قضايا

هاشم عبود الموسوي: المثقف العراقي كفاعل إجتماعي في قلب الأحداث الراهنة

hashem mosawiلا تهدف هذه الدراسة المتواضعة إلى تعريف الثقافة، ولا من هو المثقف، وأنما تحاول أن تناقش واجبه في معترك ومفارقات الوضع الحالي الملتبس الذي يعيشه مجتمعنا اليوم.

لا شك وأن كلمة المثقف في التداول العام مرتبطة بعمليات التحول الإجتماعي والسياسي، فعند عتبات تلك العمليات يبرز المثقف فاعلاً إجتماعياً له موقعا و دورا ووظيفة ..

 تاريخياً بشكل قاطع ثبت، بأنه مع تغير المراحل والسياق والظروف يتغير، بهذه الدرجة أو تلك موقع المثقف ودوره و وظيفته

 ولا بد أن نذكر بأن ولادة المثقف الجديد في أوربا، قد إرتبطت بالتنوير، وقيام الجامعة وظهور الآيديولوجيات، وكذلك بعلمنة المجتمع بالسياسة والثقافة ... وقد تم ربط  المثقفين (وبنوع من التبسيط ) بالحداثة، أي بالعلمانية و بالتعددية الدينية، و بحرية الأفكار، وبظهور الطباعة في نهاية القرن الثامن عشر مع إنطلاقة الثورة الفرنسية وبضغط ما  أصبح يعرف بحقوق الإنسان.

في هذا الخضم الحاث لنهاية الإقطاع  وبزوغ الرأسمالية أطل هذا الكائن العارف، المتسائل، الناقد، النخبوي، المتمرد، الرائي، والشكاك.

أما في البلاد العربية فإرتبطت ولادة المثقفين بصدمة الإستعمار، وإنتشار فكر النهضة الذي صار يشع من قلب المؤسسة الدينية آنذاك، مهدداً التقاليد الفكرية والمناهج القديمة بإطروحات صادمة، كانت الى حد بعيد صدى لفكر التنوير.

في العراق، وحتى قبل تأسيس الدولة 1921 م في عام، وجد المثقفون أنفسهم مهمومين بالسياسة .. كان الوضع العام يتطلب من المثقف أن يحدد موقفه مما يحدث .. كان عليه أن يقول كلمته، وأن يخرج الى الشارع ليهز وعي الناس ويحثهم على الفعل المعارض .. أسس ذلك حتمية ولوج المثقف العراقي حقل السياسة .. ومنذ ذلك الحين، وحتى الآن، لاصراع سياسي ذا طابع حاسم من غير حضور المثقف، وتورط المثقفين. مع الإهتمام المبكر بالسياسة، وتأثير الشروط الموضوعية للواقع الضاج بالتناقضات  والصراعات، ومفاعيل الأحداث الإقليمية والدولية، ومن ثم الإحتكاك مع القادم من شذرات الفكر الغربي الذي إجتاح بلداننا بين الحربين العالميتين، وبخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، فقد وجد كثير من المثقفين العراقيين أنفسهم مياليين الى اليسار في تبني الأيديولوجيات السياسية ومولعين بفكرة الإلتزام على وفق ما فهم من أدبيات الماركسية بمختلف مشاربها أولاً، والوجودية  بالمنظور السارتري في ما بعد ..

في  كثير من مجتمعات معاصرة إستمرت فكرة (المثقف الملتزم) لصيقة بالسلوك العام للمثقفين ومواقفهم منذ ذلك الحين، وإن تبدل مضمون تلك الفكرة وكيفية إستيعابه وترجمته فعلاً على أرض الواقع بين هذا المثقف وذاك، وبحسب توالي الحقب وتقلبات الأحداث.

