قضايا

الشعر والفكر والدين وأمةُ الأنين!!

البداوة بجوهرها أصل الحضارة ومنبعها، ذلك أنها أوجدت الشعر  الذي تحول إلى نظام حياة يحكم السلوك البشري على مدى عصور، ومن فضاءات الشعر إنطلق الفكر ومن ثم هيمن الدين على السلوك البشري.

تحقق ذلك بوضوح في البداوة اليونانية التي أوجدت الشعراء  الكبار وأبدعت الإلياذة والأوديسة، هذه الروائع التي أثرت في الحياة اليونانية لعدة قرون قبل الميلاد، فكان الشعر دستور الحياة وقانونها.

ومن بودقة وعيونه إنطلق نهر الفكر والفلسفة الدفاق الذي فاض وأغرق الدنيا ولا يزال مؤثرا في الحياة الإنسانية، ومنهإستقت المجتمعات الغربية إرادة الصيرورات العقلية المتنوعة.

ولا زلنا ندرس سقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس وأقليدس وزينون وغيرهم من الفلاسفة والمدارس الفكرية اليونانية.

وبعد هذا الإشراق الفكري، ومن رحم صراعات مريرة وطويلة، إنطلق الدين وتسيّد على الحياة، وبعد قرون وقرون نهضت الفلسفة وأكدت دورها ووجودها، وإنبثق عنها ما إنبثق من الأفكار والعلوم في العالم الغربي وجزءً من العالم الشرقي.

والبداوة حياة إنطلقت منها شعوب الدنيا كافة، والعرب كانوا يعيشون البداوة كغيرهم من شعوب الأرض، وأوجدت حياتهم تلك عالما شعريا متميزا بلغ ذروته في شعراء المعلقات، وكان الشعر عند العرب كما عند غيرهم هو الدستور والقانون والمُنظم الأساسي لمسيرة الحياة، والمؤكد للقيم والأخلاق والمفاخر والأمجاد، ولهذا كانت القبائل تحتفي بنبوغ شاعرٍ فيها.

والشعر العربي أوجد نظاما عقليا وآليات تفكيرية راسخة، بل أن الشعر قد إختزن خبرة كبيرة من الأفكار والرؤى الفلسفية، لكن العرب لم ينتجوا الفلاسفة والمفكرين،  ومضت فيهم غلبة الشعر وهيمنته وإختصاره لهذين الميدانين، حتى جاءهم الدين وساد حياتهم، قبل أن تورق في ربوعهم براعم الفكر والفلسفة والحكمة والصراعات الفكرية، وربما يكون ذلك لتبديد وقتهم بالصراعات القبلية الدامية وحروبها الإستحواذية المدمرة للطاقات والقدرات الأخرى، والتي كانت تستعين بالشعر لتنمية الحماس وتأليب المشاعر والنفوس والعزائم على القتال.

ومع الدين إستمر الشعر بدوره وتأثيره ومقامه الدستوري والقانوني المتحكم بالسلوك والقيم والأخلاق، وصار الشعر منار السلوك ودليل العمل الصالح والطالح، فالشعر العمودي العربي يحتوي منظومة فكرية وأخلاقية وفلسفية وإعتقادية لا مثيل لها في شعر الأمم الأخرى.

ففي الشعر العربي ما لا يمكن حصره من الأفكار والتصورات والشواهد، وبسبب ذلك يكون الشعر ديوان العرب ودستورهم وقانون حياتهم، والفرق ما بين البداوة العربية واليونانية، أن الأخيرة مضت في تسلسل متوالد من الشعر إلى الفلسفة ومن ثم الدين، ومن بعد ذلك الفلسفة، وبداوة العرب، إنطلقت مع الشعر إلى الدين الذي ترافق مع الشعر وأوجد الفلسفة وفقا لمنطلقات يتفكرون ويتعقلون، ومن ثم الشعر وبعد ذلك الدين، والفلسفة لم تعش طويلا أو يكون لها المقام الفعال في الحياة لفترة طويلة كما حصل في الواقع اليوناني، لأن الدين كان يحاصرها ويحاربها في أحيان كثيرة، ومن المعروف أن الفلاسفة قد عانوا الشدائد في جميع الشعوب، وكيف بحالهم عندما يجتمع عليهم البشر والدين معا.

