس الى مواقع الامل والعمل. وعليه، اود ان أناقش في هذا القسم من دراستي هذه القضية/ المسألة التي تعتبر من اهم القضايا المصيرية على اساس ان الثقافة مسؤولية والمسؤولية موقف، والموقف قرار جريء تمتلئ معانيه بالانحياز المطلق للأنسان في قمة انسانيته، وذلك مقابل طغيان ادوات الفتك والتشرذم والتيئيس التي هدفها في النهاية الغاء هذا الانسان وسحب بطاقة انتمائه الى المستقبل، فلا معنى للثقافة اذا لم تكن غايتها الانسان والاستغراق في اسئلته الطموحة الى التغيير والحرية والابداع .

 

الثقافة في العراق

يكثر الحديث، قولاً وكتابة، حول مسألة الثقافة في العراق ومآلت اليه وما يمكن ان تستعيده كدور ريادي وطنياً وانسانياً في فترة تفتح فيها الملفات المصيرية بدءاً بالتصور الجديد للعراق الراهن الآتي، وانتهاءاً بإعادة تخطيط المؤسسات والمشاريع في القطاعين العام والخاص.

لذا، لا بد من الوصول الى قناعة رئيسية، بادئ ذي بدء، بمقولة تعيد للثقافة العراقية مكانتها وتؤكد دورها الفاعل في البناء الوطني، فكل بحث سياسي لمستقبل العراق يبقى بحثاً مبتوراً ان لم يعتبر ان المسألة الثقافية تكمن في صلب هذا المبحث الموضوعي الجاد. فالبدايات الوطنية لشعب من الشعوب لا بد وان تكون بدايات ثقافية لان التطلعات والطموحات التي تأخذ حجم الوطن لا بد وان تنتهي الى تطلعات او طموحات ذات ابعاد ثقافية.

غير ان واقع الثقافة في العراق اليوم يعاني من ازمات حادة، فالامراض الفكرية الناتجة عن سنوات الحصار وتالياً سنوات الاحتلال وما بعدها قد انعكست مباشرة على النتاج الثقافي بمجمله لدى العراقيين، وكانت نتيجتها اما الهرب من المعاناة المأساوية الوطنية او التصدي لها من زاوية فئوية ضيقة تشكو من الخوف والحقد والتقوقع. هذا ما لاحظناه ونلاحظه من خلال متابعتنا للمطبوعات –كتب ومجلات- الصادرة في بغداد ونشاطات المؤسسات الثقافية خلال سنوات الحصار والاحتلال...

فالتفسخ والتشرذم الذي اصاب العراق في سنوات الحصار والاحتلال قد اصاب النفوس والعقول اكثر مما اصاب الاجساد والممتلكات، والاصابات التي وقعت في تفكير العراقيين ومشاعرهم والتي انعكست مباشرة على الخريطة العراقية لن تزيلها نصوص دستورية او قانونية تشريعية ما لم يرافقها عمل حثيث لتصحيح مسارنا الثقافي واستعادة دوره الفعال في عملية البناء الوطني.

فماذا تفيدنا النصوص الجديدة ان ظل تفكيرنا طائفياً قبلياً متشرذماً؟ ماذا تفيدنا الصيغة الجديدة للعراق الجديد ان لم يرافقها تصور واع مدرك وصحي لدولة عراقية نموذجية تستمد من تراثها النهضوي الحديث قبساً ومن انتاجها الفكري والفني المعاصر نوراً؟

ان عملية إلغاء دولة المحاصصة الطائفية الى دولة عصرية عقلانية متماسكة تبدأ بالبناء الثقافي المعاصر والعقلاني المستفيد من سائر الاختبارات الفكرية والتاريخية لدى الشعوب. واجتياز هذه المرحلة ثقافياً لا بد وان يصطدم بعقبات عدة هي بمثابة خطوات مرحلية تستوجب المواجهة العميقة والحاسمة في آن. هذه الخطوات اراها تتمثل في:

المصالحة مع الذات، لا بد هنا التوقف عند دور العراق الثقافي في الذات العراقية بصفاتها كائناً بشرياً حيوياً فاعلاً ومنفعلاً، وبصفتها فرداً قائماً بحد ذاته بقدر ما هو عضو اجتماعي. فمعالجة الذات الكبرى او المجتمع يجب الا تصرفنا عن معالجة الذات الصغرى او المواطن الفرد. وهذه المسألة الشائكة تتطلب فتح ملف الثقافة العراقية بمعناها الواسع بدءاً بالتربية والبرامج التعليمية خاصة ما يتعلق منها بالعلوم الانسانية ومروراً بالدور الثقافي المتكامل لانماء الذات في سبيل بناء ثقافة شعبية ووطنية يأخذها على عاتقه كل القطاعين الخاص والعام وانتهاءاً بالانتاج العراقي الفكري والادبي والفني وتقويمه التقويم الموضوعي المطلوب. ومحتم على هذه المصالحة الثقافية مع الذات ان تؤدي الى تصور علمي معاصر للعراق الثقافي تستقر عليه بل تلتحم ضمنه القطاعات الثقافية الثلاثة، التربوي والمؤسسي والانتاجي.

