قضايا

وليد خالد احمد: ازمة الثقافة العراقية واشكاليات المثقف العراقي (4)

محددات الانتلجنسيا: يلفت الغموض عادة مفهوم النخبة المثقفة او ما يعرف الانتلجنسيا Intelligentsia، لرواجه وكثرة توظيفاته وتباين مدلولاته، وخصوصاً انه يتقاطع مع مفاهيم اخرى لمفهوم المثقف والمفكر فيغدو احيانا مرادفاً لها. فالمثقف كمصطلح قد استخدم بصفة اساسية من قبل اولئك الذين كانوا ينادون بالحقوق السياسية، وقد تخلق هذا الاسم من خلال ادباء فرنسا الذين قادوا الحركة التي استهدفت تحرير الوظائف الادبية والكتابية، وهي الحركة التي كانت ترمي اساسا الى الحد من سيادة النزعة العسكرية. اما اصطلاح الانتلجنسيا، فقد استخدم من قبل الاوربيين الشرقيين، وهو اصطلاح يعني المفكرين الذين يهتمون اساساً بنقد السلطة القائمة ويلعبون ادوار رئيسية في الحركات الثورية.

لا نرى بالضرورة ان يكون المثقف راديكالياً او من ذوي الميول اليسارية، ولكن الكثير من الكتّاب يستخدمون اصطلاحي المثقفين والانتلجنسيا باعتبارهما يعنيان تلك الفئة من المفكرين ذوي النزعة النقدية والتقدمية، ويتخذان موقف الاغتراب والانفصال عن المجتمع، فان المثقفين فئة تقف من المجتمع موقفاً نقدياً انفعالياً، وهذا يستوجب تحديداً لمفهوم المثقف. فالمثقفين، اشخاص يمكن ان ينظر اليهم باعتبارهم تلك الفئة المستغرقة في انتاج الافكار، مثل الباحثين والفنانين والصحفيين والعلماء.. الخ.

ويمكننا ان نميز المثقفين Intellectuals،  intelligentsia   ،   ونعزو هذا التفريق الى مصطلح الانتلجنسيا الذي استخدم لاول مرة في روسيا، ويقصد به آنذاك اولئك الذين تلقوا تعلمياً جامعياً يؤهلهم للاشتغال بالمهن الفنية العليا. وقد اتسع استخدامه وامتد مدلوله الى كل الذين ينخرطون في مهن غير يدوية. اما المثقفون فهم اولئك الذين يسهمون مباشرة في ابتكار الافكار او نقدها. وتضم هذه الفئة المؤلفين والعلماء والفلاسفة والمفكرين والمتخصصين في النظريات الاجتماعية والمحللين السياسيين.

وقد يصعب تعيين حدود هذه الجماعة تماماً، ذلك لان المستويات الدنيا منها تختلط بمهن الطبقة الوسطى، مثل التدريس والصحافة. لكن الخصائص المميزة لها التي تتعلق مباشرة بثقافة المجتمع تظل واضحة وضوحاً كافياً.

اما بالنسبة الى الاصول الاجتماعية للمثقفين على العموم، فقد استطاع التعليم ان يساعد ذوي المواهب من الطبقات الاجتماعية الوسطى والدنيا على الحصول على مراكز اجتماعية مهمة الى درجة انهم بدورهم اصبحو نخبة، ويضمون فئات متنورة متعددة، مثل الكتّاب واساتذة الجامعات والمحاميين والصحفيين والعلماء والمهندسين والمدرسين.

المثقف، كان امتداداً طبيعياً لفيلسوف القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، على المستوى المذهبي والايديولوجي، فبروز المثقف ارتبط بالصراع الفكري والسياسي حتى انه احياناً يقصد بالمثقفين الفئة النشيطة والمعارضة للسلطة، او ما يطلق عليهم تمييزاً بالانتلجنسيا. فالمثقف من هذه الفئة هو الفرد الذي يلتزم بإثارة القضايا التي تتعارض مع اي ضغط سياسي، ويشترط فيه ايضا ان يكون مالكاً لرصيد معرفي مهم كما ذكرنا انفاً.

