قضايا

وليد خالد احمد: ازمة الثقافة العراقية واشكاليات المثقف العراقي (5)

الانتلجنسيا العراقية: ان موضوع الانتلجنسيا العراقية يتسم بنوع من الصعوبة والغموض لتنوع واختلاف الظروف التي يعيشها ويعمل في ظلها المفكرون الانتلجنسيون العراقيون. ولعدم توفر الدراسات المتعمقة المنطلقة اساساً من خصوصيات الانتلجنسيا العراقية، سواء المقيمة داخل العراق او التي هاجرت منه، فان معظم ما كتب عن هذا الموضوع باللغة العربية –وهو قليل جداً- يتسم بنوع من المعالجة الذاتية او الاسقاطية نسبياً، حيث يكتب الانتلجنسيون عن الانتلجنسيا من خلال اوضاعهم ومواقفهم الخاصة بهم بصفتهم جزء لا يتجزأ من موضوع الدراسة، دون التركيز على تحليل علاقات التركيب الاجتماعي السياسي بوضعية ودور المفكر الانتلجنسي.

وعلى الرغم من ان تجربة المفكر الشخصية قد تعبر عن واقع معاش مشترك تعبيراً اكثر صدقاً من تصورات المثاليين وافتراضات بعض المحايدين الذين يقفون على بعد من موضوع الدراسة. الا ان هذا الاسلوب يعمل على توسيع مجال الاختلافات والتناقضات في آراء وتصورات المفكرين الانتلجنسيين.

سنحاول في هذا الجزء من دراستنا هذه ان نتناول بعض جوانب موضوع الانتلجنسيا العراقية حيث تعتبر اهم جماعة في الفئة الثقافية العراقية، بمقدورها، لو اتيحت لها الظروف الملائمة، ان تؤدي دوراً هاماً فعالاً في حاضر بلدها العراق ومستقبله.

الانتلجنسيا العراقية، دلالة على المثقفين الذين يمارسون عملهم الفكري كنقد ثوري للنظام القائم –اي نظام- وكالتزام بهذا النقد وبالمواقف السياسية التي يدعو اليها او تترتب عليه. والمعنى الذي اعنية هنا يشير الى ذلك القطاع من المثقفين الذين يمارسون النقد الفكري للاوضاع والنظام القائم، جزئياً او كلياً، ويلتزمون، على الاقل بقدر مهم، بالنتائج التي تترتب على هذا النقد.

الانتلجنسيا هذه –وفق ما تقدم- تعطي ولاءها للافكار، والمعرفة، وتمثل الجانب الخلاق في الفكر الاجتماعي السياسي. انها تراقب، وتدرس، وتتأمل، وتنظر وتحلل، وتنشغل نقدياً بالافكار والقيم والتصورات الايديولوجية التي تتجاوز المشاغل والمقاصد العملية المباشرة. وبذلك تتميز عن المثقفين الآخرين بكونها –كما يقولون في الفرنسية "لا تشكل كلاب حراسة". لهذه الاوضاع، للنظام القائم، لما هو موجود، بل قوة نضالية لما ليس موجوداً وفي خدمة ما يجب ان يكون. وبهذا تتسم هذه الانتلجنسيا بــ:

1. الوقوف على مسافات بعيدة من النظام، مما يمكن المفكر من تكوين نظرة موضوعية وكأنه ليس جزءاً منه.

2. ينتقد او يرفض هذا النظام جزئياً او كلياً.

3. هذا النقد يتخذ شكل تصورات مستقبلية وينطلق من تحليل العام والشامل.

ويمكننا من خلال ما تقدم، ان نحدد المقومات الرئيسية التي تفسر دور الانتلجنسيا العراقية الاساس، نوجزها في النقاط التالية:

1. الانتلجنسيا كحاملة للوعي التغييري، تعطي ولاءها للافكار والمعرفة، وتمثل الجانب الخلاق في الفكر الاجتماعي السياسي، وتنشغل نقدياً بالافكار والقيم والتصورات الايديولوجية التي تتجاوز المشاغل والمقاصد العلمية المباشرة. وتجد اهميتها التغييرية الاساسية وشرعيتها كقوة طليعية في كونها اداة لهذا الوعي الذي لا يصح بدونه اي عمل ثوري فعال.

2. الوعي النقدي الذي تعبر عنه هذه الانتلجنسيا، وتكون اداة له، يدفعها الى صياغته في تصورات مثالية شكل هوية العمل الخلاق التغييري ولا يمكن بدونها العمل السياسي ان يكون عملاً تغييرياً. عندما يتعامل الفكر مع النظام القائم يتعرض الى خسران هذه التصورات او الابعاد النظرية الجامعة والبعيدة الافاق، والانشغال بمشاكل جزئية منفصلة ومحدودة، يضيع فيها.

