قضايا

التوالد والتخامد والعقل الواعد!!

العقول الحضارية تتوالد، والعقول الخرابية تتخامد، والعقول الواعدة تتعامد وتتعاضد. في هذه الفكرة تعبير عن أزمة العقل العربي الذي تسبب في صناعة التداعيات الفاعلة في الحاضر والمؤثرة في المستقبل، وهي التي أسهمت بتأسيس الآليات التخامدية السلبية الناقمة على العقل والحياة، لأنها تريد أن تغيب لكي تكون!!

فالحياة إثم في منطوقها الخيباوي المؤطر بتأويلات منحرفة وتصورات سقيمة، وتطلعات مريضة، وأوهام عقيمة، متراكمة في أقبية الأجداث ورفوف الغابرات العفنة النكراء.

فالواقع العربي لا تتحرك فيه عقول متوالدة أو متفاعلة بإيجابية ذات عطاءات إقتدارية بنّاءة ومكوّنة لمنهج صيروراتي جدير بالتفاخر والإعتزاز، فالذي يسود سلوكيات إعتقالية تسمى عقلية أو فكرية تهدف إلى التطلع الأناني، والترسيخ الذاتي والإلغائي للعقل الآخر، أو الرأي والتصور الذي عليه أن يتفاعل ويتواصل، لكنه يتصادم ويتفاني في تصارعات خسرانية مروعة.

فالعقول العربية المفكرة ممعنة بالأنانية والتخندق الذاتوي المتمترس في ما فيها من الرؤى والتصورات، وتأبى أن يتزحزح أو تمد يد التفاعل والتبادل العقلي والفكري الذي يساهم في التنمية والتطور والنماء.

فتجد المفكر العربي في عزلة عن المفكرين الآخرين، وفي تقاطع وربما عداء مع الشعب، مما تسبب بعدم تأثير الفكر في الحياة العامة، وعلة ذلك أن المفكر العربي يتوهم بأن المجتمع جاهل أو دون إدراك ما يريده ويراه، ولهذا فلا منفعة من التواصل مع الناس، وإنما الإمعان في التصومع والتصوف الفكري هو الديدن السائد في الحياة الفكرية العربية.

فالمجتمع العربي فيه العديد من المفكرين المنعزلين عن بعضهم البعض وعن مجتمعهم، ويجدّون ويجتهدون ويكتبون ويؤلفون، لكن ما ينتجونه يكون رهين الرفوف، وبعيدا عن الساحة العملية للحياة والواقع اليومي للإنسان.

أي أن المفكر العربي منقطع عن مياه الحياة، وينظر إلى الأمور من بعيد، أو يبدو وكأنه يقف على التل، ويتصور وينهزم ولا يطرح ما يراه بآليات ذات قيمة تأثيرية تغييرية وقدرة على التطور والإنطلاق إلى الأمام.

ويبدو كأنه يتمتع بنرجسية وغرور وكبرياء، وربما يرى نفسه فوق الآخرين ولا ينتمي إليهم، لكنه مجرد يقرأ ويستنتج وفقا لما درسه وتعلمه من النظريات ومناهج التفكير والتحليل، ويصل إلى ما لا يتفق مع أبجديات الواقع المهزوم والمأزوم.

كما أنه لا يزال معتقلا في الماضوية، ولا تجد مفكرا لم يغرق في الماضي ويحاول أن يفسر به ما يدور في الزمن المعاصر، في واقع حصلت فيه إنقطاعات وتجهيلات وتحريفات للماضي وحتى الحاضر المرير، وهذا يدفع إلى الإتيان بطروحات ذات تأثيرات سلبية وضبابية وينقصها الرصيد الواقعي الكبير، فهي إنسكابات تائهة وحائرة في رمضاء جدباء متعطشة لقطرة ماء، فيُسكب عليها السراب ولا تزال تلهث محرومة من طعم الماء.

هذه العقول المفكرة، يبذل أصحابها طاقات وجهود متواصلة للإطاحة ببعضها البعض، والنيل من غيرها ظنا منها بأنها ستكون، وكل منها يقف موقف الذي تنتهي عنده العلم والمعارف والثقافات، فهو الذي يدري وغيره لا يدري.

بينما العقول الغربية تتفاعل بأساليب أخرى، وتنطلق من بعضها نحو آفاق أرحب، فالغاية ليس المفكر ذاته وإنما الفكرة، وهذا المفهوم يغيب عن سلوك المفكر العربي، أي إدراك المسافة ما بين المفكر والفكرة، وأن التوجه عليه أن يكون نحو الفكرة وليس المفكر، وأن يكون الإنطلاق من الفكرة، وليس من الهجوم على المفكر ومحقه وتدميره ووأد فكرته، دون أدلة موضوعية وبراهين واضحة تنمي التفكير وتنقل العقل إلى مدارات متسعة العطاء والإبداع.

ومن الصعب أن تجد تفاعلات وَلاّدة ما بين المفكرين العرب، وإنما يسود الإحتراب والتصارع القداح الهادف إلى النيل من المفكر ذاته، وعدم النظر لفكرته وما يراه وآليات البناء على ما يراه أو الإنطلاق منه إلى أفق تفكيري جدير بالنماء.

هذه الأساليب التخامدية المتحكمة بعلاقات المفكرين العرب ببعضهم وبمجتمعاتهم، تسببت بصياغة الواقع الأليم الذي نعيشه ونتمحن بتداعياته، ونتورط بمعتقداته ومنطلقاته الظلامية المدمرة لمفردات الحياة الذاتية والموضوعية.

وعليه فأن الواقع العربي بحاجة ملحة إلى ثورة فكرية ونهضة عقلية وسلوكية معاصرة، لها القدرة على تحشيد العقول وتهذيب النفوس وتطوير السلوك والإرتقاء به إلى فظاءات الإنسانية السامية، والتعامل مع الأفكار بحرية إدراكية وطاقات شبابية حرة واعدة متطلعة نحو الأفضل والأقدر والأجمل.

ولابد للمفكر العربي أن يعيد النظر بذاته وموضوعه وكيفيات تفاعله مع الواقع الذي يفكر فيه وبه، ومن غير ذلك سسيبقى ناعور الخراب يدور، ولا يسكب إلا الدموع والدماء في سواقي الويلات العربية الآسنة!!

وأنه لعيب فاضح أن تتمحن أمة بجواهر ما فيها، ويعجز مفكروها عن إستنهاضها والإرتقاء بها إلى حيث يجب أن تكون وتتحقق!!

فهل حان وقت الصدق مع النفس والإيمان بسلطة العقل والإدراك والبحث والإمعان؟!!

عاشت نكون فهي الغاية والعنوان!!

 

د. صادق السامرائي

 

 

 

في المثقف اليوم