قضايا

ثقافتنا وتكوين المشتركات

ali mohamadalyousifالثقافة العربية اليوم بشقيها الثقافة القومية التي عمادها الموروث التاريخي والهوياتي والديني واللغة العربية الفصحى، وهي بالاصل كما هي اليوم ثقافة سياسية بمحمولاتها ودلالاتها وتوجهاتها واهدافها، والشق الثاني الثقافة العالمة (ثقافة الاداب والعلوم والفنون عموما) التي هي ثقافة مدنية، ثقافة مجتمعات وشعوب عربية متباينة مختلفة، هل اصبحت هذه الثقافة العربية هي الرابط القومي المتبقي الوحيد، لما يستطيعه من جمع العرب على مشتركات ثقافية ايضا، بعد ان يئسنا من اقامة مشتركات السياسة والاقتصاد عربيا.

مشتركات ثقافية وحدوية تعويضية، وليس وحدة رقعة جغرافية ممزقة سياسيا واقتصاديا وثقافيا، محددة بحدود طبيعية تسمى الوطن العربي. كما هي ليست مشتركات تاريخية حضارية تراثية غير فاعلة، ولاهي مشتركات اقتصادية وسياسية معدومة، بل مشتركات ثقافية كوعاء يحتوينا في الحفاظ على اللغة والهوية والانتماء، من الاختراق والتمزق كمثل تمزق جغرافيتنا وتاريخنا، بعد اخفاق المشروع النهضوي العربي من تحقيق الحد الادنى من المشتركات العربية الاقتصادية والسياسية، وتراجعه سياسيا ايديولوجيا، وحلول المشروع الاسلاموي بمختلف توجهاته واهدافه المتطرفة منها على وجه التحديد، محل المشروع القومي، وطوبائية طروحاته الايديولوجية التي فشلت من تحقيق الحد الادنى من الطموح العربي في التكامل الاقتصادي وبدلا من ان يكون العامل الاقتصادي التكاملي العربي بحدوده الدنيا، عامل ترسيخ وتبادل الثقة والمصالح المشتركة، نجده اليوم اصبح عامل تناحر واحتراز، بل وتنافس غير شريف بين الاقطار العربية في تفضيل الاجنبي على العربي.

وقد جربت بعض البلدان العربية على صعيد القطر الواحد اقامة دعائم اقتصاد اشتراكي بصيغة معربة، تسنده علمانية الدولة سياسيا وفشلت المحاولة. وبعضها خاض تجربة الاقتصاد الحر المفتوح، اقتصاد السوق فوجد الاختراق الاقتصادي الاجنبي مهيمنا على الهيكل العام للاقتصاد وتكبيله بالتبعية التي تمهد ان لم تكن ترافق التبعية السياسية ومصادرة القرار الوطني المستقل. كما تقوم بعض الاقطار العربية التبشير باقتصاد الملكية الفردية المرتكز على ميراث ديني اسلامي مليئ بالمحرمات بدءا من تحريم (الفائدة) المصرفية، وليس انتهاءا بتحريم التعامل المصرفي من اساسه.

ورغم كل ما قيل وكتب من تنظيرات ايديولوجية توفيقية تلفيقية حاولت على الورق فقط جمع الانظمة العربية على مشتركات سياسية اقتصادية ثقافية اجتماعية وغيرها في اعتماد مرتكزات الماضي بكل ثرائه الذي كان عامل توحيد العرب في تكامل العروبة مع الاسلام لقرون عديدة، نجد كما جرى ويجري اليوم من يحاول استنساخ عشوائي لهذا العامل التكافلي ترابط القومية بالاسلام، من قبل العديد من الانظمة والايديولوجيات السياسية الحاكمة وغير الحاكمة، ومحاولة الباسهما الواقع العربي المتردي من دون جدوى، لان المفهوم القومي رغم كل محاولات وجهود عصرنته في مواكبة التقدم الحضاري كان يصطدم على الدوام بمعوقات اختلافية دافعها اما سياسي ديني متطرف، او دافع يعتمد ارجحية مصالح الدولة القطرية بالاساس وقبل كل شيء نتيجة قصور في الرؤية المستقبلية . هذان السببان جعلا من التوجه القومي هدفا عقيما لا تكتب له الحياة ليكون منطلقا في توحيد العرب على مشتركات الحد الادنى، وكذا مع الاسلام بعد خروجه عن حقيقته الدينية الحضارية المتعايشة المنفتحة على الاخر، اصبح دين تمذهب طائفي سياسي.

الاسلام بلحمته العروبية كان عماد الحفاظ على كيان الامة وتاريخها وحضارتها قرونا طويلة، حتى وهي ممزقة الى دويلات تحكمها الشعوبية تارة، ومن ثم تلاها الاستعمار الكولونيالي العثماني والاوربي تارة اخرى. تحول الاسلام كدين اليوم، الى اسلام سياسي ممثلا في تمذهب ايديولوجي عقائدي حزبي متطرف اساء للقومية والدين معا.

والاسلام السياسي الطائفي المهيمن باختلافاته السياسية المذهبية والطائفية واجتهاداته وفتاويه التكفيرية جعل من الاسلام كدين مذهبي طائفي، عامل فرقة واحتراب وليس عامل جمع وتوحيد لجهود العرب وتكاملهم الاسلامي داخليا وخارج حدود الوطن العربي. وذهب باتجاه ان وحدة الامة الاسلامية اجدى وايسر واولى من وحدة العرب القومية الفاشلة.