يبقى السؤال عن الجهة الرسمية او الهيئة المخولة معالجة مثل هذه الشؤون المصيرية، وزارة الثقافة، ام وزارة التربية او وزارة التعليم العالي ام الاتحادات والجمعيات الثقافية؟ ام كل هؤلاء مجتمعين؟ المهم هو الوصول الى قناعة مبدئية تلبيها خطة عمل كفيل بأن تعيد للثقافة مكانتها ودورها في العراق بحيث تحقق مصالحة العراقيين الفكرية مع ذواتهم اولاً ثم مع محيطهم العربي والاقليمي والعالمي.

 

ما هي تلك الخطة؟ وكيف تستعاد البنية الثقافية العراقية؟

ان البحث في استعادة البنية الثقافية العراقية ليس سابقاً لاوانه  كما انه ليس بحثاً متأخراً، اذ ان ارتهان هذه المسألة بالظروف التي تناسبها او تمهد السبيل لها لن يقودنا الى الفعالية المرجوة. فطرح هذا الموضوع لا بد وان يكون طرحاً اقتحامياً مواجهاً لا طرحاً هروبياً. والسمة الاقتحامية هنا لا تعني تبادل الضغوط السياسية التي الفنها سنوات الحصار والاحتلال، انما تعني المصارحة التامة والموضوعية المجردة بعيداً عن الخلفيات العاطفية او الرواسب الفكرية المرضية الموروثة. ولا بد من اعتماد العقل والعلم لابتداع بنية ثقافية عراقية جديدة لها معناها ولها فعاليتها المرجوة لدى معظم العراقيين.

من هنا اهمية البدء ببناء الذات كخطوة اولى واساسية في المسار الطويل والصعب لهذا المشروع الثقافي. وهذا يقتضي التوقف عند معنى الذات كخلية محورية من خلايا البناء الثقافي الوطني. الذات الفردية التي تحتاج اولاً استعادة الثقة بنفسها. والثقة تعني وضع الدور الفكري للفرد في مكانته الصحيحة اي الاكثر انتاجية وفعالية، لذا لا بد للذات الفردية ان تعطى او ان تسترد حقها في عملية الخيار اليومي الحر للقيام بعمل ما، قولاً او فعلاً او كتابة. والخيار الحر هو فعل نقدي تقويمي لعدد من الاحتمالات او الامكانات التي تقودك الى الانتقاء جدية وانتاجية على الصعيدين الشخصي والعام. وهذا الخيار يستوجب استعداداً فكرياً ونفسياً وثقافياً لانه اغتسال عقلي من شوائب اليوم الذي نحن فيه وتهيؤ واع لاكتساب قدرة التكيف مع قدرة التخطيط الثلاثي.

 

ايننا اليوم ثقافياً من مثل هذا الاستعداد الذاتي؟

الجواب يحملنا على التوقف عند مشكلات اساسية في التثقيف المتواصل للذات العراقية. اولى هذه المشكلات مسألة عدم المطالعة/ القراءة. من بداهة القول اننا شعب لا يقرأ واذا قرأ فلا نناقش، واذا ناقشنا فلا ندخل في العمق، واذا تعمقنا فلا نتجرد. في افضل الحالات نقرأ عشوائياً لتؤخذ بجمالية الكلمة او بفئوية المضمون، اي اننا بعيدون عن القراءة النقدية المنظمة، وهذه العملية المعطلة افقدتنا القدرة النقدية في التفكير كما افقدتنا الابداعية في الرؤية المستقبلية. وقد قادنا هذا التعطيل الى الاكتفاء الذاتي وغير المجدي بالحد الادنى من الاكتساب الثقافي وبالتالي التفاعل الثقافي مع الاخرين. وذلك يشكل سبباً رئيسياً من الاسباب التي تحد من فعالية المؤسسات الثقافية عندنا. وخلال الحرب تفاقمت هذه المشكلة بحيث انكفأنا ثقافياً على انفسنا ووقعنا ضحية تعطيل الانشطة الثقافية بوجهيها النقدي والابداعي.