ومن فلاسفة العرب يعقوب بن إسحاق الكندي، وأبو بكر الرازي، وأبو نصر الفارابي، وبعد ذلك أبو حامد الغزالي والمعري وغيرهم، ويشتركون جميعا - إن صح التعبير- في الجد والإجتهاد للتوفيق ما بين الفلسفة والدين، وتسبب لهم ذلك بمعاناة شديدة وقاسية، ذلك أن المناهج الفلسفية لا تستكين للإيمان المُسبق وتسعى للوصول إلى الحقيقة.

أي أن العرب أوجدوا الفلاسفة من رحم الدين وليس من رحم الشعر، وفلاسفة العرب تألقوا خصوصا في العصر العباسي، منذ أن ترجم المأمون تراث اليونان ووضعه في بيت الحكمة ببغداد، فإنطلقت المدارس الفلسفية وعانى الفلاسفة ما عانوه من المظالم لدخول الدين في عروق الحياة، وإتخاذ الفلسفة إتجاهات دينية تسببت في محن كبيرة، أطاحت بالعديد من العقول العربية المفكرة، وأوجدت فرقا ومدارس ومذاهب وإتجاهات لا تحصى ولا تُعد،، بسبب التفاعل ما بين الفلسفة والدين، ولأن التفكير الفلسفي تم حصره في المسائل الدينية، فالفلسفة العربية لم تحظَ بحرية التفكير والإنطلاق، لولادتها في بيئة محكومة بالدين، وما تداخلت مع المجتمع ولا عرفها العرب كقيمة إدراكية، ومنهج إجتماعي تفاعلي بأخلاقياته السامية ومعطياته الرؤيوية والتصورية، لأن الدين قد أوجد الأجوبة ووضع الأطر والمناهج الكفيلة بالإتباع الذي يحرّم المساءلة ويمنع الرأي، وكأن إرادة التفكير والقراءة والتعقل ليست من صلب الرسالة وجوهرها المعرفي والسلوكي.

لكن الشعر بقي مرافقا للدين، وبرز شعراء كبار في جميع العصور الإسلامية، وكان لهم دورهم الكبير في تشكيل الوعي العربي، بل أن العديد من الحكام كانوا يجيدون الشعر، وكان لكل خليفة أو سلطان شاعر ينطق بإسمه ويسجل مفاخره وإنجازاته بقصائده.

وشعراء السلاطين معروفين على مدى التأريخ العربي وحتى اليوم، وهذا يعني أن بنية العقل العربي متأثرة إلى حدٍ ما بالشعر العربي، وخصوصا العمودي الذي يجري في وعي الأمة وينظم آليات تفكيرها.

وبسقوط الشعر العمودي إضطرب العقل العربي وفقد أهم الآلات القادرة على تنظيمه والتحكم بالسلوك والنظر، وفقا لتفاعلات ذات توافقات سببية ومنطقية، وبدى وكأنه عقل شيزوفريني مضطرب الأفكار والتعبير والسلوك.

فالشعر العمودي لم يولد من لا شيئ أو من الفراغ، وإنما هو إنعكاس لنظام ذاتي وموضوعي وكوني متداخل، ومتوافق مع نبضات الحياة المتجسدة في أعماق المخلوقات.

والشعر العمودي إنعكاس إيقاعي لنبضات الأعماق الخَلقية، وهو يمنحنا الإحساس بالنظام والشعور بالقدرة على الإنتظام، ووفقا لذلك مضت الحياة العربية منضبطة ومحكومة بضوابط سلوكية متوارثة تحافظ على البقاء والرقاء النسبي.