إن اصل كلمة Intellectuals مشتقة من Intellect التي استخدمت بمعنى مرادف لـ Intelligence وتعني الفكر والذكاء، او ملكة عقلية لاكتساب العلم والمعرفة.. وعلى هذا الاساس فالكلمتان Intellectuals و Intelligentsia مرادفتان لمعنى واحد هو المفكرون او المبدعون في مجال الذهن والنشاطات المتعلقة به.

ونتيجة لما رافق من تطور في مضمون هذه الكلمة، شملت فئات اجتماعية اخـــــــــرى. لذلك فـــإن استخدام كلمة –المثقفون- بدلاً من –المفكرون- في اللغة العربية، يجنبنا الكثير من الاشكالات التي تنجم من استخـــدام الكلمة الاخيرة، والتي يفهم منها اولئك الذين يعيشون في عالم الفكر دون الممارسة، في حين ان كلمـــــــــــة –المثقفون- أوسع مضموناً، فقد يشير الى اولئك الذين يعملون في مجال الفكر والممارسة ايضاً، بالاضافة الى العناصر الثورية الواعية لحركات التحرر السياسية.

تشير الموسوعة المقارنة بخصوص الكلمتين Intellectuals و Intelligensia الى ان استخدامها في اللغة الالمانية Intelligenz و Intellektuale كانت تحمل عادة دلالات ايجابية مثل الابداع او الانتقاد، اما في اللغة الانكليزية والفرنسية فان الكلمات Intellectuals و   Les Intellectuals كانت تعكس وتدل على بعض القيم، بسبب كون هذه اللغات لم تستوعب بعد مفهوم الطبقة المحايدة، مثلما كان هذا المفهوم في اللغة الالمانية والروسية. فمثلاً ان كلمة –المثقفون- في اللغة الفرنسية، وان استخدمت في بعض الاحيان، فانها لم تكن تعني تعريفاً او اشارة لطبقة معينة. اما كلمة Intelligentsia الروسية فكان اول من استخدمها هو الروائي المغمور Boborykin عام 1860، وترى هذه الموسوعة، بأن هذه الكلمة ذو اصول لا تينية وليس فرنسية بسبب كون اللغة اللاتينية ذلك الوقت، لغة اجنبية تستخدم عادة من قبل اللاهوتيين الروس.

 

ويستفاد من هذه الكلمة، في دراسة النخبات في البلدان النامية وبمعنى سياسي اكثر مما كان عليه قبل الثورة الروسية.

وتؤكد معظم المراجع على اعتبار كلمة Intelligentsia روسية الاصل، حيث استخدمت لاول مرة في منتصف القرن التاسع عشر، لوصف النخبات الصغيرة ذوي الثقافة النامية والتي تلقت تعليما جامعياً على الطراز الاوربي، بالمثقفين الروس Intelligentsia  Russian  .

فهذا التأكيد والاصرار على اصل الكلمة، لا يرتبط برأينا، بالأصل اللغوي بقدر ما يرتبط بالأصل الاجتماعي والسياسي للكلمة.. فشكل الكلمة ومضمونها في علاقة ترابط قوي يعكس احدهما الآخر من خلال هذا الترابط والتفاعل. فاذا كانت كلمة Intelligentsia روسية الاصل ام لاتينية، فهي في الحقيقة، تعكس بالاساس ظاهرة اجتماعية وسياسية ذات ملامح روسية بحتة. الا ان في مراحل تطور مضمون هذه الكلمة وانتقالها الى البلدان الاخرى عكست ظواهر اجتماعية وسياسية اخرى ومختلفة ومقترنة بطبيعة التطورات السياسية والاجتماعية للمجتمعات المختلفة.