ثم ان سنوات الحصار والاحتلال ادت الى تفاقم آفة رئيسية من افات البنية الذاتية الثقافية، وهي اننا نكتفي باقل ما يمكن من المردود المعنوي او الفكري او الغني لاي عمل نقوم به مقابل سعينا لاعلى ما يمكن من المردود المادي بمعناه الواسع – مالياً، اجتماعياً، سياسياً.. نحن ماديون اصلا ،  الحصار والاحتلال زادا من ماديتنا لتضع دورنا الفكري وبالتالي اختياراتنا العقلية، كما نجد انفسنا منساقين الى هذا التردي الثقافي بحيث باتت الشؤون الثقافية ولا نقول الهموم الثقافية في المرتبة العاشرة في سلم الاولويات، اذا لم تكن خارجها بالكامل. والحياة الثقافية عند معظم العراقيين باتت ضربا من ضروب الترف او الزي الاجتماعي المكابر، مما يكشف لنا حقيقة علاقاتنا الانسانية الجوفاء على الصعيدين الفردي والاجتماعي.

 

كيف الخروج من هذا الوضع المتردي للذات الثقافية العراقية؟

من الطبيعي القول، الحلول المقترحة لا يمكن ان تكون وحيدة ونهائية. هي اقتراحات قد تساعد في عملية اعادة بناء الذات بناءاً ثقافياً نامياً يؤدي الى المصالحة المرجوة مع انفسنا اولاً ثم مع الآخرين، ومن ثم الخطوات التي يمكن اعتمادها:

1- إحياء علاقتنا بالكتاب، حيث يتحول من سلعة مستهلكة الى كائن حي نتعاطى معه ضمن سياق عقلي ونقدي منسق. هذا اذا اعتبرنا ان الكتاب يقدم لنا شحنة فكرية تطرح مجالات واسعة للنقاش وللنقاش الحاد احيانا الذي يقودنا الى اتخاذ المواقف والخروج منها بآراء مغايرة او مطابقة للمسألة المطروحة.

انه الاكتساب الثقافي المستمر والنامي الذي يستحيل جزءاً من حياتنا اليومية وبالتالي يشكل العنصر الأساس في فعل اعادة بناء الذات العراقية والمصالحة معها، المصالحة الفردية والجماعية المرجوة. فتثقيف المجتمع من تثقيف الافراد وتثقيف الافراد يعني احلال العقل محل العاطفة.

2- إحياء دور العقل، كمعيار موضوعي ومجرد لتقويم الحاضر التقويم العلاجي المتوخى والتخطيط للآتي تخطيطاً تأسيساً ثقافياً موافقاً للتخطيط التأسيسي السياسي والاجتماعي والاقتصادي. بذلك، نحاول استعادة لغة المنطق وسط الرماد. نحاول الانتقام من التعامل المبني على المشاعر الموروثة والمخاوف المتبادلة والمسلمات المسبقة الى نوع آخر من التعامل المبني على الجرأة المنطقية والقياس العقلي.

والعقلانية هي الهيكلية الصلبة والثابتة لاستعادة البناء الداخلي للذات الجديدة. كما انها الهيكلية الصلبة لمد الجسور الحية لتفاعل ثقافي سليم في جسم الوطن. بالعقل وحده نستطيع التغلب على الذات القديمة التي تشكو من التفسخ والانقسام حتى الانكسار والنهوض بالذات الجديدة المغتسلة من اوراق الفئوية التي رسختها سنوات الاحتلال.

3- إحلال الحس الاجتماعي الى جانب الحس الفردي، والمقصود بذلك ثقافياً ان يتم البناء الثقافي الشخصي مع نمو الدور الوظيفي العام الى جانب الدور الوظيفي الخاص عند الافراد، بمعنى ان تصبح الشؤون (الهموم) الثقافية عند المواطنين هماً من همومهم الجماعية كدرجة طبيعية للهم الثقافي الوطني. فالدرجة الثقافية تتحول تدريجياً الى معاناة ثقافية عند الافراد ثم تتطور وتتسع رفعتها من الفرد الى الجماعة فالمنطقة فالوطن. نبدأ من القاعدة الشعبية لنصل الى قمة الهموم وليس العكس. وعبثاً تحاول الدولة حين تحاول تعزيز الشأن الثقافي ما لم يباشر الافراد بتعزيزه اولاً. وهنا يدخل دور المؤسسات الثقافية العاملة ضمن المناطق والاقاليم او الهيئات الشعبية. اذ لا يمكن ان يبقى المثقفون طبقة من الطبقات الاجتماعية. فاما ان يكون الشعب برمته مثقفاً وان يكون ثمة عاملون في الشان الثقافي او تبقى طبقة المثقفين عاجزة كما هي الآن عن القيام بمسؤولياتها.

4- استيحاء التراث الفكري العراقي الحديث، واعني بالتراث الفكري الحديث ما دخل في موروثنا الفكري وما حمل من هموم مستمدة من طبيعة معضلاتنا السياسية والاجتماعية والحضارة القائمة حتى اليوم.

ويفترض ان يتم استيحاؤه من خلال المعالم التي اتسم بها في طليعتها الدعوة الى التحرر واولوية الولاء الوطني ونبذ الطائفية والفئوية والمناطقية وبناء الوطن القوي العادل والطموح الى تزعم حركات التوعية العقلانية في محيطنا العربي والاقليمي.

5- استيحاء الاختيارات الثقافية عند الآخر، وقد تكون هذه عربية او شرقية او غربية. المهم ان نجد في بعض منها صدى لاحتياجاتنا الانسانية فتصبح جزءاً لا يتجزأ من موروثنا الانساني العام بحيث تتساقط الحواجز امام تبنينا لاطروحات الآخر الفكرية. فالفكر الذي لا يقف عند حدود الاوطان يدخل في التراث الانساني ويبقى صالحاً في كل زمان ومكان. انه الانفتاح الثقافي المطلوب لانعاش المصالحة مع الذات واغنائها. انها البداية التي لا بد منها في البناء المنشود وفي اعداد البنى الارتكازية لتثقيف الانسان العراقي (الجديد) ولتأسيس الوطن العراقي على دعائم اقوى من الانهيار.

تقاطع المفاهيم ومحددات التعاريف

اعتقد انه يستوجب قبل الدخول في صلب دراستنا، لابد بادئ ذي بدء من تحديد مفهوم او تعريف كلمتي مثقف وانتلجنسيا، التي ما زالتا غير واضحتي المعالم بالنسبة للكثيرين، حيث تكاد تكونا محصورتين بين فكي فعلين لا اكثر، هما القراءة والكتابة.

فلا بد ان نستقر على تعريف لهما حتى نحدد مسيرة هذه الدراسة منهجياً. لكننا لن نغرق في طرح التعريفات العديدة لهاتين المفردتين، لاننا نعتقد انه ليس هناك كتاب او بحث عالج موضوع الثقافة دون ان يطرح تعريفاً او تعريفات لهما. وفي دراستنا هذه وضعنا تعريفاً خاصاً بنا يخدم الهدف الذي حددناه للدراسة وينسجم مع منهجنا فيها.

لقد اصبحت مسألة إعطاء تعريف شامل لأي مصطلح، أمر لا يقبله المنطق العلمي. لذلك، فان محاولتنا هي لا تعدو ان تكون الا محاولة للخروج بقدر الامكان بالتعريف الذي ينسجم مع جملة العوامل والتطورات التي تلازم التحولات الاجتماعية في مجتمعنا، لا سيما وان عدد التعاريف لكلمتي مثقف وانتلجنسيا كثرت وتعددت واختلف الكتاب حولها طبقاً لاختلافهم في طبيعة المنهج وطبيعة البنية الفكرية والايديولوجية والمرحلة التاريخية من تطور المجتمع.

 

 محددات المثقف

إن تعريف المثقف في غاية الاشكالية ومن اصعب ما يمكن، هكذا حال التعريفات دائماً. على ان التعريف برأيي يجب ان يكون جزءاً من تجربة الشخص نفسه. وعليه، فقد احتار الكثير من المفكرين في تحديد كلمة مثقف، وربما ترجع هذه الحيرة الى انهم يحاولون وضع خصائص ورسم سمات اغلبها مثالية لخصائص ذواتهم. فكلما توصلوا الى تعريف ابتعدوا به في واقع الامر عن اوضاعهم ومكاناتهم وذواتهم في المجتمعات التي يعيشون فيها.

ويتساءلون: هل المثقف هو الناقد ام الناقل ام المجتهد ام المبدع؟ ما هي وضعية المثقف في سياق النظم الاجتماعية؟ اهو مشارك في السلطة، بمعنى انه ينتمي الى الفئة التي تمثل دوراً حاسماً في تبرير النظام القائم في مجتمعه، وهو ما يعبر عنه البعض بمصطلح واعظ السلطان. ام هو المفكر الملتزم بالموضوعية العلمية بالمعنى الدوركهايمي –نسبة الى عالم الاجتماع دوركهايم- ام هو الذي ينتمي الى الفكر العلمي لقوة النظام؟

إن الاشكالية لا تكمن في تعريف من هو المثقف، بل في تحديد الدور الذي يقوم به المثقف في مجتمعه. وان السؤال الذي يجب ان يهتم به من يبحثون في هذا الشأن هو: هل كل انسان يقوم بدور المثقف؟ ان الانسان المثقف في تصوري، هو من تتوفر فيه متابعة ما يحدث في المجالات المعرفية المختلفة وليس فقط في مجال تخصصه، وذلك، كي يستطيع ان يلم بالحركات الفكرية وتياراتها المختلفة والتي يموج بها العالم في الوقت الراهن، وان لا تنحصر معرفته في الحاضر فقط لان الحاضر ما هو الاحصيلة الماضي، ولا بد ان يعرف بشكل او بآخر الاصول التي بدأت مثلاً. وان لا يأخذالتاريخ بمعنى الاحداث وانما بمضي التيارات الفكرية وأنماطها. اما الاهم الذي يجب ان يتوفر في المثقف هو ان يتفاعل مع المجتمع واحداثه وليس فقط مع الثقافة العامة التي حصل عليها عن طريق القراءة والمتابعة، ويكون هذا التفاعل على مستويين: الاول- هو محاولة نقل خبرته الثقافية ومعلوماته الى المجتمع بحيث يطوع هذه الثقافة. والثاني- هو ان تكون لهذا الانسان نظرة نقدية لمجتمعه، بمعنى الا ينعزل عنه وانما يدخل في حوار مع احداث هذا المجتمع سواء كانت سياسية او اجتماعية او اقتصادية.