وفي الزمن الذي غاب فيه الشعر العمودي عن الحياة العربية المعاصرة، وتوحلها بما هو نثري متفرّق ومتنافر، وخلوها من الفلاسفة والمفكرين المؤثرين المتفاعلين معها،  والذين ينظمون السلوك ويمنحون العقول القدرة على التفاعل الأمين، نهض الدين بمدارسه وتأويلاته وإنحرافاته وإضطراباته وأهواء أدعيائه،  ليملأ الفراغ المروع الذي خلفه غياب دور الشعر العمودي في الحياة المتمترسة بالجهل اللغوي والديني والمعرفي، وعجزُ المفكرين العرب عن ضخ الواقع بما يلزم من الأفكار الأصيلة اللازمة لصناعة الحياة الأقدر والأكثر أمانا ورجاحة، بل أن المفكرين قد شحنوا النفس العربية باليأس والإنكسار والشعور بالهزيمة والإذعان، إضافة إلى أن العقل العربي مشوش لغياب الآليات المنهجية التشكيلية الكفيلة بإطلاق ما فيه من القدرات الإبداعية والإبتكارية، وخلوه من التراكم المنطقي الكفيل بالوصول إلى منطوق إدراكي مشترك ومتصالح مع الرؤى والتطلعات في المجتمع بأطيافه المتنوعة.

وبدى المجتمع العربي وكأنه كالغريق في يم المعاصرة التواصلية المتسارعة، التي تسربت إلى الوعي الجمعي وضخته بقدرات معلوماتية ومعرفية غير مسبوقة.

وفي هذا الخضم الإضطرابي والشعور الإنهياري أو الإندثاري لعب الدين دورا سلبيا وتدميريا، لأنه يريد ملأ الفراغ النفسي والروحي والفكري  والسياسي في زمان ومكان لا يمكنه أن يحقق فيه مسعاه.

فالدينا تغيّرت والأماكن تبدلت، ونفوس الناس إنطلقت وعقولها تفتحت، وعملية التغيير تتحرك بسرعة غير مسبوقة وبطاقات إبتكارية وإبداعية فائقة.

والحقيقة المريرة أن الأمة بلا عقل معاصر وبلا مناهج حضارية وآليات تفاعلية تفاؤلية إيجابية المنطلقات والهوى، وإنما هي تتخبط في أوحال الويلات والتداعيات، ولا تجيد إلا أن تصب الزيت على نيران إنهياراتها ودماراتها الفائقة، فالدنيا تسير بخطى التقدم والبناء، والأمة تتعثر في مسيرتها وتتدحرج على سفوح الدمارات والخرابات الفتاكة، بملئ إرادتها ورؤيتها المحجبة بالضلال والبهتان والعمى النفسي والعقلي والروحي، لكنها ترفع رايات دين صارت بأفعالها تعاديه وتُنفّرُ الدنيا منه.

وبهذا بدأت معركة دامية بين واقع مفرّغ من محتوياته الجوهرية، وإرادات وعقائد تريد الإنفراد والإستبداد والنيل من الآخر بأساليب عتيقة عنيفة وتأويلات منحرفة، حتى وصلت الأحوال إلى تدميرات هائلة وخرابات متواصلة ذات خسائر كبيرة وفادحة.

وفقدت الأمة آليات كينونتها، وما خبرت إلا الإسقاط والنكران والتبرير والنكوص والتوحل بما مضى، وهي تطلق الحسرات والتشكي والتظلم والأنين، وتتناسى أن فيها الداء والدواء معا.

ولن تتمكن الأمة من ضبط سلوكها ووعي مصيرها والإنطلاق إلى دنيا العصر، إن لم تعيد للشعر العمودي كرامته ودوره وأن ترفع من شأن الفكر والمفكرين، وتمنح الفرصة للتفكير الفلسفي الحر لصياغة خارطة وجودها المستقبلي وصيرورتها الإقتدارية، المتوثبة نحو غدٍ يتيح للأجيال الإستثمار بطاقاتها المختنقة فيها بسبب التخبط والتيهان في فيافي الإندحارات المتعاقبة.

وتدرك أن عليها أن تبني الحياة لا أن تسعى للموت، وأن لا تتعامل مع الدين بسلبية وأمية وتأويلات جاهلة خالية من القدرة على الفهم والإدراك السليم.

فالأمة قد حولت الدين إلى قناع وإتخذته حصانا لإنجاز المآسي والويلات، وما يبدر منها لا يمت بصلة إلى الدين، وإنما يعاديه وينهيه، وكأن الأمة دينها النفاق وعقيدتها أن تقول ما لا تفعل، وتلك مأساة أمة تورطت بدينها وغاصت في وحل الضلال والبهتان المشين!!

 

د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم