قضايا

ثقافتنا والتعليم الجامعي

ali mohamadalyousifبعدما كانت علاقة المركز (الولايات المتحدة واوربا) الثقافية والعلمية بالاطراف (دول العالم الثالث – دول الجنوب) تتحدد على الصعيد الثقافي بعلاقة التابع بالمتبوع، ودوران ثقافات الاطراف حول محورية المركز بالتبعية والاتباع، بما كان يطلق عليه الغزو الثقافي، تحولت هذه العلاقة بعد سيطرة عولمة الانترنت والاتصالات وانتقال المعارف بارقى التكنولوجيا الالكترونية المعقدة، الى ما اطلق عليه المفكر الجابري (الاختراق الثقافي) وتحولنا من مرحلة (الغزو الثقافي) الى مرحلة الاختراق الثقافي من الداخل.

ولا اعتقد يوجد من يفكر الآن بان الغزو الثقافي للمركز كان معتمداً الارساليات التبشيرية التي سادت ايام زمان، وانما كانت مرحلة ما اخذنا نتطير من سماعه (الغزو الثقافي) لم يكن قبل عصر العولمة يتم فقط بوسائل مثل التلفزيون والسينما والكتب الادبية والثقافية والتراجم، وانما كان العكس سائدا والى يومنا هذا ايضا، فنحن نرسل البعثات الدراسية الى الخارج مرغمين لتلقي بعض العلوم والمعارف الغربية التي تسبقنا بمراحل زمنية تاريخية طويلة، فيرجع طالب البعثة الدراسية (ليس جميعهم مثل الطهطاوي، وطه حسين، والافغاني، ومحمد عبده)، حاملا شهادة التخرج ليضعها امام مكتب الوزير متباهيا مطالبا بالوظيفة ليفيد ويغير المجتمع، وهو لم يتعلم من البلد الأجنبي الف باء السلوك الوطني والاجتماعي والاخلاقي، ولا القدر اليسير من معطيات الحياة الثقافية الحضارية التي عايشها سنوات دراسته في الخارج فلا عجب ان يصبح بعد سنوات قليلة من وجوده في الجامعة الأجنبية حاصل شهادة جامعية فقط، تفصح عن نفسها في جامعات العراق بملازم ومحاضرات تلقين تدريسي فقط يتأبطها الأستاذ في حقيبة من الجلد، مع راتب مليوني مجز، درجة خاصة. شهادة، وظيفة، معيشة وكفى.

اذكر جاء في زيارة عمل الى لندن وزير التعليم العالي والبحث العلمي العراقي (د. ......) في نهاية الثمانينيات من القرن العشرين، وفور وصوله لندن اجتمع بالملحق الثقافي في السفارة العراقية وبعض المسؤولين فيها، وطلب منهم جمع عينات عشوائية من الطلبة العراقيين الدارسين في المعاهد وكليات الجامعات البريطانية، وبعد يومين اجتمع الوزير بـ (النخبة) المختارة من الطلبة، وتكلم - قبل تسابق الطلبة الى عرض مطاليبهم- بأمور تخص الدارس العراقي في البلد الأجنبي، وكانت (زلة لسان) منه هي في تفكيره ومنهجه وتجربته الدراسية يعتبرها من بديهيات ضرورات ارسال البعثات الدراسية الى الخارج، حيث خاطبهم ابنائي اريدكم ان ترجعوا الى العراق ليس حملة شهادات جامعية فقط، وانما ان تعودوا رجال تنوير وبناء لبلدكم، واريدكم ان تعودوا مستوعبين فترة بقائكم، وما اكتسبتموه امام اعينكم وعايشتموه، اريدكم ملاحظة السلوك الثقافي المجتمعي المفيد، واساليب وانماط تعامل المجتمع البريطاني، وخذوا الجيد وما يناسبنا واتركوا الطارئ، وانقلوا لبلدكم المفردات السلوكية التي تستطيعونها في بناء بلدكم، فليس بالشهادة وحدها تستطيعون خلق جيل حضاري متمدن يعيش عصره، في اهم شريحة اجتماعية، (الطلبة) عماد البلد ومستقبله. والعلم والمعرفة ليس كائنات مجردة محفوظة في الملازم التدريسية والمحاضرات والمصادر والكتب فقط.

