قضايا

صادق السامرائي: البواعث السلوكية!!

هل أن السلوك البشري ينبعث من آليات نفسية أم عقلية؟!

وأيهما الأبدأ؟!

يبدو للمتأمل الحصيف أن البواعث النفسية هي جوهر السلوك، وأن الإنبعاث العقلي بحاجة لباعث نفسي، فالعقول المنتجة بحاجة لنفوس متأججة!!

قد تُرى الأمور بعكس ذلك، لكن الواقع السلوكي الجمعي والذي نسمية بالحضاري يشير إلى أن النفوس الخاملة تحتضن عقولا عاطلة، والعكس صحيح.

فلو نظرنا لأمة العرب وكيف أنها إنطلقت في ميادين الحضارة والعطاء الفكري والثقافي، بعد أن كانت تتميز بالركود والتلاحي المرير والإنكماش الحضاري، لوجدنا أن السبب الحقيقي وراء إنطلاقها وتألقها هو البواعث النفسية النشطة المتخلقة المتنامية، التي ألهبتها الرسالة السماوية بقيادة محمد الرسول العربي، الذي ثار على واقع خامل وممجوج، وأحضر مفردات التأجج والإلتهاب النفسي المطلق، فتحفزت العقول وأبدعت وتفاعلت بآليات غير مسبوقة، وبروحيات ذات توهج وإشعاع ساطع.

وكانت السنوات الثلاثة عشر التي مضت في مكة عبارة عن حاضنة نفسية نضجت فيها القدرات وأينعت الطاقات الكامنة وتأكد حضورها وتعمقت خبرتها، وتوقدت جمراتها، فكانت بواعث الهجرة تبرق في الأعماق، وتشتد رعودها وأعاصير التعبير عن فحواها، فإنبثقت الإرادة القادرة المؤمنة الصادقة الصالحة، فغيرت الدنيا في ظرف عقدٍ واحدٍ من الزمان، هو الوقت الذي أمضاه النبي الكريم في المدينة، ذلك العقد الذي أصبحت فيه البواعث النفسية السامية براكين عزيمة وإصرار وإيمان وتوثب وإنتشار فائق في أرجاء الأرض، التي تتحكم فيها القوى المستبدة والإمبراطوريات الطاغية المتأسدة، والتي تداعت أمام فيض الأعماق الواعدة الفيضاء.

ومن المعروف أن للأجيج السلوكي سفوح تناولية أو تهابطية يصل إليها، فتخمد جمراته ويخبو لهيبه، ويعم البرود والركود، وهذا حال أمة العرب بعد أن تأجج ما فيها وتوقد، وبعد أن إنبعثت وبعثت، وأبدعت أصيلا خالدا، ووضعت الأسس الكفيلة بالرقاء المادي والأخلاقي والقيمي.

وعلى مدى بضعة قرون ولا تزال الأمة خامدة نفسيا، وبواعثها النفسية متجلدة، ولا تكاد تأج أو تتجمرلتحفز الرؤوس وتأخذها إلى مدارات التسابق والإنطلاق، فالعلة الحقيقية التي ترتهن بها الأمة ليست عقلية وإنما نفسية بحتة.

وقد أسهمت القوى المفترسة الساعية لإمتلاك طاقاتها وثرواتها، في تجميد النفس العربية وتحطيمها وتهشيمها وتكسير أضلاعها وعظامها، حتى تحولت إلى نفس خامدة مستلطفة رمادها، ومذعنة للآخر الذي يمعن فيها إفتراسا ونهشا.

وتجدنا في القرن الحادي والعشرين، أمام نفس عربية منهزمة، متهمة، معوقة، مرهونة بالإذعان والتبعية، وفقدان القدرة على الصيرورة المتفقة وحقيقة كينونتها، وجواهر ذاتها الحضارية والروحية والفكرية.

فاين العقل؟!!

العقل العربي لا يختلف عن عقل البشر، بل أنه يمتلك موروثات حضارية تؤهله للتفوق والإبداع الأصيل، لكن النفس العربية تتصف بالخمول المُتعلم والقنوط المًتجهم.

وكيف خمدت النفس العربية؟!

إنها دخلت في متواليات إنكسارية إنهزامية، أضفت على رؤاها آليات إكتئابية متوشحة بالظلامية والسواد، وغارقة بالإندخارية التي يتم تغذيتها وتعميقها للوصول إلى حالة الشل الأقصى، والوهن الأعظم، حتى صار العربي ينكر عروبته، ويتبرأ من ذاته وموضوعه، ويتجاهل رسالته ودوره الإنساني الرحيم.

وعلى مدى عقود متفاقمة بالتواصلات السلبية، سعت القدرات المضادة لتأمين وترسيخ مناهج الضعف والإضعاف، وتواصلت في ذروتها التحطيمية والإنتكاسية منذ النصف الثاني من القرن العشرين، ولا تزال تشتد ضراوة وقسوة وتوحشا.

وما يتحقق في منارات الأمة وميادينها الحضارية العلية كالعراق وسوريا ومصر وغيرها، إنما يؤكد هذا الديدن الإستكاني الإمتهاني للأجيال العربية، التي يُراد لها أن تنتقل من مرحلة الخمول والركود النفسي إلى حالة الإنقضاض على الذات وما يتصل بها، بآليات سلوكية إنتحارية، تزيد من ضراوة التخامل والتكاسل، وتوقد التحامل والإنتقام.

ذلك أن الأمة بعد إنحدارها لا بد لها من الصعود، وكأن القرن الحادي والعشرين هو زمنها الإنبعاثي الجديد، وفرصتها المواتية للتكون الإرتقائي القيادي المًرتقب، ولهذا إشتدت الهجمة وتوالت الضربات، لتحقيق عقر الأمة ونحرها وتوزيع ما فيها على المُهاجمين المصرين على إمتلاكها بالكامل، ومنعها من أن تكون من جديد .

قد يبدو الكلام غريبا لكنه واقع حي لا يراه الكثيرون، لأنهم تحت مطارق التخميل والتكسيل،  والإرتهان بمناهج وبرامج تكوين الآراء اللازمة للوصول إلى الهدف المرغوب، ولهذا تجد العديد من أبناء الأمة صاروا ضدها، بل وأشد قسوة عليها من أعدائها، بعد أن إنحرفت نفوسهم وتصادرت عقولهم، وأصبحوا صنو الدمى والروبوتات التي تتحرك وفقا لإرادات المصالح والتحالفات.

وتجد الأمة في ميدان تصارعي عنيف ما بين حالات منبعثة متأججة متماسكة بجوهرها الحضاري، وحالات خامدة، وأخرى منحرفة، وغيرها منهزمة وهاربة، وجميعها تتغذى بالطامعين الطامحين لتأسينها وتوحيلها ببعضها ليتحقق القضاء التام على وجودها، وليصفوَ الوقت لنهب ثرواتها.

ولهذا نجد أبناء الأمة منشغلين ببعضهم، ومتناسين لكل ما يرتبط بهم من عناصر القوة والإقتدار.

وعليه فأن ناعور التداعيات لن يتوقف، ما دام نهب الثروات ديدن الآخرين، ونسيان ما عند العرب ديدن العرب، وبهذه المناهج تمضي الأمة على سكة الإنحدار إلى الهاوية، وما أدراك ما هي!!

فهل من قدرة على تمزيق أردية الخمول، وتجديد إرادة الوصول؟!!

 

د. صادق السامرائي

  

في المثقف اليوم