قضايا

سلوك القتل والإقتتال!!

نعيش عالما مطلوق العنان، تتوارد فيه مناظر وصور ومشاهد مقرفة عن عمليات القتل والفتك بالبشر وبوحشية وإفتراسية مروعة، تشمئز منها موجودات الأرض والسماء.

فتأتيك إمبراطوريات التواصل الإجتماعي بما لا يمكن لعقل أن يتصوره أو لخيال أن يتدبره، وتقف أمام المشاهد مذهولا متحيرا تبحث عن تفسير لسلوك البشر القاسي تجاه البشر الآخر، الذي يضعه في أطر وتوصيفات ومسميات تسوغ إستباحته، والإنقضاض عليه بعدوانية وإنفعالية متأججة ذات قدرات بربرية سافرة ومخزية، تصنع عارا وشنارا في جبين الزمن المعاصر، وتلطخ وجه الحضارة بالقبائح والرذائل والآثام الجائرة المقيتة الفاجرة.

أعمال قتل تبررها الأضاليل ومكائن البهتان والعدوان، التي تنتج أفكارا مسمومة وطاقات محمومة، تحقنها في أوردة الجهلة المُبرمَجين المَغسولين الأدمغة، المعفرين النفوس، الميتين الضمائر والمسلوبين الأرواح.

بشر مجرد من البشرية والحياة ويداهم ما يمت بصلة إليهما، ويعيث فسادا في الأرض وما حملت على ظهرها من المخلوقات والعمران والشجر والبنيان.

فلماذا هذا السلوك السائد والتفاعل البشري الباهت مع ما يدور في دنيا صارت تحيل البشر المستهدف فيها إلى مجرد أرقام.

 

وقد يقول البشر ما يقول ويدّعي أن البعض يؤكد كذا وكذا، ويمكنه أن يأتي بنظريات وتصورات، وتعليلات وتبريرات، لكن الحقيقة أن القتل متواصل ومتزايد، والكوارث البشرية – البشرية تتصاعد، وكأن سفك الدماء غريزة إدمانية تستحوذ على البشر المرهون بالمجهول والمذعور من الغيب الذي يتحكم بسلوكه، ويرسم خارطة مواقفه ويحدد موضع خطواته.

وفيما يلي إقترابات من زوايا ملاحظاتية سريرية، ذات محاولات للوصول إلى جوهر السلوك الإقتتالي، وما يستفيد منه القاتل بجريمة قتله لبشر مثله.

 

القتل!!

أول عمل مُدان وفقا للكتب والروايات عبر العصور هوالقتل أو سفك الدماء.

وقصة قابيل وهابيل معروفة، وفي سوريا هناك قبر لهابيل الذي قتله أخوه، وتوجد شجرة قرب المكان، يُحكى أن قابيل قد إستظل بها، وهو يحمل جثمان أخيه حائرا بما سيفعله فيه، حتى أرشده الغراب إلى سلوك الدفن، الذي تواصلت البشرية على تكراره في معظم المجتمعات .

 

وللتعرف على آليات القتل لابد من البحث في " لماذا يقتل البشر البشر؟" و" لماذا يتكرر القتل"، وكل تكرار لفعل يعني الإدمان، " فهل أن القتل نوع من الإدمان؟" .

وهل أننا قد توارثنا جيينات تأكدت وتعاظمت في أعماق النويات، حتى أخذت تنتج الحوامض الأمينية والموصلات اللازمة لتحقيق سلوك القتل؟

لا ندري بوضوح لكننا نبقى نتساءل!!

ومن الملاحظ أن الدماغ القاتل يوفر الكثير من دواعي إرتكاب فعلته، حتى يصل إلى درجة التيقن بأنها العمل الذي يجب أن يكون.

فتراه يصرّح " أن الضحية هي السبب" !

 " الضحية أرادتني أن أقوم بذلك" !

و " عليكم أن تعاقبوا الضحية لأنها المجرم الحقيقي"!

" أنا بريئ"!

وكلما أوغلتَ في أعماق الدماغ القاتل، تبرز آلية الإسقاط المروّع والإنكار الفاعل، فالقاتل يتحدث بلغة "هو"، وبأن العالم كله على خطأ وهو المصيب لا غير، وكل ما يجري من حوله غير صحيح، وأنه هو الصحيح الذي يجب أن يُطاع ويُسمع.

وتكتشف عنده قدرة عالية للتبرير والمحاججة، واستحضار المفردات والعناصر اللازمة لإقناع الآخر، بأن الجريمة قد حصلت لأنها تريد أن تحصل، وليس لأنه يريدها أن تحصل، وما هو إلا أداة مسخرة لتحقيق إرادتها.

وعندما يكون الدماغ القاتل مريضا، فأن الآليات المتحكمة بالسلوك تأخذ منحى آخر، فتزداد تعقيدا وتركيبا، ويكون لإضطراب الشخصية دور مهم في القتل.

أما الأوهام والهلاوس وغيرها من الإضطرابات الحسية والذهنية، فأن لها لمسات تتناسب وقوتها وقدرتها على التحكم بآليات العمل الناجم عنها.

وكلما تعقد المجتمع وتطور تزداد الجريمة، لأن قدرات البشر النفسية والدماغية غير قادرة على المواكبة السريعة، ولازالت غير مؤهلة لإكتساب مهارات ذات قابلية بقائية عالية، مما يدفع إلى الخروج من نهر المجتمع إلى معاقل العزلة والحياة خلف الأبواب المغلقة، وتلقي العلاج الذي يحاول التأثير على سلوك العصيبات الدماغية وتفاعلاتها فيما بينها.

وفي هذا العصف والهيجان والإضطراب الذي لا يعرف الهدوء، تجد البشرية المعاصرة أنها أمام محنة لاتعرف لها منها مخرجا إلا بالمواجهة الإحترازية،  التي تكلف كثيرا من الطاقات النفسية والإقتصادية.

ويبقى علم النفس والطب النفسي في صراع متوثب وإصرار على كشف كنه الإجرام.

وتبقى التكنولوجيا المعاصرة في محاولاتها للوصول إلى إختبارات وقياسات منضبطة ربما ستعطي أجوبة لأسئلة متواترة لا تعرف الإنقطاع.

فما هي العلاقة بين القتل والدماغ؟!

 

القتل بالدين!!

أفظع الجرائم التي أرتكبت في تأريخ البشرية وعلى مرّ العصور تكون بدوافع دينية وإعتقادية، وقد حصدت العقائد والأديان من الأرواح البريئة ما لم تحصده الأوبئة والكوارث الطبيعية، وتبقى الأديان هي المسوغ الأقوى والأعتى للقيام بالقتل والتفنن به، لأن سلوك  القتل وفقا للعقائد والأديان يكون تحصيل حاصل، وفريضة تقرب إلى الرب أيا كان ذلك الرب.

والمطلع على تأريخ السلوك البشري يرى بوضوح أن الأحداث الكبرى التي سفكت دماء الملايين، كانت محكومة بإرادة دينية ذات منطلقات إنفعالية وعواطف متأججة هوجاء، فهولاكو وجنكيز خان قتلوا ما يقرب من ربع سكان الأرض آنذاك، وفقا لمنطلقات إعتقادية ودينية تسوغ بشاعة الجريمة ووجوب القتل.

والحروب التي حصلت في معظمها تستند على رؤى وتصورات إعتقادية أو دينية، فقد يكون المعتقد دنيويا أو دينيا، فالأحزاب بعقائدها المتنوعة قد قتلت الملايين من الناس، وفقا لمناهج عقائدها التي تبيح الفتك بالآخر ومحق وجوده.

ومن الملاحظة السريرية يكون فعل القتل واقعا حالما يتخذ منطلقا إعتقاديا، فقتل النفس يكون حتميا عندما يربط المنتحر ما سيقدم عليه بمفردات ومعتقدات دينية، أي أنه يحوّل قتله لنفسه إلى حالة مطلوبة وأمر من الرب، أو أن الرب أراده أن يكون معه في عوالم الغيب، فيكون قتل النفس ضرورة قصوى، وحالما أكتشف أن صاحب الفكرة الإنتحارية قد أقرنها بمسوغات ومعاني دينية، أدرك أن الواقعة ستقع حتما.

وقتل الآخر لابد له من مسوغات وتبريرات تجعل القاتل يقدم على جريمته بقوة وإنفعال صارخ، وإندفاع نحو التعذيب والتمثيل بالمقتول.

أي أن الطاقة الإنفعالية السلبية لا بد لها من مؤججات ومسوغات، ومَن يصب الزيت على النيران، لكي تبلغ ذروتها وتقوم بفعلتها الشنيعة.

وتلعب الإتجاهات الدينية المتطرفة دورا كبيرا في تسويغ القتل المروع للآخر، دون سبب إلا لأنه من مذهب آخر أو منطقة ما أو غير ذلك، من الإختلافات التي يتم التأكيد عليها وتضخيمها وتحويل أصحابها إلى مخلوقات لا تستحق الحياة.