بعد عودة الوزير الى العراق ، انهالت على رأسه التقارير (الوطنية) من الطلبة للجهات العليا في بغداد حول محاضرة الوزير الحضارية، مع الطلبة الدارسين في بريطانيا، واتهموه باتهامات ابسطها ان الوزير العراقي كان في توجيهاته (عميلا) لبريطانيا. بعدها اعفي الوزير العراقي من منصبه في وزارة (التعليم العالي والبحث العلمي) نتيجة توجيهاته الحضارية، والتحقق من صحة المعلومات المرفوعة على الوزير الواردة في التقارير التي تدينه وتطعن بوطنيته، واسندت اليه وزارة بديلة اخرى ليس فيها دعوة لان يكون العراق بلدا حضاريا كما يعيش الغرب وغيره، ولا فيها تأثر بقوانينهم الوضعية الملحدة، ولا فيها ما يهدد اخلاقنا الوطنية والذاتية وتسميم عقول ابنائنا، وهكذا التزم الوزير الصمت وراء مكتبه طيلة مدة عمله الوظيفي ومغادرته العراق.

ما يطلق عليه المفكر الجابري (الاختراق الثقافي) بمعنى اصبح النموذج الثقافي الغربي بكافة معطياته في التكنولوجيا والعلوم والانسانيات والفنون مثالا يحتذى بعد دخولها بيوتنا وانتشارها في معظم مناحي حياتنا الاجتماعية وغيرها، في اساليب وانماط استهلاكية لا اكثر.

والثقافة العربية منذ عصر النهضة العربية في القرن التاسع عشر، كانت عند روادها تتأرجح بين علاقة تقليد المثال الغربي، والانجذاب والشد فيما كان يطلقون عليه الحفاظ على الموروث والهوية واللغة، وكانوا يراوحون بين فكي كماشة، هي المقايسة والمقارنة مع معطيات ثقافتين متناقضتين، ثقافة الغرب التي تتسم بالادهاش والديناميكية والحيوية ومسابقة العصر، واستعياب التطور التاريخي والسيرورة الحضارية، وبين الثقافة العربية الساكنة التي يكون الشاذ المدان فيها من يجرؤ على تحريك مستنقع راكد منها.

فثقافتنا والى يومنا هذا يتجاذبها تكبيل وإعاقات الموروث وعبادته التقديسية، وهذا كان فيما مضى سببا لمراوحتنا الثقافية والحضارية، واليوم اصبح نتيجة لتراجعنا وتخلفنا وجمودنا العقائدي والمعرفي على السواء. ذلك هو ان نظام التعليم عندنا لايزال نظام تلقين، يُحرّم التساؤل والاستفسار والشك والنقد وتحكيم العقل، ويفتقد ميزتين اساسيتين، ميزة النقد العقلاني والمحاورة المعاصرة في النمط التعليمي السائد في جامعاتنا، والنتيجة تخريج عقول جاهزة مقولبة لتلقي (العقائد) التراثية بعقلية منغلقة في اعتبار التعليم واكتساب الثقافة والمعرفة مرحلة (تأهيل!) شهاداتي للحصول على الوظيفة. وبتعبير فكري ادق يشخص المفكر محمد عابد الجابري الداء والدواء في هذه الاشكالية القاتلة: الى ان التعليم السائد في الوطن العربي اليوم، هو اما تعليم ثقافي يصنع عقولا قانونية دوغمائية، واما تعليم ميثيولوجي تلقيني يصنع عقولا اسطورية راكدة، والقاسم المشترك بين هذين النوعين هو غياب السؤال النقدي، لماذا وكيف!؟ والعقل التقاني عقل فارغ من الامور النظرية التي هي ميدان التعدد والاسئلة والاجوبة. ولذلك تجده مستعدا لتلقي العقائد الجاهزة، بمثل السهولة التي يتلقى بها القوانين العلمية فليس غريبا ان تكون المعاهد والكليات من أهم الساحات التي يستقطب فيها التطرف الأتباع والأنصار والأشياع. (انتهى تفسير الجابري)