ما نريد تأكيده ان المرتكزات الاساسية المادية والتاريخية المشتركة لم تستطع تنظيرات المشروع النهضوي للامة توظيفه في وحدة الامة العربية حتى على صعيد تحقيق مشتركات اصبحت الجامعة العربية تطالب بها وتلقى قبولا رسميا لدى الاقطار العربية بمختلف توجهاتها الاقتصادية ، من دون تطبيق ملزم وغير ملزم لها.

نعود الى بداية تساؤلنا، انه بعد فشل المرتكزات والعوامل الاقتصادية والسياسية والقومية من توحيد العرب على مشتركات جامعة، يؤكد ذلك الانقسامات والمحاور الاحترابية حد التصفيات الدموية والعنف كلا يريد تأكيد احقيته في رسم مستقبل العرب. بضوء هذا هل اصبحت الثقافة العربية العامل الاساسي الوحيد المتبقي لجميع العرب بكل اقطارهم، في قدرته على تحقيق مشتركات وحدوية، واذا ما كان النجاح في الثقافة يغذيها عامل اللغة العربية الواحدة الفصحى، واقررنا بصورة مبدئية رجحان مقبوليته كعامل توحيد على طريق بناء مشتركات ثقافية للعرب، فان الثقافة العربية بهذا المفهوم الاطلاقي غير السليم، عقيم العواقب والنتائج لاسباب عديدة منها:

ان الثقافة العربية القطرية غالبا ما تكون مرتبطة بتبعية سياسية، واختلاف السياسات العربية القطرية يقودنا بالضرورة الى اختلافات ثقافية على كافة المستويات والصعد من جهة اخرى كما ان الثقافات العربية القطرية متنوعة وليست متشابهة كثقافة مجتمعات مدنية يسهل تلاحمها وارتباطها وتكاملها بين الاقطار العربية.

كما نجد ان الثقافة العربية تخلو من محددات تجعلها ثقافة غير هجينة ومستوعبة معاً، يمكن توظيفها كعامل نقي في بناء ثقافة عربية حضارية شاملة، فثقافة الاقليات الدينية واللغوية والاثنية هي في حرب دائمة يستعر اشتعالها بتضييق الافق العروبي للثقافة في عجزها احتواء ثقافات الاقليات وخصوصية لغاتها ودياناتها، على حساب وصاية (الديني الاسلامي) عليها وتقاطعه مع التعدد الثقافي للاقليات. وصل الى حد هجرة متوالية لهذه الاقليات وترك اوطانها تحت وطأة ما تستشعره تمييزا عنصريا  والباقي الذي لم يغادر اخذ موضع الريبة والعداوة من العروبة والاسلام معا قسراً مكرهاً.

من هنا يتحتم علينا مراجعة ثقافة المشتركات الوحدوية بضوء حل اشكاليات ثقافات الأقليات من غير العرب، وهم مواطنون يعيشون على ارض الوطن العربي، وهذا لن يكون الا في اعتماد الديمقراطية ومقوماتها في حرية الرأي، والتعبير، واللغة والدين والارث الحضاري وحق تقرير وضعهم الاجتماعي والسياسي من خلال الثقافي العربي الشمولي المستوعب    .

وهذه عقدة ليست ميسرة الحل في الوقت الراهن لعدم وجود رغبة جدية في حلها كما ان أي ثقافة عربية معاصرة تروم توحيد مشتركات تجمع العرب لابد ان يتجاذبها قطبان رئيسيان ، الاستقطاب الاول هو الموروث الماضوي لهذه الثقافة وكيفية الخروج من عراقيل ومعوقات هذا الموروث في ان يعيش الحاضر، القطب الاخر ماذا سنعتمد من مرتكزات ثقافية تحتوي مافي الثراء الماضوي لننطلق في رسم ملامح مستقبل ثقافي مشترك للعرب.

ثم ان الثقافة كما اشرنا في حال ارتباطها بالسياسة الحاكمة تصبح ثقافة قومية معطلة يصعب تعميمها ان تكون وعاءا لمشتركات عربية، فهي ثقافة سياسية تحركها وتديرها ايديولوجيات حاكمة متنفذة وهي ليست ثقافة شعوب ومجتمعات مدنية تحركها ثقافة عربية متحررة ديمقراطية تمتلك طاقة الحرية والتعبير غير المقيد، فهي غير صالحة للبلد الواحد، فكيف يمكن تعميمها عربيا؟.

كذلك فان خصوصية الثقافة العالمة المدنية (ثقافة الادب والفنون والحضارة) هي ايضا متقاطعة مع العامل الثقافي الوحدوي المسيس للعرب، وان كانت هذه الثقافة اصبحت اليوم عامل توحيد العرب بحكم اللغة اكثر مما تريد الثقافة القومية المسيسة تحقيقه، وبقاء وحدة الثقافة العربية في مستوياتها الحالية من التكامل العربي هو في اعتمادها اللغة العربية الفصحى من دون محتوى مادي يشكل مرتكزات تكامل ثقافي عربي معاصر كحد ادنى. يعتمد اللغة العربية وإبداعاتها في مجال الثقافة حصراً.

 

علي محمد اليوسف/الموصل

في المثقف اليوم