3. بما ان هذه الانتلجنسيا تعبر عن الوعي او العقل النقدي، وبما ان هذا الوعي يتخذ شكل تصورات ايديولوجية ومفاهيم فكرية تغييرية، فانها تجد نفسها خارج النظام وحتى المجتمع نفسه، اي بعيد عن الممارسة العملية للسياسة. هذا الطلاق مع الواقع السياسي العلمي الحي، او الابتعاد عن الممارسة السياسية التطبيقية، يمكن ان يقود الانتلجنسيا الى تعميق صداميتها التغييرية وحدة هذه الصدامية.

4. ان السمة المميزة للانتلجنسيا العراقية هي قدرتها على الخروج من المشاغل اليومية وتجاوز الاحداث الجزئية والظواهر الآنية. فهي حساسة بالمشاكل والقضايا الكبرى، وتتطلع الى ادراك موقعها، وموقع الانسان، من المجتمع والتاريخ، والى الكشف عن معنى عام او عقلانية عامة فيها.

5. حالة الاغتراب التي يعانيها كثير من المثقفين العراقيين تعدهم لدور الانتلجنسيا. وهي حالة الشعور بالانفصام عن الوسط او العالم الخارجي او حتى عن الذات نفسها. وحالة الاغتراب ضرورية كتمهيد للعمل الصدامي لانها تعد الانسان للتمرد على النظام الاجتماعي السياسي الايديولوجي القائم كسبب لتعاسته النفسية الاخلاقية، وذلك بغية تغييره او استبداله بنظام آخر.

6. ان التفاوت الاجتماعي الذي تقاسي منه الانتلجنسيا او ما تعتبره ظلماً اجتماعياً لها، والتناقض بين الثقافة التي تملكها وبين تمتعها المحدود الضيق بالنقوذ، يولد فيها تمرداً يدفعها الى مقاومة النظام القائم.

7. ان القدم المفتوح الى مراتب اعلى، والمسدود امام هذه الانتلجنسيا، كان احد اسباب ظهور الانتلجنسيا وتثويرها.

8. الضغوط السياسية التي تقمع حرية الفكر وتحد كثيراً منها كانت احد العوامل الاساسية في ظهور الانتلجنسيا العراقية وتثويرها.

9. المثقفون الذين لا يجدون عملاً او يمارسون اعمالاً لا تتناسب مع كفاءاتهم او بعيدة عن اختصاصاتهم، كانوا باستمرار يشكلون قوة من اهم قوى الانتلجنسيا التي يمكن لقوى التغيير اعتمادها في تدمير النظام القائم.

ان تحليلنا لمقومات الانتلجنسيا العراقية يلقي مزيداً من الضوء على ماهية الانتلجنسيا ودورها في المجتمع بصفة عامة. خاصة وان المفكرين الذين اشرنا الى ارائهم في معالجتنا لهذا الموضوع، قد تناولوا المقومات التي اوردناها بتحليل متعمق، منطلقين اساساً من تجاربهم النضالية وتجارب مجتمعاتهم، وذلك بقصد فهم وتفسير اوضاعهم الاجتماعية السياسية. فكانت تحليلاتهم وتعميماتهم مطابقة وملائمة الى حد كبير، لواقع مجتمعاتهم ومستوياتهم الحضارية.

ولكن هذا لا يعني بأية حال من الاحوال ان نتائج تلك التجارب والتعميمات المستخلصة منها قابلة، بالضرورة، للتعميم او التطبيق على واقع بلدنا العراق ومثقفيه المختلفة عن تلك المجتمعات في تاريخها وتجاربها وفي ثقافتها وحاضرها. ولا اراني في حاجة هنا الى التدليل على مخاطر وثغرات محاولات تطبيق نتائج اتجاهات عربية او شرقية على الواقع العراقي المخالف للواقع الذي تم فيه تطوير تلك الاتجاهات.

 

المثقف العراقي والسلطة

اصبح موضوع خضوع المثقف للسلطة وتبعيته لها، من الموضوعات الشائعة جداً والتي يشتد النقاش حولها في اغلب الكتابات السياسية واهتمامات الصحافة العربية والعالمية عموماً. بينما نحن في العراق لم نتناولها لحد الآن بشكل جدي، ولا سيما علاقة المثقف العراقي بسلطاته التي حكمت العراق منذ تأسيس دولته الدستورية ولحد الآن.. وهي مسألة ترتبط برباط وثيق بالموضوع الذي نحن بصدده.

كيف كانت عليه علاقة المثقف العراقي بسلطاته الحاكمة، وما هي حدود تلك العلاقة؟

قبل البدء في الحديث عن هذه العلاقة، لا بد من فهم نوعها. فالسلطة كانت عندنا ولا سيما في وعينا الجمعي، هو مفهوم الحاكم الذي يتبعه المحكوم تبعية خضوع وانصياع ويتعصب له عصبية مصالح وليس مفهوم علاقة منبثقة من الاندماج والنشاط المتبادل يكون جميع الاطرف فيها شركاء في اداء مهام وطنية تحكمهم قواعد وسلوك عام.

ان مثل هكذا علاقة في عمومها علاقة قهرية تتسم بالعدوانية، تتضح تجلياتها في ابسط صورها واقربها في التبعية والانسحاق، فيها تغتال ذاتية التابع وتصادر حريته وقدرة الابداع لديه، او يعمد صاحب السلطة الى نفي المثقف من جنته لانه فاقد الثقة والوفاء للسلطة، او لانه يعرف اكثر مما ينبغي، او يقحم نفسه فيما لا يعنه، او يتطاول على رئيسه، او لا يملك من قوة الصبر والاحتمال ما يؤهله لان يكون (جرذ) مكتب و (دودة عثة) اوراق رهن اشارة سيده، تنطبق عليه علاقة السيد بحريمه في حال التبعية، وعلاقة العدو بعدوه في حالة الابعاد والتغييب.

والسلطة، ليست فقط هي السلطة السياسية بل هي انواع عديدة واشكال متنوعة تكتسب خصوصيتها من طبيعة النشاط المنسوب اليها.. فهي سلطة سياسية وسلطة اقتصادية وسلطة اجتماعية وسلطة ثقافية.. وليست المطابقة بين سلطة واخرى حتمية، كما ان التناقض بينها ليس حتمياً هو الآخر. كذلك، فان السلطة الواحدة لها اشكال، فاذا قلنا السلطة السياسية مثلاً يجب الاقرار بان هذه السلطة موزعة افقياً ورأسياً بين عدة انماط فهي السلطة التنفيذية، والسلطة التشريعية، وهي ايضا سلطة الرأي العام وسلطة العقيدة الشائعة وسلطة العائلة وسلطة المدرسة.. هكذا.

ان جذر المشكلة بعامة، ان المثقف الحق، الحر في تفكيره، لا يأتمر الا بصوت العقل والعلم والمعارف وقواعد العمل، ونحن نعلم ان الاقتصاد وادارة شؤون الدولة وحسن التدبير اصبحت ترتكز على المعارف والمناهج ولا دخل فيها للصدفة والارتجال. ومن ثم فهو خطر بافكاره لا يؤتمن في سلوكه، غير مسؤول غير منضبط في ادائه لمهامه، فسلوكه لا ينسجم مع ما يريده المسؤول وما تقتضيه متطلبات السلطة. وعبارة المسؤول وغير المسؤول اصبحت متداولة حتى لدى العامة، فهي تعني التحفظ والكتمان والموافقة المبدئية والنفاق الاجتماعي او الانفلات والاعتراض والتلكؤ. من ذلك مثلاً: المساس بمقومات الشخصية الوطنية، او مصادر الثوابت الوطنية، او بث النعرات الطائفية والعشائرية والمناطقية، وثقافة الحقد او التأمر على المنظومة التربوية بدعوى الاصلاح والتحديث والعصرنة، او اجهاض مشروع المصالحة الوطنية واستعادة الأمن والاستقرار والثقة. وهي كلها مصائب كرثنا بها من جراء مواقف سلطاتنا المرتجلة وتصرفاتها الهوجاء، ومساندة انصاف المثقفين المتسلقين الذين لا يحسنون قراءة نتائج المواقف السياسية، او من تبلد احساسهم الوطني واعمتهم الانانيات والمصالح الذاتية.

