قضايا

الفلسفة والشعر

مرت بي معلومة على الفيسبوك تحتاج وقفة وتعقيبا، المعلومة تذهب الى جمع الفلسفة والشعرمعا، كما تجتمع الانثى بالذكر على سرير المتعة والانجاب.في اعتبارهذا الربط الافتعالي الخاطئ بين الفلسفة والشعر يجري كسريان المسلمة الصحيحة الجاهزة بدليل ان شعر الزهاوي يصلح نموذجا لهذا الترابط (هكذا باصل المعلومة). وبامكاني اضافة خطأ اخر اكبر من عندي فاقول شاعرية المتنبي تدخل في هذا المنحى، منحى ربط الشعر بالفلسفة، فالمتنبي يطلق عليه شاعر فيلسوف وهو عين الخطأ في التعبير والمعنى المضموني في تكريس الخطأ المتداول والالتباس الشائع. ليس هذا خطأ من اجتهادي، وانما هو خطأ بالمعيار الفلسفي المتواضع عليه والدارج في تعريف الفلسفة ومجالات اشتغالها، وهو المعيار الفلسفي الذي لا ينطبق لا على المتنبي فيلسوفا، ولا على الزهاوي فيلسوفا، ولا على اي شاعر اخر عرفته عهود البشرية ان يكون الشاعر فيلسوفا بالشعر
يوجد فرق كبير ان تقول شاعر فيلسوف وتقصد به شاعر حكم واقوال مأثورة، وبين شاعر فيلسوف فلسفته ليس في مجال نظم الشعر وانما بالدخول في معترك الفلسفة، ومعالجة مواضيعها وتناول قضاياها . وخير تدليل على ذلك ان يكون ادونيس شاعرا فيلسوفا لا بالشعر، وانما باعماله السردية الفلسفية وكتاباته الفكرية القيمة بما يلغي حاجته ان يكون شاعرا مبرزا مجددا، فهو اثبت تفلسفه سرديا وليس تفلسفه شعريا باعماله ودواوينه الشعرية . بينما يبقى المتنبي شاعر حكم واقوال مأثورة في نظم الشعر فقط . ولم يدخل المتنبي مجال الفلسفة اطلاقا في المفهوم الفلسفي والمعرفي لا في الفهم القديم للفلسفة، ولا في المعيار الحديث في تناول قضاياها .
الفلسفة ببسيط العبارة نسق مفاهيمي لغوي معرفي يتوسل المنطق الجاف الصارم الذي يستحضر رقابة العقل باستمرار في السيطرة التامة على تنظيم الافكار والمعارف والمفاهيم بصرامة شديدة . الفلسفة تماسك لغوي تراتيبي يبدأ بالجزئيات ليصل العام، او ينطلق من العام في الوصول الى جزئيات . هذا التماسك اللغوي المعرفي يتوخى الوصول بالمتلقي الى (قناعة) وهذا ما لا يتوفر للشعر ابدا، من حيث الشعر ليس تكريس قناعات فكرية، وانما هو تكريس وجدانات عاطفية، الفلسفة تكرس مفاهيم ومعارف، الشعر لا ينشد ذلك ولا من اهتماماته . الفلسفة علم من العلوم تبدأ ببسط القضايا والمواضيع والفرضيات وتتدرج باثباتها بالحجة القاطعة والبرهان العقلي .وهذا ما لا يتوفر عليه الشعر ايضا . والتدليل على ان الفلسفة علما من العلوم، والشعر فنا من الفنون وكلاهما بنية مستقلة بذاتها، وانه من الخطأ الجمع بين الاثنين بدراسة معيارية نقدية او تحليلية لغوية معرفية واحدة . هو ان علم الرياضيات مرتكز اساس ثابت في التناول الفلسفي لدى عشرات الفلاسفة المحدثين في وقت نعلم فيه ان الرياضيات بعيدة عن مجال التناول الشعري ولو جزئيا فقط ،  بعد السماء عن الارض .