اذن، الانسان المثقف، هو الانسان الذي يعيش بكل حياته ووجدانه وتفكيره مع المجتمع الذي يحيا بداخله، وان يظل بعيداً عن المهاترات، وان يكون عف الفكر واللسان، وان لا يكون منافقاً او متملقاً.

وعليه، فالمثقف في رأيي: هو الانسان الذي يعي ذاته وذات مجتمعه، من خلال الصلة بواقع هذا المجتمع ومواريثه الفكرية والحضارية، وبقدراته على ادراك واقعه السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وتفسير هذا الواقع تفسيراً حقيقياً، واخذ موقف من هذا الواقع لتجاوزه نحو مستقبل افضل للمجموعة التي ينتمي اليها ثم لمجتمعه الاوسع اذا ما وضعنا بعين الاعتبار ان المستقبل هو الحركة الاساسية التي علينا ان نسعى اليها، من منظور ان التغيير حتمي تاريخي لاي مجتمع من المجتمعات.

ان كلمة مثقف في لغتنا العربية وفي اللغات الحية الاخرى تعني اشياء عديدة، فكلمة مثقف التي تقابلها كلمة Intellectual بالانكليزية و Intellectuel بالفرنسية، حملت الكثير من التعريفات، خلاصتها: المثقفون هم اولئك الاشخاص من المتعلمين الذين يمتلكون المعرفة ولهم طموحات سياسية، وعلى اساس هذه المعرفة الموضوعية والطموحات السياسية وتأملاتهم الذاتية.. يسعون الى التأثير في السلطة السياسية في اتخاذ القرارات الكبرى، والى صياغة ضمير مجتمعهم، وكذلك صياغة احكامهم على الواقع دون ان يستخدموا هذه الاحكام مباشرة او بالضرورة من خبراتهم الحسية.

لذلك فان محاولتنا هنا لعرض بعض التعاريف حول المثقفين، لا تعدو ان تكون الا محاولة للخروج، بقدر الامكان، بالتعريف الذي ينسجم مع جملة العوامل والتطورات التي تلازم التحولات الاجتماعية في مجتمعنا، لا سيما وان مجموع التعاريف لكلمة مثقف كثرت وتعددت واختلف الكتّاب حولها، طبقاً لاختلافهم في طبيعة المنهج وطبيعة البنية الفكرية والايدولوجية والمرحلة التاريخية من تطور المجتمع، لذلك لم تعد مهمة تصنيفها في مجموعات محددة بالامر اليسير، الا اننا سوف نحاول من خلال عرضنا لبعض التعاريف بيان اهم الاسس والمعايير التي اعتمد عليها هؤلاء الكتّاب في التعاريف المعطاة للمثقفين.

تعرف اغلب الموسوعات الاجتماعية والسياسية المثقفين بانهم اشخاص يملكون المعرفة، وبمعنى اضيق، هم اولئك الاشخاص الذين ينطلق رأيهم او حكمهم عن الملاحظة والمعرفة، وبصورة مباشرة عن الادراك الحسي. وان معظم المثقفين، حسب رأي الموسوعات هم الاكاديميين، وخاصة المدرسين، غير انه من الخطأ تحديدهم وفق المعايير الاكاديمية مادام التعليم والتثقيف امر يمكن تملكه بطرق عديدة وبنوعية مختلفة من مسألة الى اخرى.. فكل شخص يعتبر مثقفاً بالقدر الذي يستوعب المعرفة وبالحد الذي هو معني على علاقة بالفكر والذهن.

وتعرف ايضاً، المثقفين بأنهم فئة من الناس ترتبط نشاطاتها اساساً بالقدرات الذهنية. وبنفس المعنى تعرف اخرى المثقف بأنه شخص التأمل والتفكير، او شخص القدرات الفكرية العالية الذي كرس نفسه للدراسة والتأمل، وبصورة خاصة القضايا العقيمة والعويصة.. انه الشخص الذي يسترشد، اصلاً، بالعقل وبالفكر بدلاً من العواطف، انه الشخص الذي ينغمس في الاعمال الفكرية والابداعية وبصورة خاصة في حقول العلم او الادب او الفن بدلاً من العمل اليدوي..