فعندما تشير –الموسوعة المقارنة- الى ان كلمة –المثقفون-، في اللغتين الفرنسية والانكليزية لم يكن القصد منها، في السابق، الاشارة الى طبقة او فئة اجتماعية انما في الحقيقة يرتبط هذا بطبيعة تطور قوى الانتاج وما ترتب عليها من نتائج في الترتيب الطبقي والفئوي عقب الثورة الصناعية الاولى، وعندما اضحت تباشير التطور الاداري والتنظيمي الكبير على عتبة الصناعات الضخمة، وعندما برزت فئات تختص بهذا العمل وبشكل اعمق واوضح، عند ذاك ظهرت كلمة المثقف وبزيادة مطردة في اللغة الانكليزية والفرنسية، وهذا ما يؤكده بعض الكتّاب بان اسم المثقف، لم يظهر في اللغة الفرنسية مثلا، الا في العقود الاخيرة من القرن التاسع عشر، هذه الظاهرة مرتبطة اساساً ببنية قوى الانتاج التي تتميز في نمط الانتاج الرأسمالي بسمة جوهرية هي تعميق انقسام العمل الى يدوي وفكري، بنقل حركة مزدوجة تقوم بتبضيع العمل الحرفي وبتشديد التخصص فيه تشديداً يستحيل فيه العمل الى درجة عالية من الرتابة.

وعلى العكس من ذلك، بالنسبة للغتين الالمانية والروسية، فبالنسبة للاولى يرجع ارتباط كلمة Intellektuale بالابداع والانتقاد، اساساً الى غزارة الانتاج الفكري والفلسفي في المانيا من جهة، والى سيادة فلسفة النقد الهيغلي- الماركسي في الفكر الالماني من جهة اخرى، والذي لم يكن هذا الفكر بأي شكل من الاشكال بعيداً عن مجمل العوامل الموضوعية السائدة آنذاك.

اما بالنسبة للغة الروسية، فانه لا يهمنا كون كلمة Intelligentsia لغوياً، روسية الاصل ام لاتينية بقدر ما يهمنا، وبالدرجة الاولى، كون جملة عوامل اقتصادية وسياسية واجتماعية افرزت ظاهرة متميزة فريدة من نوعها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

ففي محيط متخلف محاط بدياجير الجهل تأثر قسم من الطبقة الوسطى الروسية، وبعض النبلاء، بل وحتى ابناء الفلاحين، بالافكار الاجتماعية والسياسية السائدة في الغرب من جهة، كما وان اثباط عزيمتها وخيبة آمالها وإلجام حريتها في التعبير الفكري من قبل الاوتوقراطية الروسية وخضوعها لنظام مراقبة سياسية صارمة من جهة اخرى، ادت هذه العوامل مجتمعة الى ظهور النواة الاولى للانتلجنسيا الروسية في صفوف محترفي القانون والطب والهندسة والتدريس.. كما شملت فئات اخرى من البيروقراطيين وملاكي الاراضي وضباط الجيش.

ويفرق برديائيف مؤلف – منابع الشيوعية الروسية ومعناها- بين الانتلجنسيا الروسية التي تمخضت عن هذه الظروف وبين ظاهرة المثقفين في المجتمعات الاخرى، بقوله بأن المثقفين هم الذين يقع عليهم الجهد والابداع الثقافيين من علماء وكتاب واساتذة.. بينما تمثل الانتلجنسيا الروسية تكويناً مختلفاً تمام الاختلاف، فيستطيع الانتماء اليه رجال قد لا تكون اهتماماتهم من النوع الثقافي، وممن لا يكونون اعضاء في صفوفها.. فلها مفهومها عن العالم، لا يستطيع احدها التخلي عنه، ولها طباعها وعاداتها الخاصة، بل لها مظهرها الطبيعي الخاص بها، فكانت الانتلجنسيا، اذن جماعة من الناس ضمتها ايديولوجيا واحدة لا ترتبط افرادها رابطة مهنية او اقتصادية وانما جاء اعضاؤها من مختلف الطبقات الاجتماعية.