والسلطة عندنا –كل السلطات الحاكمة- كانت في جوهرها تقوم على معيار القوة القهرية البوليسية ومدى امكانية استخدامها بالشكل المؤثر في عملية ممارسة الهيمنة او السيطرة على الافراد والجماعات الاخرى، سواء كانت اقتصادية او عسكرية او فكرية، فهي تختلف باختلاف الاتجاهات الفكرية والسياسية. وممارسات هذه السلطة كانت من خلال القوة والنفوذ والهيمنة ليس الغرض منها التأثير في الافعال فحسب بل يكون الغرض منها ايضاً التأثير في الاداء والمعتقدات عن طريق ممارسة النفوذ الفكري، وذلك عن طريق نشر معتقدات وافكار الافراد والطبقات المهيمنة السلطوية لتكون موضع ايمان اجباري عند الافراد والطبقات التابعة لها. لذلك، كنا نرى ونلمس حكم السلطات الجمهورية –حتى الآن- رأياً واحداً سائداً هو رأي السلطة وكل ما سوى ذلك يتهم بالمعارضة والخروج والكفر والخيانة، ولا يكون امام مثقفينا الا السجن او القتل او التعذيب او الهجرة.

وقد ادى هذا الامر الى ضيق مجال الديمقراطية بل انعدامها عندنا بشكل لم يسبق له مثيل، نتيجة وجود مثل هذه السلطة الذي يملي والذي لا يدع مجالاً من الحرية للمثقف والمبدع. وبذلك انحصر دور المثقف العراقي القادر على لعب دور سياسي في خيارين محددين: اما ان يكون تابعاً للسلطة يبرر خطواتها أياً كانت تلك الخطوات ويسير في ركاب النظام مؤثراً السلامة ورغد العيش، واما ان يكون مقموعاً خارج اطار السلطة مقذوفاً بكل التهم والنعوت التي تكيلها له كل ادوات إعلام ومؤسسات السلطة عبر اوركسترا متناغمة. وهذا الخيار الصعب اوجد ما يسمى في الحياة السياسية العراقية بالانتهازية السياسية والفكرية، حيث ازداد عدد اولئك المثقفين الذين تساقطوا يومياً وعلى امتداد العقود الخمسين الاخيرة.

انه بجانب هذا التقسيم للمثقفين، بأنهم اما تابع للسلطة اما معارض، ارى ان هناك بعداً ثالثاً وهو الاغتراب واللامبالاة الذي كان سائداً وأخذ يسود لدى عدد من المثقفين ممن كانوا يشعرون ولا يزالون باللاانتماء بسبب ما انتابهم من قرف لطبيعة العمل السياسي والفكري المطروح، الذي يعارضهم لسبب او لآخر مما جعلهم كأفراد لا يقدمون على التضحية، فهؤلاء المعارضين لما كان واقعاً غالباً ما عملوا تحت الارض بسبب انسداد ابواب القنوات الاخرى امامهم.

ان المثقف العراقي الملتزم مطالب اليوم ان يكون صادقاً مع نفسه، متمثلاً عدداً من القيم الاساسية، مستعداً للتضحية، واعياً لدوره التاريخي، بمعنى واعياً ان تضحياته الراهنة ستقوده الى مكاسب شعبية عامة في المستقبل.

ومن هنا، يستوجب عليه ان يحمل هموم مجتمعه، ويلتزم بضميره وبالتحديات التي تواجهه، وان تكون علاقته بالسلطة –أية سلطة- علاقة استقلال، وهذه في غاية الصعوبة، خاصة في عراقنا العزيز، حيث كانت السلطة فيه لا يمكن ان ترضى من المثقف ان يشكك في اطروحاتها الفكرية وتصرفاتها.

ان مهمة استقلال المثقف عن السلطة، هدف مطلوب وغاية لا بد ان يحرص عليها ويسعى اليها. لكن هذا الاستقلال هل بالاستطاعة تحقيقه بشكل كامل وبشكل مطلق؟ تلك مشكلة المثقف الذي يعي ضرورة حريته ويشعر بها، والذي يعي حدود هذه الحرية وتؤرقه هذه الحدود المفروضة عليه، عليه ان يواجه هذه السلطة التي غالباً ما تسير في خط معاكس لكل ما يمثله المثقف. ولما كانت السلطة عندنا في غالب الاحيان هي سلطة قمعية، لم يبق للمثقف الا المواجهة وربما الاستشهاد. ولا اعني هنا الاستشهاد بالمعنى الحرفي.