 ما الذي حدث في بداية عصر المعلومات:

في المجتمع المعاصر ومع تطور وسائل الإتصال والإعلام وأنظمة التعليم والثورة المعلوماتية بات من الصعب الحديث عن جموع جاهلة .. لقد بات الجمهور الغالب على قدر من الثقافة العصرية، له وجهة نظره وموقفه المبني على قناعات، وهذا ما أطاح الى حد بعيد بفكرة النخب العارفة القائدة بمعناها التقليدي السائد .. فتمييز المثقفين عن الآخرين في المجتمعات المعاصرة، ومنها كثير من المجتمعات المتعثرة في طريق النمو، لايخضع للمعايير التي تؤسس للتراتبية. فالمثقف لم يعد يحتل موقعا فوق عامة المجتمع، وإنما بينها، والى جانبها. ويكون التمييز على أساس الدور و الوظيفة المحددين للموقع. والمثقف الذي هو منتج للمعارف ومبدع للفنون الجميلة والمختص بالعلوم الإنسانية وخلق الأفكار والرموز فلم تعد هناك مسافة شاسعة بينه وبين الجمهور في المسائل التي تتعلق بقضايا الشأن العام،لا سيما السياسة ومسالكها . لكنه يبقى بالمقابل، منشطا للنقاش العام، ومصدر طاقة في الحراك المدني .. وهذا ما أصبحنا نلمسه، أخيراً في صورة المثقف بالمشهد السياسي العام الآني، محتجاً مدنياً، " يقول الحق بوجه السلطة" .

مايفرق بين مثقف اليوم (الفاعل الإجتماعي)، ومثقف الأمس النخبوي هو أن الأول قد كف عن الإدعاء بأنه يمتلك الأجوبة الصحيحة كلها ومفاتيح الحل، وعلى الآخرين أن يتبعوه .. مثقف اليوم هو المثقف الذي يطرح أفكارا و رؤى للحوار، ويكون مستعداً لتغييرها إذا ما إقتنع بوجهة النظر الأخرى .. وما يميزه عن غيره، في لحظات الصراع المصيرية أنه يرى الظاهرة في سياقها بالعلاقة مع الظاهرات الأخرى،. ويتمثلها في صورتها الشاملة بموجهاتها وتحولاتها ومآلاتها.

هنا يجب الإشارة والتأكيد على أنه  يتطلب منه  في الوضع الراهن، أن يمتلك  القدرة على التأمل المنطقي الهادئ و المتأني و  بإقل نسبة ممكنة من الإنفعال والحماس، وفي سبيل المثال (عراقيا) لا يحلل المثقف ظاهرة الفساد بوصفها مجرد دالة للإنحراف الأخلاقي لأشخاص بعينهم وبقدر  ما يفسرها معطى لمشكلة بنيوية، تتعلق ببنية السلطة القائمة و آليات عملها، وإستراتيجيات المتصارعين حولها والماسكين بمفاصلها، وإيحاءات الأيديولوجية الخفية التي تلهمهم، وجملة المصالح المتعارضة التي توجههم .. من هنا يغدو (الإصلاح) في نظرة المثقف عملية مركبة مستدامة. وهو (في مثال آخر) لا ينسى في حديثه عن الفساد الوجه الآخر البشع له، أي الإرهاب. حيث التواطؤ بين الإرهاب و الفساد،،وهذا ما يعد أخطر ما يواجه المجتمع العراقي في راهنه و مستقبله .

 

دور سلبي لبعض المثقفين

في عصر العولمة الحالي والميديا الحديثة ومع إنتشار وسائل التواصل الإجتماعي على الشبكة العنكبوتية .. حدث وأن تم توظيف ثقافي في بعض الصراعات السياسية ، أوجدته السلطات على وفق قواعد ماكرة و مراوغة، فأصبح المثقف لا يعمد الى الدفاع المباشر المفضوح عن السلطة ومصالحها لأن القائمين به سيصنفون حالاً في خانة المتملقين الإنتهازيين المنتفعين ولن يصغي إليهم أحد، وإنما يقومون  بإخفاء نواياهم ومقاصدهم بدهاء شديد، وهم  يرتدون جبة الناقد للسلطة لكن طريقتهم تدعم  أركانها وتوجهاتها ومصالحها. فهم يشوشون أكثر مما يوضحون، ويخلطون  الأوراق بدلاً من فرزها، ويؤدون دور حصان طروادة ثقافياً حيث أنهم  يصطفون مع المعارضين والمنتقدين ونصب أعينيهم تضليلهم والإساءة لسمعتهم.