اما بالنسبة ل بوتومور مؤلف –الصفوة والمجتمع- فأنه ميز الانتلجنسيا عن المثقفين باعتبار ان الـ Intelligentsia استخدمت اول ما استخدمت في روسيا خلال القرن التاسع عشر للاشارة الى الذين تلقوا تعليماً جامعياً يؤهلهم للاشتغال بالمهن الفنية العليا، ثم اتسع مدلولها بعد ذلك حينما استخدمت عدد من الكتّاب لكي يشمل كل اولئك الذين ينخرطون في مهن غير يدوية.

غير انه من الملاحظ، ان هذا التفريق والتمييز بين الانتلجنسيا والمثقفين كان وارداً وصحيحاً، الا ان الروابط المشتركة الرئيسة التي كانت تجمع الانتلجنسيا الروسية، لم تكن، كما حددها برديائيف، في طباعها وعاداتها الخاصة او مظهرها الطبيعي او الايديولوجي، ولم يكن التعليم الجامعي وما يخص المهن غير اليدوية، كما هو عند بوتومور، ذلك لانه كان هناك الكثير ممن حصلوا على ثقافة عالية وتعليم جامعي يعملون في خدمة النظام القيصري ولم يكونوا، بالتعريف في الانتلجنسيا الروسية، كما كان هناك الكثير ممن ليس لهم اهتمامات ثقافية، هم اعضاء في هذه الجماعة. فالفجوة الكبيرة بين الجماعة التي انعمت بالثقافة الجديدة والتعليم العالي وبين حقائق المجتمع والسلطة السائدة فيه عوامل قوة قادتهم نحو الافكار الثورية ورفض النظام السياسي، فالقاسم المشترك الذي كان يجمع جماعة معينة  لتكون  الانتلجنسيا ، هو خضوعها لظروف القهر والكبت الثقافيين وحرمانها من حرية التعبير الفكري ،  فأضفت عليهم، هذه الظروف، طابع الرفض الثوري لكل النظام السياسي والاجتماعي القيصري مما ادى بهم الى بلورة مواقفهم الفكرية بصورة قوية، ولكن من دون ان تجمعهم ايديولوجية واحدة تعكس مصالح طبقة او فئة اجتماعية متجانسة، فبالرغم من طابع الرفض الثوري كانت هذه الجماعة تضم بين صفوفها مختلف الافكار اليسارية والليبرالية دون ان يكونوا فئة سياسية متوحدة، او حزب او طبقة متميزة، اكثر مما هم ظاهرة اجتماعية وسياسية ضمن ظروف معينة تتمحور حول مفهوم رفض النظام السياسي والاجتماعي.

وعلى هذا الاساس، يمكن القول بان كلمة Intelligentsia ظهرت في الواقع الموضوعي قبل ظهورها لغوياً وتبلورها بالشكل الحالي. فالعوامل التي افرزت ظاهرة المثقفين في روسيا القيصرية هي التي ادت الى ان تكون الكلمة شكلاً ومضموناً، لغوياً وسياسياً، وروسية الاصل.

فعندما يشير الملحق الادبي لمجلة Times بأن المهني الحديث لكلمة Intellectual لم يكن شائع الاستعمال قبل سنة 1900 ثم اخذت تحل في الاستعمال محل الكلمة الروسية Intelligentsia، انما في الحقيقة يؤكد دخول هذه الكلمة شكلاً ومضموناً طوراً جديداً مرتبطاً بطبيعة النظم السياسية والاجتماعية المختلفة ومتطبعة بخصائصها المتميزة عن تلك التي كانت سائدة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر إبان النظام القيصري في روسيا. الا ان انتقال ظاهرة المثقفين من موطنها الاصلي روسيا حملت، في بعض جوانبها، مفهوم رفض النظام السياسي والاجتماعي، وبدرجة متفاوتة من نظام الى آخر، وهذا ما نجده عند الكثير من الكتّاب الذين يربطون المثقفين بوظيفة ممارسة النقد للنظام السياسي السائد..

فمعجم علم الاجتماع الحديث ل ثيودرسون، يعرف الانتلجنسيا بأنهم اعضاء المجتمع الذين ينذرون انفسهم لتطوير افكار اصلية وينهمكون في مساع فكرية خلاقة. اي انهم المفكرون المبدعون او الصفوة الفكرية في المجتمع. وهذا التعريف يبدو انه ضيق المجال. اذ يغفل جوانب اخرى هامة تميز هذه الفئة مثل اتخاذ مواقف انتقادية تجاه الافكار.