ولا شك، ان سلوكاً كهذا، اي سلوك السلطة، يقابله النفور والرفض من جانب المثقفين الفاعلين المنتجين، والنتيجة لهذه العلاقة القهرية او التصادمية، إعاقة النهوض وإطالة عمر التخلف وتعاقب المشاكل، واليأس من الاصلاح وتصحيح المسار، والهجرة الداخلية والخارجية، والسلبية والارتجالية في المواقف والخطاب السياسي واهدار الامكانات البشرية والمادية.. ونحن في زمن تنضب فيه مواردنا الاقتصادية والطبيعية وتزداد حدة النمو الديموغرافي ومتطلبات الحياة بمتوالية هندسية، فأنى لنا ان نوقف هذا الانهيار؟

ولكن، حتى لا نجانب الموضوعية، ولكي ننصف جميع الاطراف: هل المثقف محق  ومصيب في كل مواقفه وسلوكياته واطروحاته دائما، في مقابل تخلف الحاكم المسؤول وجهله وغطرسته وضيق نظرته وانانيته؟ ألسنا اليوم مطالبين بأن ننظر الى هذه العلاقة غير المتوازنة وغير العادلة من زوايا اخرى قد تلغي كل الاحكام المسبقة نحو هذا الطرف او ذاك، وتسفه رؤيتنا المنحازة المحكومة بتجاربنا الفردية المزاجية الفقيرة، وعجزنا عن التأثير في الآخر، والتفاعل معه وترقية قدراتنا المعرفية والعلمية في التسيير والانتاج ونجاح الاداء الى بقاع الاستبصار ومرتجيات المستقبل؟ أليس السؤال حول اهمية النخبة المثقفة الفاعلة الموجهة التي تضطلع بالبناء والتنمية، وبالتالي التي تمتلك الحقيقة وتنتجها، هو سؤال مشروع؟

ان مهمة مثقفنا العراقي في الظرف الراهن، هي ان يكون الفدائي الجديد!! الذي يواجه السلطة التي قد تنتهي به الى الموت اغتيالاً. وانا لا ابالغ هنا، فقد كانت نتيجة مواجهة بعض المثقفين العراقيين للسلطة، ان انتبهوا الى الاستشهاد الفعلي.

ان دور المثقف في تحديث المجتمع، يتعارض في اغلب الاحيان مع السلطة، سواء كانت ثيوقراطية ام دكتاتورية او رجعية ام تتستر بالتقدمية ام خاضعة ام مسيرة من قبل قوى كبرى.. فاغلب هذه السلطات استفادت من الحداثة والتكنولوجيا المتقدمة بوجه خاص، وسخرتها في اغراض خاصة. فالتكنولوجيا هي بالدرجة الاولى عند هذه السلطة كانت اداة لخدمة مصالحها، وهي اضافة الى ذلك، اداة للقمع وللتجسس وللضغط على المثقفين. فهي تستفيد من التكنولوجيا ليس من اجل تحديث المجتمع بل من اجل محاربة رواد التحديث والتجديد والتغيير ورواد التقدم والتطور بمعناه الحقيقي وقمعهم جميعاً، خاصة قمع المثقف الذي يقود الجماهير او يؤثر فيها.

ان عملية القمع التي مورست ضد اغلب مثقفينا، كانت لا تتم فقط على يد السلطة وحدها، بل كانت تأتي في اثواب اخرى ومن مؤسسات ثقافية تقليدية، فقد اتت من مؤسسات ثقافية معارضة للحداثة ذات اغراض سياسية معادية لمصلحة المثقف الفعال ودوره، وقد اتى القمع ايضا من مؤسسات اجتماعية واقتصادية.

لذا، كان صوت مثقفنا المتمرد الرافض على الانخراط في لعبة السلطة –اية سلطة كما اسلفنا- المتمثلة بالقتل والعمالة وتقسيم الوطن والناس والتاريخ. قد خفت، فهو صوت الضد، الموقف الضد. ومن الطبيعي جداً الا يلتفت اليه احد من ازلام السلطة صناع القرار السياسي والثقافي، ولا من المؤسسات السائدة، فهو على نقيضها التي ترى انها المسؤولة الاساسية عن كل ما يجري من خراب لمقدرات العراق، فمن الطبيعي اذن الا يلتفت اولئك الذين نصبوا انفسهم زورا قادة وصناع قرار.. وهم في الواقع خدام العدو، بل اكثر من الطبيعي ان يحارب هؤلاء القادة الازلام محاربة ضارية تلك الاصوات، من خلال فرض مناخ حديدي من الارهاب والتعسف.

ان مثقفين كثيرين ما عادوا يتحملون مناخ الارهاب والجريمة والقتل الذي فرضه اولئك النفر عبر احزابهم ومؤسساتهم وتنظيماتهم.. فقد رحلوا وهاجروا، والاصح انهم هجروا الى خارج الوطن. لذلك لم يبرز في صفوف مثقفينا مثقف واحد بمستوى القيادة/ المواجهة يرفع الصوت عالياً. فالمثقف –بصورة عامة- ليس حزباً ولا تنظيماً ولا مؤسسة، والقيادة التي تنظم الناس لا يمكن ان تكون الا ضمن مؤسسة، اي ضمن عمل سياسي مستمر ومنظم ويتمتع بامكانيات كبيرة لا تتوفر عند المثقف.

إنني اعتقد ان الدور الاقوى والاكثر فاعلية للمثقف العراقي اليوم ان يكون جزءاً من حركة منظمة شريطة ان يكون صبوراً ومستعداً لتحميل كثير من احباطات العمل اليومي والابتعاد عن المثاليات والحلول السريعة.

 

تحديد المواقف وتفعيل الادوار

ان الثقافة في العصر الحاضر قد اصبحت ذات قيمة، واسواق هذه السلعة: الجامعات والتجمعات الادبية والمنابر الاعلامية بكافة اشكالها، وحلقات المناقشة من مؤتمرات وغيرها.. وذلك بحثاً في ما يمكن ان يقدمه المتعلمون للمجتمع من حلول لمشكلاتهم وما يثيرونه من مناقشات في المجامع الثقافية.. ومن هنا تتحدد هوية المثقف.

اننا لا نتجاوز الحقيقة اذا اكدنا، ان المثقف في المجتمعات الحرة وخصوصاً انهم قد قدموا ادواراً ممتازة في الحياة السياسية، رغم كونهم في واقع المجتمعات الاستبدادية، لعبوا ادواراً احتجاجية حاسمة. لذلك، فان السؤال الملح:

- ما الموقع الذي يمثله المثقفون في مجتمعنا العراقي؟

ان اختلاف الاجتهادات حول هوية او ماهية المثقف العراقي وانماط تعاملاته.. يرى البعض وجوب انخراطه في حركة اجتماعية منظمة او ان يتولى القيادة الفكرية في احدى مجالات الحياة العامة، والبعض الآخر يرى ان المثقف لا بد من ان يكون بمثابة فيلسوف، فتكون له مواقف ايديولوجية واضحة، الا ان البعض الآخر يرى ان يقتصر على انتاج الافكار المجردة المفصولة عن الشؤون الثقافية العامة ولا يرى ضرورة لكل ما ذكر آنفاً، فالعادة في الاحاديث الجارية عن المثقفين لا تشترط فيهم هذه الشروط، وان كانت تعطي لهم مكانة اجتماعية خاصة. ويرى ايضاً ان اثراء اوساط المثقفين والقادة المفكرين والفلاسفة امر يتغير حسب الظروف العديدة.

لقد بات من المألوف القول، اننا بعد التغيير السياسي الذي حصل في 9/ نيسان/ 2003، بتنا نعيش اوضاعاً أمست تحفز كل مثقف حقيقي على تحديد مواقفه وتعيين خياره في المواجهة. وبما ان معركة خلاص الوطن هي معركة خلاص الذات بعيداً عن اية خطابة او ممارسة جوفاء. فمن غير المعقول ان يبقى المثقف العراقي منقطعاً عن تفعيل دوره اليوم مهما ادعى القدرة على كسح المثبطات التي تجتاحه.

على الضد من ذلك، اننا نرى انه كلما تأزمت الامور وتعقدت، كلما تبلورت قيمة ان يكشف هذا المثقف حقيقة وعيه للثقافة اصلاً. فالموقف الثقافي الصميمي انما يكون لحظته التاريخية، ولا معنى له خارج هذه اللحظة.

وتأسيساً على ما تقدم.. يمكننا ان نحدد ما المقصود بالمثقف العراقي، ونقول: انه ذلك الشخص الذي حاز على درجة عليا من العلوم المعاصرة وغير المعاصرة.. على ان يكون له اهتمام بالشأن الوطني وقضايا المجتمع، ويتجسد هذا الاهتمام في ما يكتبه من اراء عبر وسائل التعبير المتاحة، كالكتب والدوريات ووسائل الاعلام المسموعة والمرئية.

وتعريف المثقف العراقي ليس حصراً على ذوي التكوين العلمي المعاصر بل يتعدى ذلك الى المؤهلين شرعياً بشرط ان يكون لهم اهتمام واضح في الشأن العام، كما انهم لا يرفضون المستجدات النافعة والتسليم بالتحاور والمحاورة مع الآخر دون ان يكون ذلك شرطاً في التسليم له، ولكنه للاستفادة منه والتأثير فيه.

ان المثقف في مجتمعنا العراقي بدأ يستحضر مقولات التنظيمات الوطنية والشرعية والادبيات التنموية، وهذا الاستحضار للمقولات الوافدة عمق فيه حالة من الوعي المنفصم الذي فيه يتمزق بين طرفي نقيض او تتجاذبه من ناحية رغبة في الانخراط ضمن تيار الحداثة والعقلانية الغربية والنظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحديثة، ومن ناحية ثانية رغبة في المحافظة على الذات ودعم الهوية وتجنب الهيمنة الحضارية، وبذلك استقرت في وعي المثقف العراقي هاتان الرغبتان المتعارضتان.

والمتتبع لانتاج المثقفين العراقيين يدرك ان بعض المثقفين العراقيين حاولوا ان يكون لهم دور في مسار التنمية وادارة الشأن العام، الا ان ذلك انحضر في المستوى النظري او الاداء الروتيني من خلال الانخراط في الاجهزة الحكومية بصفتها المجال الوحيد الذي يحقق له الهيبة والجاه والتطلعات الشخصية للحراك الصاعد.

ولم تضعف ثقافته على الابداع والمهارة وسرعة الانجاز بل عادة ما انحنى لتوجهاتها وراعى مزاجها بتنازله عن دوره كمثقف مجتمع مكتفياً بأن يكون موظف نمطي ينشغل يومياً بملفات روتينية، وذلك ما قلص لديه حتى خلق الفرص او حذف ادارة التنمية وفق ما يحقق اهداف المجتمع بل في كثير من الاحيان ينهج مسالك البيروقراطية الفاسدة نفسها التي يفترض ان يعاديها او يغير من اسلوبها.

ان احدى محن المثقف العراقي المزمنة تتمثل في شكواه من حالة الخنق الدائمة التي لا تمكنه من التنفس بحرية، ومرد ذلك الى عوامل سياسية ودينية، وضيق في المجتمع المدني الى حد الغياب احياناً. وذلك ما حد من قدرة مثقفنا على توثيق الصلة بشرائح المجتمع وفئاته التي يتحدث بخطابه لها وباسمها ونيابة عنها.

وفي واقع الحال، فأن مطالب المثقفين العراقيين ما زالت محدودة، ومطلب التعبير عنها قد يفوق اهمية عن تحقيق الباقي منها.

من هنا، نجد ضرورة ربط دور المثقف العراقي بقضايا مجتمعه الذي يحتضنه ونؤثره مناضلاً في صفوف الجماهير على الانعزال في غيبوبة صوفية بحثاً عن ترف عقلي، ذلك ان المثقف بصورة عامة بحكم وضعه في مجتمع نامي مطالب بالالتحام به اكثر مما ألفته الحياة في مجتمع متقدم. ومجتمعنا العراقي يحتاج الى التوعية في مجالات شتى، وهذه التوعية لن تكون منسقة وموصلة للهدف ما لم تكن لها نخبة مثقفة رائدة تحميها بتجاربها  وتغذيها بعلمها. فالمثقف يجب ان ينقل ثقافته الى محيطه الاجتماعي بقصد التغيير والتأثير وتفعيل من يتعامل معهم بحيث يكونون قادرين على الاسهام في احداث تغييرات في مجتمعاتهم يرتفع بها الى الاحسن.

المثقفون العراقيون عموماً، اما ان يمتلكوا وعياً ومكانة يسمحان لهم بصنع قدر مجتمعاتهم باعتبارهم فاعلاً قادراً على تحفيز الجماهير وتعبئتها للبناء انطلاقاً من فهمهم للتناقضات التي تحكم نسق المنظومة الاجتماعية وتحويل الصراعات والتناقضات في المجتمع الى قوة دمج وصهر وذوبان ليصبح الوطن كله نسيجاً واحداً همه تحديد الاهداف والسير بها الى خيار المصلحة المشتركة والمنفعة المجتمعية فيستثمر المثقفون قوة زادهم المعرفي لتضييق زاوية الانحراف مجتمعاً وقيادة. وبهذا يصبح المثقفون القدوة التي تهدي المجتمع لكونهم مثالاً يحتذى به ومن دون ذلك سيتحولون الى مجرد افراد محتوين من قبل القوة الفاعلة في المجتمع سواء القوة السياسية او المالية، مشغولون بتبرير الممارسة السائدة من خلال المدح والاطراء والتبجيل او موظفين من قبل الفاعلين في الدولة وممجوجين من قبل الجماهير.

وعندما يدرك المثقفون هذه الحقيقة فانه يتحتم عليهم اما ان يكونوا احد مفردات البيروقراطية القادرة على توفير المعاش الاجتماعي لهم من خلال ما يتلقونه من راتب الوظيفة الشهري وباقي الامتيازات الاخرى العديدة او ان يطوعوا معرفتهم من اجل عامة المواطنين الذين لا يقبلونهم الا اذا وظفوا ذلك الزاد في الدفاع عن مصالحهم. لكن ما ان يصبح المثقف غير ذي نفع لبيروقراطية المركز حتى تستبدله الاخيرة بغيره.. وهكذا تتابعاً.. وذلك من استراتيجيات البيروقراطية في لعبها مع المثقف او اي فاعل آخر.