اذن الفلسفة علم معرفي كباقي العلوم الانسانية وليس ابداعا ادبيا او فنيا تخييللا يلغي رقابة المنطق والعقل في تغليبه نسج الخيال وهو ما يقوم عليه الشعر . بعض قضايا الادب والفنون عولجت فلسفيا منذ سقراط وافلاطون وارسطو والى يومنا هذا كما عند هيجل وسارتر ودريدا وفوكو وبارت وعشرات غيرهم، عولجت كقضايا تهم الفلسفة ولم تعالج على انها اداب وفنون في الفلسفة . او انها فعاليات فكرية فلسفية او مواضيع ومعالجات تتداخل فيها الفلسفة مع الاداب والفنون بالغاء الفوارق او بعضها بين الاثنين بنية الفلسفة وبنية الفنون، فهذا متعذر مستحيل .
الفلسفة لغويا جنس من العلوم الانسانية قائم بذاته كبنية معرفية لها مجالات اشتغالها ومحددات مواضيعها، والفلسفة مناهج ونظريات تكرس جهدها لتفسير الحياة والانسان والوجود والموت والحرية والتاريخ والكون الى اخره وكذلك مواضيع الميتافيزيقيا سابقا . ولا بأس من التذكير ثانية ان ميزات الفلسفة انها منطق صارم في اللغة، ومنطق صارم في حضور رقابة العقل على التفكير، ومنطق صارم في البرهنة على صحة منطلقاتها وفرضياتها تقود الوصول الى قناعات تهم الوجود الفردي للانسان، والوجود الانساني كنوع .
بينما نجد الشعر كضرب من الفنون القولية يغيّب فاعلية وحضور العقل في وصايته على اللغة بخلاف الفلسفة في منحيين : الاول منحى انعدام تماسك وانسجام الترابط التناغمي المنظم بلاغيا ومنطقيا في اللغة، فالشعر يعمد الخروج على النظام اللغوي  الذي ادرجناه قبل قليل، فهو يعمد الى تفكيك النسق اللغوي وانسجامه المنظم الى حد يصل الغاء السياق اللغوي المتعارف عليه في لغة التواصل والتدريس والمؤلفات في مختلف العلوم الانسانية وغيرها من مجالات . والمنحى الثاني ان الشعر هدفه اولا واخيرا تفعيل العواطف والوجدانات على حساب تغييب رقابة وحضور العقل في الوصاية على اللغة .
واختم بالقول في هذه المداخلة السريعة تعريفي للحداثة الشعرية في تقاطعها مع الفلسفة كعلم اني وضعت تعريفا للشعر ما بعد الحداثي ما نصه: الشعر الحداثي وما بعد الحداثة هو تهويم لغوي بلاغي، غير مبرمج، أو منمط بنائيا وشكليا، وهذه الفوضى الخلاقة مجازيا تسعى من خلال طغيان توظيف الخيال والتخييل الذي هو ضرورة قصوى في / من مقومات الشعر الحقيقي، إلى الغاء حضور منظومة الأفكار العقلية الدارجة في منحيين، كلاهما ليسا في صالح بناء الشعرية، لكنهما مفروضان حداثيا، المنحى الاول هو ان الشعر ما بعد الحداثي ألغى دلالة اللغة المحلية اليومية الواقعية الاجتماعية من حياتنا، والمنحى الثاني ان طغيان المخيال غير المنضبط بنوع من العقلانية يلغي منظومة الأفكار العقلية كلغة استعمال توظيفي تواصلي خاص بالفعل الابداعي، يحتاجه الشعر، فاضحى الشعر الان هو تداعيات اللاشعور في وصاية ضبابية كابية للعقل في تنظيم عقلانية النص، كي لا يدخل الفوضى من اوسع ابوابها، في غياب التنظيم العقلاني للنص.
 
علي محمد اليوسف - الموصل

في المثقف اليوم