ويعتبر ارنست كلنر، الانتلجنسيا طبقة منفصلة عن معتقدات وقيم مجتمعها بفضل تعليمها الممتاز. وهنا يضيف كلنر الى الجانب الفكري الذي ورد في التعريف السابق، صفة الوقوف بعيداً عن معتقدات وقيم المجتمع، اي بمعنى الانتلجنسيا المحايدة او اللامنتمية اجتماعياً. ولا يهمل كلنر الجانب الانتقادي في ثنايا مناقشته لدور الانتلجنسا، الا ان نظرته الى الانتلجنسيا في اقطارنا العربية لا تشكل بأية حال من الاحوال طبقة بالمعنى السوسيولوجي لهذا المضمون، ولاتكّون حتى مجرد فئة واحدة مثقفة ومنسجمة لاسباب متعددة لعل اهمها تخلف الواقع العربي على مختلف المستويات، وغياب التربية الانتقادية التي كان من الممكن ان تكون عاملاً فكرياً هاماً يربط بينهما ويوحد نظرتها، ووجود الحواجز القطرية التي لا تزال تفصل بينها وتعمق تجزئتها.

ويؤكد عالم الاجتماع الفرنسي المعروف بييربورديو ايضاً، على صفتي الفكر الابداعي والحياد، حيث ينظر الى المفكر الذي ينتمي الى الانتلجنسيا على انه مفكر مستقل وغير متحيز لأي من المطالب غير تلك المطالب الجوهرية لمشروعه الابداعي، وذلك في معرض تناوله للاستقلال الذاتي نسبياً للحقل الفكري في اوربا.

والواقع، ان معظم تعريفات الانتلجنسيا السائدة في العلوم الاجتماعية اليوم لا تكاد تخرج كثيراً عما ذكره بالخصوص عالم الاجتماع الالماني المشهور كارل مانهايم خلال الربع الثاني من القرن العشرين. فهو من ابرز العلماء الذين عالجوا موضوع الانتلجنسيا بعمق سوسيولوجي ووضوح. وأثرت كتاباته كثيراً في الكتابات السوسيولوجية عن هذا الموضوع، بما في ذلك بعض الكتابات العربية عن الانتلجنسيا.

قال مانهايم معرفاً الانتلجنسيا: في كل مجتمع توجد جماعات اجتماعية مهمتها الخاصة تقديم تفسير للعالم لذلك المجتمع، ونحن ندعو هؤلاء بالانتلجنسيا. والانتلجنسيا ليست طبقة بأية حال من الاحوال.. ولا تستطيع تشكيل جماعة ايديولوجية في حد ذاتها ويجب عليها ان تبقى انتقادية لنفسها ولكل الجماعات الاخرى.. وهي غير مرتبطة اجتماعياً.. ومهمتها الرئيسية، السعي المستمر للتقييم والتشخيص والتكهن واكتشاف الاختيارات عند ظهورها وفهم تحديد مختلف وجهات النظر بدلاً من رفضها او تمثلها.

اما بالنسبة للوضعية المناسبة لظهور الانتلجنسيا في اعتقاد مانهايم فهي الوضعية التي يسودها التوتر والسخط والاستياء الجماعي. لان هذه الوضعية –على حد تعبيره- تخلق جواً مناسباً وتشكل حافزاً بناءً للانتقاد الاجتماعي الذي يحتاج اليه المجتمع الحيوي ذو الفاعلية المستمرة على المدى الطويل. وهذه الوضعية غير المستقرة تعمل على تقدم الوعي الذاتي الاجتماعي وتساعد على ظهور الانتلجنسيا. والانتلجنسيا في رأي مانهايم، غير قادرة على العمل السياسي معاً باتفاق وانسجام. لان العمل السياسي يعتمد اساساً على المصالح المشتركة التي تفقدها الانتلجنسيا اكثر من اية جماعة اخرى. فهي من التباين بحيث لا يمكن اعتبارها طبقة واحدة، ولكن على اية حال، هناك رابطة سوسيولوجية توحد بين كل جماعات المفكرين، وهي بالتحديد رابطة التعليم التي تربط بينهم بطريقة عجيبة. فالاشتراك في تراث تعليمي مشترك ينحو بطريقة تقدمية نحو طمس فوارق  المولد، والمكانة، والمهنة والثروة، وتوحيد المتعلمين على اساس التعليم الذي تلقوه. وبالاضافة الى المعرفة المشتركة التي تعمل على توحيد اعضاء الانتلجنسيا، فان هناك عاملين آخرين هامين يعملان في نفس الاتجاه هما:

1. قدرة الانتلجنسيا على السمو فوق طبقاتهم الاصلية المختلفة.

2. النضال السياسي من اجل تغيير النظام المثير للسخط والاستياء العام.

وقد أكد مانهايم ذلك في قوله: يتمتع هؤلاء الانتلجنسيون بالقدرة على الحاق انفسهم بطبقات لا ينتمون اليها لانهم يستطيعون تكييف انفسهم لاية وجهة نظر يختارون تبنيها، لانهم وحدهم قادرون على تجاوز حدود وجهة نظر طبقتهم. وهذا القرار الاختياري للانضام الى النضالات السياسية لطبقة معينة يوحدهم فعلاً مع هذه الطبقة اثناء النضال ولكنه لا يحررهم من عدم الثقة فيهم من قبل الاعضاء الاصليين لتلك الطبقة.

اما فيما يتعلق بطبيعة الانتلجنسيا فانها –في رأي مانهايم- تتنوع من ثقافة الى اخرى وفقاً للقنوات التيب تتولى من خلالها وظائف رئيسة في المجتمع. وعندما تحتل الانتلجنسيا مكانها اللائق بها فانها تصبح ذات تأثير كبير في الحياة الاجتماعية، حيث تضطلع بمهمة وضع انماط ومعايير اساليب الحياة للنخبة المسيطرة، ومن خلال هذه النخبة لبقية افراد المجتمع.

اما عالما الاجتماع المعاصران البارزان بيتر بيركر وتوماس لكمن فيعرفان الانتلجنسيا بانه: خبير غير مرغوب في خبرته من قبل المجتمع ككل. ويشيران الى ان تصورهما للمفكر الانتلجنسي بوصفه خبيراً هاماً من النوع الهامشي اللامنتمي اجتماعياً، لا يختلف كثيراً عن تأكيد مانهايم على حياد او هامشية هذا النوع من المفكرين. والواقع كما يشير هذان المفكران، ان الحياد الاجتماعي للمفكرين الانتلجنسيين قد يفقدهم فعلا التكامل مع الفكر السائد في المجتمع ككل باعتبار ان لهم تصورات خاصة بهم للمجتمع تختلف عما هو عليه في وضعه الراهن.

الا ان السبب الرئيسي، في رأينا، الذي يجعل من خبرة هذه الفئة خبرة غير مرغوب فيها، ليس فقط مرد الانفصال الاجتماعي وعدم التكامل الفكري مع المجتمع ككل، لان ذلك قد لا يضر احداً، وانما لان خبرة الانتلجنسيا وتصوراتها تمثل موقفاً انتقادياً، جزئياً او كلياً، مباشراً او غير مباشر، للنظام القائم والسلطة الحاكمة. ومن ثم تعمل السلطة على محاربة التصورات الناتجة عن هذه الخبرة، وتحاول طمس معالمها، وتهميش اصحابها بمختلف الوسائل والطرق، لانها ترى في ذلك تهديداً مباشراً لوجودها.

وعموماً، تبقى افكار وتصورات الانتلجنسيا مصدر قلق وتغيير بالنسبة للوضع العالمي الراهن، الاسن، ومبعث امل في مستقبل افضل بالنسبة للجماهير المقهورة المغلوبة على امرها.

اما مسألة تغيير المجتمع الى الافضل فهي مرهونة بمدى ما تعانيه فئات الشعب من مآسي الوضع الراهن. ومدى اقتناعها بواقعية وافضلية التصورات المستقبلية التي تصوغها او تشارك في صياغتها الانتلجنسيا الثورية.

ويعتقد بيركر ولكمن، ان المفكر الانتلجنسي لديه تاريخياً عدد من الاختبارات المفتوحة امامه في وضعيته، فهو يمكنه، الانسحاب الى مجتمع فرعي للمفكرين والانتلجنسيين يكون له بمثابة ملاذ عاطفي يلجأ اليه، ويشعر فيه بالراحة والاطمئنان، والتعاطف والحرية، والاهم من ذلك كله، يكون له بمثابة قاعدة اجتماعية فيها من يؤيده ويعتبر تصوراته للواقع، التي لا يصدقها المجتمع الكبير ويعتبرها منحرفة عديمة الفائدة، تصورات موضوعية وواقعية. اما الاختيار الثاني والمهم جداً فهو الثورة. وهنا يشرع المفكر الانتلجنسي في تحقيق تصوره او تصميمه في داخل المجتمع من اجل المجتمع.

وكما ان المفكر المنسحب يحتاج الى اناس اخرين يشدون من ازره ويساعدونه على الاستمرار في المحافظة على تصوراته للواقع، فان المفكر الثوري يحتاج ايضا الى جمهور يؤكد تصوراته ويحيلها الى واقع موضوعي.

ويذكر بيركر ولكمن، ان تاريخ الحركات الثورية الحديثة يقدم امثلة عديدة على تحول المفكرين الثوريين الى مبررين شرعيين رسميين اثر انتصار مثل هذه الحركات. مما يدل على تقلبية الاهتمامات الاجتماعية للمفكرين الثوريين. ويبدو ان هذه النتيجة التي توصلا اليها والتي يتحول وفقها المفكر الثوري الى مبرر رسمي للسلطة، هي نتاج عدم تأكيدها على  الموقف الافتقادي للانتلجنسيا ودورها النضالي من اجل حرية الانسان. وهما الموقفان الرئيسيان اللذان يجعلان من الانتلجنسيا فئة متميزة دائمة الاهمية والحضور في اي مجتمع من المجتمعات وفي اية مرحلة من مراحله التاريخية.

ويرى فرانز نيومن، احد اعلام مدرسة فرانكفوت واتجاهاتها الثقافية الانتقادية ان المفكر الانتلجنسي الاوربي قد تمتع خلال القرون الوسطى بوضع يحسد عليه، حيث اتيحت له من خلال الصراع الدائر انذاك بين الكنيسة والدولة، فرصة التعبير الحر عن ارائه وحرية المعارضة السياسية. اما عصره الذهبي بوصفه مفكراً منتجاً حراً فقد كان خلال الفترة الليبرالية التحررية، حيث توفرت له الجامعة الحرة، والصحيفة المستقلة، ونظام الاحزاب السياسية المتنافسة. ومع تقدم العلوم في الدول الصناعية المتقدمة، وتطور انظمتها السياسية، ونضج التجارب الديمقراطية فيها، ازدادت حرية المفكر الانتلجنسي، في هذه الدول، في التعبير عن ارائه، وتبني مواقف انتقادية تجاه القرارات المصيرية التي تمس حياته. فازدادت ثقته بنفسه وثقة الاخرين في قدراته، وازدادت ابداعاته الفكرية، مما اثري التجارب الديمقراطية في هذه الدول، وحقق لجماهيرها وعياً متطوراً وقدراً كبيراً من الحرية. فلا تقدم بدون ابداع فكري، ولا ابداع فكري بدون حرية الفكر، ولا حرية للمفكر بدون توفر جو ديمقراطي فعلي يستطيع فيه الانسان التعبير عن رأيه بكل صراحة وحرية، بدون تردد او خوف او وسط تحترم فيه كرامة الانسان.

 

في المثقف اليوم