قضايا

جدلية التراث والحداثة في الخطاب الموسيقي العربي .. التراث في مواجهة الحداثة

hany jarjisayadإن الحداثة لا تنطلق من فراغ، بل لا بد فيها من الانتظام في التراث، والشعوب لا تحقق حداثتها بالانتظام في تراث غيرها، وإنما بالانتظام في تراثها هي. إن من الشروط الأساسية لتقدمنا تحديث عقلنا وتجديد أدوات تفكيرنا وصولاً إلى تشييد ثقافة عربية معاصرة وأصيلة، وتجديد العقل لا يمكن أن يتم إلا من داخل الثقافة التي ينتمي إليها، فإن عملية التجديد لا يمكن أن تتم إلا من خلال الحفر داخل ثقافة هذه الجماعة.

إن الرغبة في التحديث حالة مزمنة لدى المثقف العربي منذ اتصاله بالعالم المتقدم في العقود الأخيرة، فهو لا يزال متعلقاً بنموذج مثالي للتحديث في المجتمع، وقد وضع تصوراً من هذا النموذج الذي يجمع بين آلة الغرب وعاطفة الشرق. ففي خضم هذه التحولات التي يعيشها العالم في الحقبة التاريخية الحديثة فإن هذا لا يفوتنا بأن المجال الموسيقي كذلك يوضع على مشارف الحداثة وعلاقة التراث بالواقع الفني أي بين النموذج الفني الغربي والتقاليد الفنية العربية، حيث تتضارب الآراء وتنقسم حسب الانتماءات من المدرسة القديمة المحافظة إلى المدرسة الحديثة والتي تساير التقدم التكنولوجي، حيث تعتبر أن هذا الأخير هو سبيل التطور وهو محاذاة للرقي الذي واكبه الغرب.

غير أن هذا الرأي يأخذ جانباً من التباين والمخالفة في الرأي مع التيار المحافظ المرتكز على مقومات الأصالة والتراث وهي فكرة يمكن لها أن تأخذ بالموسيقى العربية نحو التغريب وفقدان الطابع الصوتي والأدائي الخاص بتقاليد الممارسة الموسيقية العربية، لكن بالرجوع إلى ما خلفه الإبداع الموسيقي عند العرب فإن مسألة التضارب بين القديم والحديث ذات طرح قديم، فلقد جاء أنّ سئل "اسحاق الموصلي" عن لحنين في صوت واحد أحدهما له وثانيهما لمغنٍ قديم، أيهما أفضل فذهب إلى تفضيل اللحن القديم عن لحنه، و على حد هذه القولة يمكن أن تؤكد لنا على تعصب أهل الفن والصناعة الموسيقية في الفترة العباسية للقدماء ولا يلحقون بهم أحدًا من أهل العصر وأن كان أفضل منهم صناعة وأجودهم أداءً. لكن ما يحمله هذا الرأي من تعصب سلبي يأتي وراء أفكار رجعية منغلقة ومنافية لكل ما هو تجديد واتصال ثقافي بأي حضارة ما، فالمحافظة على التقاليد وصيانتها من العبث تعد من إحدى المشكلات التي تواجه كافة المجتمعات في تطورها الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، فكل جيل يعمل على نقل ما تعلمه من تراث الأسلاف إلى الجيل التالي، فإذا ما حاول أحد الخروج عن دائرة التقاليد الموروثة فإنه يتهم بالمروق والعصيان والكفر بتراث الأجداد، وبهذا المعنى أصبحت التقاليد الموروثة تمثل قيداً على حريات الأفراد وإبداعاتهم الفكرية، وهو الصراع الذي أخذ عنوان الصراع بين الأصالة والمعاصرة.

لذا فإن التيار المنافي للحداثة يجعل الموسيقى العربية تسير نحو الأعقاب وهذا الانغلاق يؤدي بها إلى الجمود والتحنيط وعدم مواكبة خصوصيات الجانب التقني للممارسة الموسيقية المعاصرة من حيث الشكل والمضمون، كما أن المحافظة على التراث بصفة مبالغ فيها يؤدي كذلك إلى عدم مواكبة الذائقة الموسيقية العربية للواقع الفني المعاصر.

لكن يبقى الأهم في المحاولة للتوفيق بين التيار الحداثي وعلاقته بالتراث من خلال الأخذ بما يمكن له أن يخدم مصلحة الإبداع الموسيقي العربي والسير به نحو عملية توازن بين خطاب الموسيقي عربي متمازج مع النموذج الغربي، وفي هذا الإطار يؤكد "حسن الحنفي" على ضرورة التوفيق بين التراث والتجديد وربما الأهم في نظرنا هي محاولة المبدع الموسيقي العربي في الأخذ من القديم ما يتفق مع العصر، وإرجاع الجديد لمقاييس القديم، فهو موقف شرعي، غير أن هذا الموقف يواجه تضارب من خلال وجود طريقتين للتوفيق بين عنصر التراث وتحديثه، فيمكن للتراث أن يواجه تجديداً من الخارج وذلك عن طريق انتقاء مذهب أوروبي حديث ومعاصر ومن ثم قياس التراث عليه أو يمكن كذلك للتراث أن يواجه تجديداً من الداخل وذلك عن طريق ابراز أهم الجوانب التقديمية في تراثنا القديم وابرازها تلبيةً لحاجات العصر من تقدم وتغير اجتماعي، ولكن جميع هذه المحاولات لا تعطي صورةً عامةً للتراث كله وإعادة بنائه طبقاً لحاجات العصر في حين أنّ المطلوب هو تطوير صورة التراث وتوسيعها حتى تكون هي روح العصر، وإعطاء نظرة متكاملة للتراث، كما جاء تأكيد على لسان "هنري جورج فارمر" في مداخلة قدمها خلال مداولات المؤتمر الأوّل للموسيقى العربية في القاهرة على أن الموسيقى العربية لا تستطيع أن تقف جامدة فالمدينة العصرية مع تياراتها الجارفة التي لا تعوقها العقبات تدفع الموسيقى العربية إلى التقدم للأمام، وعلينا حتى ما ظهرت بوادر هذا التقدم أن نحرص على أن نسلك طريقا يحفظ روحها الوطنية وطابعها لأن فقدانها ذلك الميراث يعد كارثة عظيمة، وعلى هذا الرأي فإنه لا مجال للتعصب الفكري والفني.