وترى في المثقفين منتجي ومستهلكي مختلف اعمال العلوم في الفلسفة والدين والادب والفن. فهي ترى فيهم ايضاً بانهم الاشخاص الذين يستخدمون في اتصالاتهم وتجاربهم رموزاً.. ومراجع تجريدية وغامضة متعلقة بالانسان والمجتمع والطبيعة.

ومن الكتّاب الذين حاولوا دراسة المثقفين وتعريفهم، على نفس المنوال، الكاتب بيندكس فهو يرى بأن الكلمة، رغم غموضها تعني اولئك الافراد الذين يشغلون وظائف على اساس متكامل، كالمهن الحرة غير اليدوية.

اما بالنسبة للفكر الماركسي فقد وضع، ماركس في الايديولوجية الالمانية اللبنة الاولى لتعريف المثقف. فقد اشار الى المثقفين باعتبارهم مفكري الطبقة الحاكمة.. وبأنهم اولئك الذين يخلقون الوهم –الايديولوجيا والافكار- عن طبقتها وعن نمط واسلوب حياتها...

اما عند لينين، فان ما يميز المثقفين عن العمال اليدويين ليس كونهم مؤلفين وكتّاب، بل كونهم ايضاً اصحاب المهن الحرة والاعمال الذهنية. وحتى بالنسبة للكتّاب الروس المعاصرين فانهم يؤكدون بان المثقفين هم فئة اجتماعية محددة.. ومتخصصة بمهنة العمل الذهني. اما روجية غارودي فيرى في المثقفين بانهم القوى المنتجة الذهنية.. ويذهب اليسار الامريكي الى اعتبار المثقفين اولئك الذين يؤدون مهنياً مهمة انتاج، وتوزيع، وتفسير، ونقد، وتثبيت القيم الثقافية.

اما بالنسبة للفكر اليميني البرجوازي، فان المثقفين يتميزون عند موسكا بكونهم طبقة متوسطة جديدة، تختلف اختلافاً كلياً عن الطبقات العاملة بعمليتها وثقافتها الواسعة، وبعادتها واسلوب حياتها.

اما عند ريمون آرون فهو يرى، بان المثقفين، هم عمال غير يدويين.. والمثقف هو رجل الافكار، ورجل العلوم.. وهو الذي يؤمن بنظرية معينة تجاه الانسان والفكر.

وبالنسبة لتعريف المثقف في بعض البلدان النامية، فان آرون يرى بان في افريقيا الشمالية، يكفي ان يكون المرء قد قضى عدداً صغيراً من السنين على مدرجات الكليات لكي يستحق هذا اللقب.. وانهم يستحقون هذا اللقب بمعنى انهم اقتبسوا الكفاءة التي تمكنهم من اشغال بعض الوظائف.

ومن الملاحظ، ان معيار التحصيل العلمي والجامعي، هو معيار رئيسي سائد في الكثير من التعاريف. فمثلاً يعرف جلينر المثقفين بانهم فئة متفككة، وغير مترابطة، تعبر عن المعتقدات والقيم السائدة في المجتمع، بفضل تحصيلها على التعليم الجامعي.

اما بالنسبة للكاتب الامريكي شيلز، فهو يعد واسع الشهرة في هذا المضمار، حيث تعد دراسته عن المثقفين في مجتمعات البلدان النامية نموذجية عند الكثير من الكتاّب.

يرى شيلز، بأن المثقفين هم اكثر النخبات اهمية في البلدان النامية، وتعريفهم اوسع واشمل من تعريفهم في الدول المتقدمة، وهذا التعريف يعتمد اساساً على التعليم والمعرفة بالرغم ما في الكلمة من غموض، فالمثقف الحديث يعني الشخص المستقل للثقافة والمعرفة.. فالمهندسون والصحفويون والعاملون في سلك التعليم، وغيرهم يعدون من مثقفي البلدان النامية.. وفي مكان آخر يعرف شيلز المثقفين بانهم كل الاشخاص الذين حصلوا على تعليم حديث ومتطور، غير ان هذا التعريف لا يشمل المثقفين، التقليديين، رغم ما لهم من دور لا ينكر، فدراسة شيلز تتركز على اولئك الذين اصبحوا المحدثين بالتعريف على، والكشف عن مجرى الثقافة الفكرية الحديثة عن طريق الجامعة او الكلية...

لقد كان تأثير، شيلز كبيراً على الكتّاب الذين تناولوا هذا الموضوع، ولم يغفلوا تعريفه بل اكثروا في الاشارة اليه. فبالنسبة للكاتب جون كاوتسكي يعرف المثقفين، بعد ان يستعير الكثير من شيلز، بانهم اولئك الذين تلقوا او هم في عملية تلقي التعليم الحديث المتطور. ويتفق مع شيلز بكون هذا التعريف اوسع واشمل مما هو عليه في البلدان الصناعية...

ويصف اوريم تعريف شيلز للمثقفين، بانه تعريف يتسم بالتبصير والتعقل، ويستعين به لدراسة دور المثقفين في البلدان النامية، ذلك الدور المميز والخاص في بناء الدولة القومية الحديثة.. فالمثقفون عنده هم اولئك الذين تزعموا الجهود لتأسيس شعوب حديثة.. وهم اصحاب الافكار المتفتحين للمعرفة الجديدة لغرض خلق نظام اجتماعي وسياسي جديد لهم ولاتباعهم.. وهم المسؤولون عن خلق، او توضيح الايديولوجيا التي تكون الركن الحاسم في خلق الدولة القومية.

اما هاري بندا فشهرته في دراسة دور المثقفين، كنخبة، في البلدان النامية، لم تقل عن شهرة شيلز.. فهو الآخر، يؤكد سعة وشمولية مفهوم المثقفين في هذه البلدان، بحيث يشمل جميع اولئك الذين اكتسبوا بشكل او بآخر نوعاً من المعرفة الحديثة وتلقوا بعض التعليم في الجامعات الاوروبية او هم اولئك الذين تأثروا سواء بشكل مباشر او غير مباشر بالثقافة الغربية، فوقف هذا المعيار ميّز بندا بين المثقفين السابقين لهذه الثقافة، وبين المثقفين الجدد المتأثرين بهذه الثقافة. كما وان معيار اكتساب المعرفة والتعليم، شمل، كإطار عام، معظم المثقفين المدنيين والعسكريين كما شمل المثقفين بالمفهوم الصرف لهذا المعنى.

وتأثير دراسة شيلز وبندا عن المثقفين، لم تقتصر على الكتّاب الغربيين فحسب، بل تعدتهم حتى الى الكتّاب الروس الذين تناولوا هذا الموضوع في البلدان النامية. كما ويبدو ان تأثيرها كان واضحاً على بعض كتّاب العرب الذين بحثوا في دور المثقفين في التحولات السياسية والاجتماعية.

وهناك العديد من التعاريف التي لا تختلف جوهرياً عما سبق وذكرناه من التعاريف، الا من حيث الصياغة والطرح.. فمثلاً يرى ما نهايم في المثقفين بأنهم منتجو الاشكال الايديولوجية والفكرية، الاكثر اهمية في المجتمع.. في حين يرى البعض الاخر، بانهم اولئك الذين يقع عليهم الجهد والابداع الثقافيين، من علماء وكتاب واساتذة.. الخ. اما شومبير فهو، على الرغم من انه يرفض تعريفهم باولئك الذين لا يمارسون عملاً يدوياً ويرفض حصرهم في مجال القلم والكتاب، الا انه يعود ليعرفهم باولئك الذين يملكون قوة الكلمة المكتوبة والمنطوقة.

ويرى شومبير، ايضا بان هناك العديد من الاشخاص الذين يملكون نفس ميزات المثقفين الا انه من الصعب ان يكونوا مثقفين حسب مفهومه. فما يميز هؤلاء المثقفين عن غيرهم هو غياب مسؤوليتهم تجاه شؤونهم العملية وكونهم متفرجين وغير مسؤولين.. ان تحليل شومبير هذا عن سوسيولوجية المثقفين يعد تعبيراً حياً وصادقاً عن ازمة الرأسمالية في المرحلة التي عصفت بها الازمات الاقتصادية والاجتماعية مما حدا بالمثقفين الالتحام بالحركات العمالية والثورية. لذلك لا يمكن تعميم هذه الظاهرة، غياب المسؤولية لدى المثقفين، على جميع المثقفين، فالاخيرون شاركوا ويشاركون في ظل الكثير من الانظمة السياسية في عملية البناء المادي والفكري، وحتى في المجتمعات الرأسمالية، المثقفون تحملوا الكثير من المسؤوليات الثقافية والفكرية وساهموا في مهمات التصنيع وبناء الديمقراطية الليبرالية وتنكبوا مسؤوليات ملفتة للنظر، لهذا تعرض مفهوم شومبير حول غياب المسؤولية كعنصر محدد للمثقفين الى نقد شديد من بعض الكّتاب. اما عند بايلز، فالمثقفون يتميزون بكونهم عقل العملية الانتاجية المادية.

وبنظرة تحليلية الى جميع التعاريف التي اوردناها.. رغم التباين بينها من حيث صياغتها وشكلها، فانها جميعاً تقوم على اساس نظري واحد، على حصر المثقف في مجال الذهن والفكر وتعريفه ضمن النشاطات الفكرية، وما يتعلق بها من الابداع والخلق والابتكار، والمستمد أساسه النظري من مفهوم تقسيم العمل الى ذهني وعضلي، الى فئة اختصت بالعمل الفكري وفئة اختصت بالعمل اليدوي، أياً كان معيار هذا التقسيم، سواء كان على اساس طبقي، كما هو الحال مع الماركسية او على اسس اخرى.