ان الفئة الاولى من المثقفين، فأعتقد انها الاكثر في عراقنا، واما الفئة الثانية فهي الاندر.

من هنا، نستطيع ان نقر ان في امكان المثقف في حالة الولاء والخضوع والتبعية، ادراك المناصب العليا في الدولة خصوصاً اذا اضاف لزاده المعرفي مكانته الاجتماعية الصادرة عن العائلة او الشلة او الزمالة او المنطقة او المصاهرة.. ولهذه العوامل مجتمعة قد يتنازل المثقف عن مطالب الاحتجاج كشكل من اشكال المقايضة.

من هنا، فانه لا بد من فك الاشتباك بغرض معرفة المقصود بمثقف في السياق العراقي لنصل الى المعنى الذي نفضله للمثقف، ذلك المعنى الذي يرتبط بالتفاعل والفاعلية وتجاوز الواقع في تفكيره، لذلك اعتبره سارتر (الضمير الشقي)، لانه لا يرتاح للأمر الواقع ويسعى لتفسيره وتغييره، اذ لا يقف عند حدود معرفته وتخصصه العلمي بل يتسع ليشمل الاهتمام بكل ما هو وطني وانساني وبالتالي لا يرضى ولا يقتنع بالامر الواقع.

المثقف بتكوينه وادراكه يفترض فيه صعوبة التكيف ولكن الحياة الواقعية تفرض عليه في كثير من الحالات الملموسة  قدراً من التنازلات والحلول الوسط.

المثقفون في المجتمع العراقي يتطلب منهم ضمنياً ومن خلال السنن الثقافية وعبر مقاولاتهم وبحوثهم وندواتهم ومشاركاتهم في المؤتمرات وتحاليلهم الموثوقة تقديم النصح والمشورة والرؤية لصانع القرار ولعموم فئات المجتمع، وذلك لما يتميزون به عن غيرهم من استشعارهم لثقل الهم الاجتماعي بواسطة ما يماثل الرادار او المجس الوطني القادر على التقاط الذبذبات من محيط المجتمع وصياغتها في افكار قيمة تجسر المسافة بين المواطن والمسؤول لتعميق الثقة والشعور المتبادلين بصفتهما متميزين بالقدرة على عرض قضايا وهموم ومشاكل وشجون مجتمعها، سواء ما كان منها ظاهراً للعيان او خافياً كامناً في عمق خفايا المجتمع.

فالمثقف مطلوب منه ان يكون ضمير الدولة ووجدان المواطن،  اذا ما التزم الصراحة والجرأة العلمية ليدركها المشرع ويتفهمها المنفذ، ويطمئن المواطن الى ان قضاياها ومطالبه تعالجان معالجة علمية ومعمولة لدى المعنيين بالامر. واذا تأكدت له هذه الحقيقة فانه لن يلجأ الى السراديب المظلمة ولن تغريه الاشاعة وربما لن يصدقها طالما ان قضايا المجتمع مطروحة للمناقشة امام الرأي العام ومعلومة من قبل الجهات الرسمية.

ففي كل المجتمعات التي تحررت وتقدمت كان المثقف هو رائد الطليعة التي تمهد وتبشر لا تثير الحزن ولكن تبشر بالامل والخلاص، ولذلك تعنينا كثيراً قضيته وموقفه لانه هو الذي يصحح المسار. فموقفه بالذات هو الذي يعنينا، تعنينا خيبة امله، خيانته للمجتمع، سقوطه وتراجعه، ترديه واستسلامه، ووقوعه في تخبطات كثيرة.

وعليه، ارى ان القضية الاساسية التي تشغل بال اي مثقف ملتزم في هذه المرحلة بالذات هي الازمة التي يمر بها العراق، وهذه الازمة تتبلور عند الذين يحسون بالآخرين او ان قضية التعبير عن طموحات الآخرين هي قضيتهم.

لا مراء لي ان مئات المثقفين في كل المجتمعات الانسانية اتخذت مواقفاً متباينة من قضايا مجتمعاتها واوطانها، بل تقوم القرائن على دورها الريادي في معظم التحولات والمنعطفات التي بصمت مسار التاريخ الوطني. وفي العراق، فقد قسمت هذه المواقف مثقفينا الى فئات متباينة هي:

 

في المثقف اليوم