إن ما تحمله في طياتها المدرسة القديمة من تراث موسيقي فإن هذا الإرث جاء من منطلق أعمال لعدة محدثين في تاريخ الموسيقى العربية أمثال "سلامة حجازي" و"السيد درويش" المؤسسين لمدرسة المسرح الموسيقي العربي ومن سبقهم كذلك مثل "عبده الحامولي". لذا فإن الحداثة هي مشروع  لتراث المستقبل. والتراث يمثل نقطة التقاء وتواصل مع الواقع المعاصر، كما يمثل التراث منطلق لأعمال موسيقية حديثة تراعي مسألة الهوية الموسيقية العربية، حيث أن كل عنصر اجتماعي يمثل مظهر من مظاهر الحداثة البشرية وهي في طريق التقدم المستمر الذي بدوره يجمع صفة التثاقف على جميع الأصعدة.

فالمتفحص للتراث الموسيقي العربي يمكن له كذلك أن يبحث في أصول النغمات وتقنيات التلحين والتأليف إلى جانب المصطلحات المعتمدة في الممارسة الموسيقية إضافةً إلى أن تكوين المخزون الموسيقي العربي جاء وراء عدة حلقات من الاتصال الثقافي الفارسي والتركي والأندلسي وأول ما يلاحظ هو التمازج الفكري والحضاري بين الثقافات المجاورة دون المساس والإخلال بالطابع الأصلي المميز لتقاليد الممارسة الموسيقية العربية، لكن الإشكال يكمن في غياب التخطيط المنهجي في عملية الإبداع حيث يتعمد العديد إلى اقتباس عناصر خارجية دون التعمق في الجوانب التقنية وخصوصية اللهجة الموسيقية العربية والتي تختلف خصوصياتها من قطر لأخر.

لكن ما يمكن الإشارة له في هذا السياق من تساؤل عن مدى مشروعية الفصل والوصل بين ما هو تراثي وما هو المعاصر والحديث وهل أن الحداثة تمثل القطيعة مع أي ممارسة فنية تراثية حيث أن البعض يعتبر الحداثة لها السمة الثورية على التراث الفني،  فهي تعني التغيير الشامل وهو تغيير ثوري، وبذلك التجرد من كل ما هو موروث والخوض في الاندماج في ثقافات أخرى مخالفة لما هو متداول ومعهود، كما أن مبدأ الاتصال والانفصال أدى إلى انقسام المفكرين في العالم العربي بين التأييد والتفنيد، فالنموذج الأوّل يتكئ على ضرورة التقيد بالثقافة الأوروبية وهو تأييد لمبدأ القطيعة مع التراث  المحلي والانسلاخ منه وفي الجهة المقابلة يدعو النموذج الثاني إلى تدعيم القومية العربية وتكريس لمبدأ الهوية الثقافية وربطها بالتاريخ ، لكن النموذج الثالث يؤكد على ضرورة التأقلم وفقاً للتغيرات السياسية من خلال ما تحمله من تحولات جذرية في ثقافة العالم العربي، لذا فإن الحديث عن اتصال الحداثة بالتراث يحيلنا إلى مفاهيم فلسفية وهي علاقة الأنا بالأخر، ولعلّه ينساق بنا كذلك إلى طرح إشكالية تتعلق بالتأقلم الاجتماعي والحضاري في ظل التحولات والتيارات الفكرية القومية الغربية التي تضع الثقافة الشرقية تحت الهيمنة والاختراق لمبادئها وتقاليدها في الممارسة الموسيقية على وجه الخصوص لأن الحدود الجغرافية التي وضعها المستعمر لا تمثّل سوى حدود وهمية لأنّ مبدأ الاتصال الثقافي لدى الغرب يعتمد على سياسة ثقافية مخطط لها سلفاً، لكننا نؤكد في هذا السياق على الفكرة الأساسية والمبدئية التي تنطلق منها العملية الإبداعية وهي المحافظة على التراث الموسيقي من التشويه والتغيير المنافي للخصوصيات التقنية الخاصة بالموروث لأن المسار الحداثي يمكن له أن يصل بنا إلى الثقافة الواحدة والمهيمنة على مجتمعات العالم والتي يمكن نعتها بالثقافة الكونية والمرتبطة الى حد ما بالعولمة والانقطاع عن السند التاريخي للثقافة.

 

د. هاني جرجس عياد

 

في المثقف اليوم