قضايا

العلاج الفكري الغائب والوجود العربي الخائب!!

الواقع العربي يعج بالأمراض الفكرية المتنوعة السارية والمعدية الوبائية الطباع والسلوك، وتغيب عنه القدرات الوقائية والعلاجية الكفيلة بمعافاة النفس والعقل والروح.

وهذا الواقع الرازخ تحت صولات الجراثيم الفكرية القادمة إليه كالعواصف والزوابع والأعاصير من كل حدب وصوب، تجده مُبتلى بسلوكيات ذات طبائع المتواليات الهندسية الفتاكة المتفاقمة الجرارة التي تنسف جوهر كينونته وأسس هويته، وتلقي به في غياهب الإنمحاق والإنقراض الأبيد.

والعلة الفادحة المخاطر، أن الأمة فيها مفكرون لكنهم يجسدون ويعبرون عن الأمراض الفكرية ويصفونها ويعرّفونها، لكنهم يقفون بلا قدرة معاصرة على المواجهة العملية، وبعجز مطلق عن إيجاد الحلول والمعالجات الكفيلة بصناعة الحياة الصالحة الطيبة.

المفكرون العرب يصفون علل الأمة وهمُ العلل الفاعلة فيها، ذلك أنهم ينحسرون في أنفاق تحليلية ماضوية ويفسرون ويؤولون وحسب، وما قدموا مشروعا علاجيا يشفي أمراض الفكر العربي ويحرر الأمة من جراثيم الأفكار السيئة ومفردات السلوك السقيم.

ذلك واقع مرير وحقيقة مأساوية نغفلها وننكرها ونُسقطها على الآخرين، ولا نرى بوضوح الأسباب التي أوجدتها وأسهمت في ديموتها وإزمانها وتعقيدها.

فالوجود البشري لا يمكنه أن يكون متوافقا مع إرادة الحياة من غير المفكرين المتمكنين من الوصف والتشخيض والعلاج، وهذا المنهج يسري في جميع الأمم والشعوب وعبر العصور، فلا توجد أمة نبغت وتألقت من غير العقول المفكرة التي ترتكز في إقتراباتها ومناهجها على هذه الأسس الثلاثة، والأمة تكونت عندما إمتلكت مفكرين بهذه القدرات والقابليات الحضارية، وتدهورت بغيابهم وإنغلاقهم وتصاغرهم.

فالمفكر العربي تجده يتوقف عند حالة الوصف والتشريح الدقيق لعلل الأمة، لكنه يعجز تماما عن التشخيص ولا يمكنه أن يأتي بعلاج أو دواء صالح للحياة، وإنما تكون مساهماته سلبية، بمعنى أنه يعزز ويسوّغ ويبرر المرض ويتنبأ بإزمانه وتعقده، ولا يستطيع الإتيان بآلية تفكير أخرى تؤدي إلى ردعه ومحاصرته ومعالجته.

ولهذا فأن الأمراض الفكرية تدور بعنفوان في أرجاء الأمة، وصار المرض الفكري الديني على رأسها، لأن العقول تعطلت ومُنعت وخافت من الحقيقة والسؤال والشك والبحث عن الصدق فيما تقوله وتراه، فصارت ذات طبائع إنهزامية إندحارية إنزوائية مدمرة للحاضر والمستقبل، وتراكمت هذه الإقترابات السلبية التي برمجت العقل وفقا لآلياتها الإنكسارية، فأمعن الوجود العربي بالدونية والتبعية والإنحطاطية المقرفة التي شملت الأخلاق والسلوك والمعتقد والرؤى والتصورات، فإنتفت الأخلاق الحميدة وساد القاسد والقبيح وتألق الإثم والعدوان وعمّ الخراب الديار والأوطان.

ويبدو جليا أن الأمة تعيش محنة فكرية خانقة وتتشوق لأطواق نجاة فكرية تخلصها من مخاطر الغرق في يمّ الضلال والبهتان المهين، خصوصا وقد تكاثر أئمة الدجل والمتاجرة بالدين وإعتبار البشر بضائع بخسة وأرقام على يسار الكراسي والعمائم واللحى وغيرها من أقنعة التدمير للإنسان.