مما تقدم يتضح بان الاساس الذي حاول الكتّاب الاعتماد عليه في تعريفهم للمثقف واه ، ولا يمكن الركون اليه. فقد كان المفكر والسياسي الايطالي انطونيو غرامشي، سابقاً لعصره عندما اعتبر تحديد المثقف ضمن النشاطات الفكرية منهجاً خاطئاً، وتعد مناقشته هذه عن ظاهرة المثقفين المحور الاساسي لفكره حيث تطورت بعمق واصالة كبيرين بحيث تعد اوضح ما كتبه في (دفاتر السجن) ذلك لان في هذا المجال كان غرامشي يملك افكاراً واضحة الى اقصى حد من البداية الاولى. فبينما نجد في المجالات الاخرى فروقاً دقيقة، او نجد في المشكلات الاخرى شكوكاً او تذبذبات في فكره، فان غرامشي قد وجد في مجال الثقافة وفي مجال التحليل وظيفة المثقفين من بداية الفكرة التي قدر لها ان تتطور في مسار السنين..

ويتساءل غرامشي في معرض رده لتعريف المثقف ضمن النشاطات الفكرية. ما هي الحدود القصوى لمعنى كلمة "المثقف"؟ اترانا نستطيع الاتفاق على قاعدة موحدة لتعريف جميع الفعاليات الفكرية، على تنوعها وتمايزها –جوهرياً وفي آن معاً- عن فعاليات الفئات الاجتماعية الاخرى؟ يبدو ان الخطأ المنهجي الاكثر شيوعاً هو النظر الى قاعدة التمايز هذه ضمن اطار الفعاليات الفكرية نفسها، بدلا من دراسة مجمل تركيب العلاقات الاجتماعية التي تنتظم هذه الفعاليات وتنتظم بالتالي الفعاليات التي نجدها.

ولما كانت ابسط الاعمال اليدوية واعقدها تتطلب جهداً ذهنياً وكل فعالية بشرية يدخلها جهد فكري لذلك يستحيل عزل الانسان الصانع عن الانسان العارف فيمارس كل انسان فعالية ذهنية معينة خارج نطاق اختصاصه المهني، وبالتالي يحق لنا القول ان جميع البشر مثقفون مع الاستدراك بان جميع البشر لا يمارسون وظيفة المثقفين في المجتمع. ومن هذا المنطلق لا يعد معيار الفعاليات الذهنية معياراً ثابتاً لتحديد اطار المثقفين والتعرف عليهم وتمييزهم عن غيرهم مادام كل انسان ازاء مستويات متفاوتة من النشاط الفكري.

وهناك العديد من المفكرين الذين رفضوا هذا الاطار الذهني البحت كأساس لتعريف المثقفين، وقد يعد سارتر من هؤلاء المفكرين، فهو يرى بأن الذين يتصورون المثقف ويعرفونه بأنه شخص يمارس العمل الفكري وحده دون غيره، يعد تعريفاً سيئاً ذلك لانه لا يمكن تصور عمل فكري محض كما لا يمكن تصور عمل لا يحتاج الى الفكر، فقد يكون الجراح، على سبيل المثال مثقفاً مع ان عمله يدوي، فالمهنة القائمة على هذا التقسيم لا يمكن ان تحدد وحدها ما يطلق عليه اسم المثقفين.

وازاء هذا التساؤلات والمشكلات المطروحة امام تحديد وتعريف المثقف ضمن الاطر الفكرية والذهنية تفرض الضرورة ايجاد معايير اخرى، تملك تلك المقدرة اللازمة للاجابة على مثل هذه التساؤلات وايجاد حلول للمشاكل المطروحة.. معايير يعتد بها لتحديد وتعريف المثقف، لا تدور في الاطار الميكانيكي لتقسيم العمل، بل معايير، مستمدة اساساً من تفاعل جملة عوامل موضوعية وذاتية افرزت ظاهرة المثقفين الجدد، ومن طبيعة التركيب الاجتماعي للمجتمع.

ولما كانت الثقافة، بمفهومها الايديولوجي، هي وعي الانسان المتطور دوماً لنفسه وللعالم الذي يحيا ويعمل فيه، فان تعريف المثقف وتحديد دوره، لا يتم الا ضمن الجماعة الاجتماعية –المجتمع- التي يحيا فيها ويعمل ويناضل من اجلها ويعيش بكل حياته ووجدانه وتفكيره معها التي يحيا بداخلها وان تكون له نظرة نقدية لهذه الجماعة، بمعنى الا ينعزل عنها وانما يدخل في حوار مع احداث هذه الجماعة سواء كانت سياسية او اجتماعية او اقتصادية.

 

في المثقف اليوم