 

هل يمكن لمخاض الأزمات أن ينتج جيلا جديدا من المثقفين ؟ :

كانت ولا تزال مراحل الأزمات الكبرى تنبئ بولادات جديدة لجيل جديد و مجتمع جديد و ثقافة جديدة ومثقف جديد، فعمليات المخاض المكلفة بدعم من شروط مؤاتية لابد من أن تحقق وعوداً ومفاجآت جديدة من غير أن ننسى ضراوة القوى المعيقة المدافعة عن بقائها، وحروب المصالح المتقاطعة، ولا ننسى إمكانية الإخفاق أمام الإحتمالات غير السارة، وهي واقعية بطبيعة الحال. حيث يقاوم القديم الذي يرفض أن يموت الجديد الذي تصعب ولادته.

مما يجب أن يتعلمه المثقف الآن هو نسيان البلاغة الفضفاضة لخطابه ذي المحتوى السياسي الإجتماعي المبتذل والتعاطي مع مفردات الواقع الصغيرة منها والكبيرة التي نتعاطى بها، في البيت والمؤسسة والشارع والمحفل العام في كل ساعة وفي كل يوم .. متفهما الواقع بتناقضاته وصراعاته وتحولاته ومفاجآته، المرئية منها وغير المرئية، في المتون، وعلى الهوامش، ليبتكر خطاباً سياسياً يتساوق وروح العصر ومتطلباته.

الأن ونحن نعيش لحظة الآزمة المولدة، فكيف لنا أن نتصور إزاحات في الوعي السياسي العام؟ وهل يصح ذلك من غير تفعيل البعد الثقافي مجتمعياً،  وإعادة الإعتبار له؟ وألا يتطلب هذا موضعة جديدة للمثقف؟، بوصفه فاعلاً إجتماعياً في القلب من الحدث الراهن؟ وبالتأكيد بعيداًعن الفكرة التقليدية المتشحة بالإستعلاء  . إذ  لا يتوجب  على المثقف العارف تعريف  الجموع الجاهلة غير العارفة، بالتعاليم الآيديولوجية غير القابلة للنقد، كما ظل يظن وإنما  يجب أن تأخذ وظيفة المثقف في ضوء حضوره في الحراك المدني، صيغة إدارة النقاش العام حول المسائل الجوهرية الملحة، وطرح المفاهيم والأفكار والتصورات المنشطة للحوار عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الإجتماعي والندوات والإجتماعات المباشرة حيث يكون من حق الجميع بمقدورهم الإفصاح عن إراداتهم وإعتراضاتهم، بشرط واحد، أن يجري ذلك بعقول مفتوحة مستعدة للمراجعة حين تكتشف أنها على خطأ  .

واليوم بمعاينة ساحات الإحتجاج المدني نجد أنها تتيح لحظة الضرورة التي على المثقف إستثمارها لإستعادة مكانته في الحياة الإجتماعية والسياسية العراقية  والمكانة لا تستحق إلا بوساطة أدائه لدوره الثقافي الجديد بالتأثير في الرأي العام و إنضاجه، وهي الفرصة الجديدة المتاحة.ولا ينسى بأن للمثقف دوره الأبرز في هذا المخاض لجعله ساحات الإحتجاج مصهراً يعاد فيه نسج اللحمة الوطنية التي مزقتها صراعات السياسة الرعناء اللاأخلاقية. والمكان الذي ينبغي أن تهزم فيه الولاءات المتعصبة في فترة ما قبل الدولتية من طائفية وعشائرية ومناطقية وما شابهها.

  

في المثقف اليوم