فلكي تقتل عليك أن تُخرج البشر المُستهدف من البشرية وعدم الحق في الحياة، وأن موته من ضرورات الحياة ومتطلباتها التي تزيدك إيمانا بما تعتقده وتدين به.

ويلعب أصحاب اللحى والعمائم وغيرهم من المتأدينين الدور الأكبر في القتل الفظيع للبشر، فهم الذين يمنحون أتباعهم المُبَرمجين المُجَهّلين المُلقنين بمفردات السوء ما يؤهلهم للقيام بأبشع الجرائم، وهم يهللون لسلوكهم ويأتون لهم بالفتاوى والمسوغات اللازمة للإستمرار بالقتل والإجرام، حتى لتتحول آثامهم إلى طقوس تعبدية ذات درجات متقدمة، للتعبير عن الإنتماء للمذهب أو التبعية المطلقة لهذه اللحية أو تلك العمامة.  

والذي يتصور أن ذوي الأتباع والكلمة في أمور الدين ليس لهم يد بما يتحقق من جرائم ضد الإنسانية والدين، إنما هو على وهم كبير، فهم المُحرّضون على هذه الحماقات السلوكية، وهم من ألد أعداء الإنسانية والدين، لأنهم يبررون الفواحش والمنكرات بالدين، ويقتلون المسلم بالمسلم ويمنطقون ذلك بدين، ويعطون صورة قبيحة عن الإسلام، ويتفاخرون بما ينجزه أتباعهم الجهلة المُستعبدون المُسَخّرون لتنفيذ رغائب نفوسهم الأمّارة بأسوأ من السوء.

ولن ينفع مع هؤلاء لو جئتهم بألف آية قرآنية وآية تدحض ما يقومون به، لأن عقولهم حمقاء، ونفوسهم سوداء، وعواطفهم حنقاء، وكل ما يقومون به هو الفحشاء والمنكر، ويحسبون ذلك من مراسيم التعبد والتقرب الأكبر إلى ربهم الذي صنعوه وقوّلوه على هواهم، وتلك مصيبة أمة ودين!!

فصور وأفلام القتل البشع للمسلم من قبل المسلم تنتشر في وسائل التواصل الإجتماعي، وما قال معمم برفضه وإدانته، والنهي عنه،  وإنما تنتشر التبريرات التي تسوغه، على أنه فعل لقلة أو سلوك لبعض، وهذا لا يمثل هذا ولا ذاك، ويتناسون أنه يقدم صورة قبيحة مقرفة عن علاقة المسلم بالمسلم، فلماذا هذه الروح الإنتقامية المروعة التي تبدو على مجاميع من البشر ضد فرد من البشر قبضوا عليه، وراحوا يعذبونه ويمثلون به حتى الموت؟

وما هو الدافع الأقوى لهذا السلوك الجماعي الإفتراسي ضد الشخص أيا كان؟!

إنه الإفتاء الديني البغضاوي والتأجيج الإنفعالي الإنتقامي الذي تُحشى به النفوس منذ الصِغر، ولهذا فأن الدين المدّعى وفقا للهوى سيمحق الأمة والدين!!

وفي الختام يبدو القتل وكأنه العنوان الأكبر لتأكيد البشرية والإعتراف بأن السلوك البربري هو الحقيقة المطمورة في البشر، ومهما حاول أن يهذب الطبع الفتاك الذي فيه، فأنه يؤجل إنبثاقه إلى حينٍ تتوفر فيه المبررات الكفيلة بالإطلاق.

وما يدور في هستيريا القتل الفظيع والجماعي في دنيا البشر، هو تنامي قدرات التغرير والتأجيج الإنفعالي، وسيادة الفقر والحرمان والجهل والعدوان، والتسويغ العقائدي والديني، والتحفيز على أفضلية الحياة الأخرى من العناء الدنيوي الذي يكون فيه، وبهذه الطروحات العاطفية تنمحق القيمة البشرية والفكرة الإنسانية، وينتفي الضمير والوازع الرحيم، وتكشر أنيابها عرابيد الشرور وأباليس السوء والفحشاء والبغضاء وسفك الدماء، فيتشرر الشر حتى ليبدو خيرا!!

فما وجدت آثما يرى أن ما قام به شرا، وإنما سلوكا قويما رحيما!!

فهل أن البشر فقدَ باءَه؟!!

 

د. صادق السامرائي

 

 

في المثقف اليوم