وبرغم إمتلاك المضللين والمتاجرين بالبشر وسائل بث السموم الفكرية وتعزيز الإنحرافات السلوكية وتبرير المآثم بما يحلوا لهم من المجتزءات والتأويلات التدميرية والتي تدر عليهم أرباحا هائلة، فأن المفكر العربي المعاصر مطالب بوعي حقيقة المشكلة وضرورة المواجهة والطرح التنويري التحفيزي اليقظوي القادر على إستنهاض الأمة من رقدة الإنحلال والتمزق والإبادة الحضارية الجارية في ربوعها.

إذ تقع على عاتق المفكر العربي اليوم مسؤولية جسيمة تستدعي إستحضار الإرادة العربية القويمة السليمة الأبية المتحدية، المؤمنة بأن الغد سيكون أفضل بالجد والإجتهاد والإبداع الصائب للمعالجات والحلول الكفيلة بإستخراج جوهر الأمة وتأكيده في نهارات الكينونة العربية الكبرى.

إن إفتقار الأمة للمفكرين المعالجين والمتفاعلين مع همومها وتحدياتها، لهو الطاعون الأكبر الذي أصابها، وعليها أن تشفى منه وتستحضر ما فيها من طاقات الإقتدار والتخلق الحضاري المنير.

فالأمة فيها من كنوز الفكر والثقافة ما لا يوجد عند أمم أخرى غيرها، وما كُتِب باللغة العربية من كتب في الزمن العربي المشرق يفوق ما كتبته جميع الأمم عبر العصور، وبرغم ما تعرضت له خزائنها المعرفية والفكرية من إتلاف وتدمير وإحراق وإغراق، لكنها لا تزال ثرية بالمخطوطات والكتب المحفوظة في مكتباتها وحزائن الدنيا المتقدمة عليها، والتي إستقت منطلقات صيرورتها من فكرها ورؤاها المشرقة.

ومن هنا فأن الدعوة لإقتراب فكري متكامل هو الخطوة القدّاحة المشافية الكفيلة بإنقاذ الأمة من محنتها الفكرية،  التي تغطس فيها وتئن من أوجاعها وجراحها ووعيدها الخيّاب.

والعلاج الفكري هو العلاج الأنجع لأمراض الأمة وويلاتها وتداعياتها المتراكمة، ومشاكلها المتوالدة من رحم الجهل المقيت الذي تندفن فيه الأجيال، وكأنها لم تسمع "إقرأ"، ولم تُصدع بإرادتها وأنوارها الإدراكية واليقينية المجلجلة في أرجاء الأعماق البشرية.

وهذا العلاج لا يكتفي بالوصف وحسب وإنما عليه أن يبتكر آليات تشحيصية وأدوات علاجية، وأساليب متابعة ووقاية تمنع الإصابة بفيروسات الطاعون الفكري الذي يصيب المجتمع العربي بين آونة وأخرى ويتسبب بإنهيارات قيمية وعقائدية مفجعة.

ومن هنا فالدعوة إلى شحذ الهمم الفكرية والقدرات العقلية للوصول إلى العلاج الشافي يتطلب إصرارا وتواصلا، لكي تنطلق مواكب التنوير والتأهيل الفكري القادرة على إنتشال الأمة من أوحال الوجيع وأغادير النجيع الغارقة فيها، وهي تنادي أبناءها أن يهبّوا لإنقاذها وإحيائها من جديد.

ومن الواضح أن العقل النفسي العربي يجب أن يكون له الدور الريادي والقيادي في هذا الشأن، فالأمة كالمريض النفسي الذي بحاجة إلى إقترابات متنوعة متفاعلة وذات هدف مشترك تتكاتف جميع الجهود لتحقيقه، وهذا الهدف هو شفاء الأمة من الأمراض الفكرية العاصفة في كيانها والمخربة لأبدانها الوطنية والروحية والأخلاقية، والتي حوّلتها إلى خراب ومشاريع نكوص وإضطراب.

فهل سيتمكن العقل النفسي العربي من الريادة والقيادة والتفاعل الإيجابي مع العقول الأصيلة، لكي تستعيد الأمة قامتها المستقيمة المديدة المتوجة بالإشراق الحضاري المطلق؟!!

تساؤل أضعه أمام المفكرين والمثقفين والنفسانيين العرب في كل مكان، فهل من جواب؟!!

 

د. صادق السامرائي

 

 

في المثقف اليوم