إن من أهم الأمور التي يحتاجها التعليم والثقافة عندنا هو تفعيل التعامل النقدي العقلاني في جميع مراحل التعليم، وفي غياب هذا التفعيل الحيوي لا نستغرب ان يكون التعليم والثقافة عندنا حبيستا جدران المدارس و أسوار المؤسسات التعليمية التي تفصلها عما يجري خارجها اجتماعيا، ثقافيا، أخلاقيا، سلوكيا، سياسيا في المجتمع. ولا نعجب من حرمان أجيال من الطلبة من حياة حقيقية معاصرة، تمتزج مع المجتمع وتعمل على تغييره وتبديله كناتج تعليب عقلية الطالب، في استقباله التلقين التعليمي الجامعي، وترسيخ مبدأ ان تلقي العلم هو وسيلة لهدف أخير، هو التخرج والحصول على الشهادة الجامعية، فالوظيفة، والمجتمع لايفهم ولا يريد من الطالب أكثر مما تفهمه الجامعة وتريده له.

لاحظ الناتج العرضي لهذه العقلية التلقينية في مطالبة مئات الألوف من الخريجين الجامعيين وغير الجامعيين بالتعيين في وظائف الدولة!! طبعا هذا النهج الجامعي المسؤول عنه الوزير والحكومة، يقود إلى أن تكون ميزانية الدولة في العراق مثلا ميزانية تشغيلية لدفع رواتب بطالة مقنعة مفروضة بجبروت الجهل والتخلف في تعيين جميع الخرجين الجامعيين وغيرهم بوظائف حكومية. وفي هذا تغييب فرص التنمية الاقتصادية والبشرية والاجتماعية والثقافية المستدامة التي تجعل من المجتمع بالتالي مجتمعا لا يعتمد الوظيفة الحكومية فقط، بل تكون فرص التنمية البشرية الاقتصادية الشاملة أوفر حظا لتشغيل العاطلين من جهة، ووضع مرتكزات بناء دولة لا تعتمد الريع النفطي فقط من جهة أخرى. واستحداث وظائف وصرف رواتب فهذا غير موجود في جميع دول العالم المتحضر اليوم. فالجامعات عندهم هي ليست معسكرات تأهيلية لتخريج طوابير العاطلين الراغبين في الوظيفة الحكومية فقط.

نأخذ مثال مقارنة أخر، من أهم أقسام الجامعات الغربية وفي جامعات العالم المتمدن عموماً، هو قسم الأبحاث والدراسات في مختلف العلوم والاختصاصات، حتى ان بعض هذه المؤسسات تمويلها ذاتيا لا علاقة لها تربطها مع مؤسسات جامعية أو حكومية، وهي مؤسسات بحثية مستقلة تماماً، وتعتبر هذه الأقسام والمؤسسات التخصصية البحثية من أهم مرتكزات بناء استراتيجيات الدولة في مختلف شؤون الحياة التي تعتمدها، في حين نجد البحوث الجامعية عندنا سواء للاستاذ من اجل الحصول على الترقية الوظيفية او بحوث الطلبة نجد الاثنين هما آفة السقوط في الاجترار والانغلاق وتحقيق ماهو اكثر من محقق، وشرح ماهو مشروح حد الملل، او التعليق على ما استنفد، ولا يقبل التعليق والاضافة عليه بزيادة سطر واحد خاصة في الدراسات الانسانية. وان ما يسمى بحوثا تصرف عليه الجامعات العراقية الملايين لا تتعدى الانشائيات الركيكة المستهلكة،من تسطير وتجميع اجتزاءات بعشوائية صرفة وربطها مع بعضها باسلوب غريب، فقط لغرض اجتياز مرحلة الاختبار والحصول على النجاح، وبعدها تهمل هذه البحوث في سلة المهملات لانها ليست بحوثا ذات قيمة حقيقية علمية تنفع الجامعة او المجتمع لتعيش وتستمر مدة زمنية طويلة، وتكون دورة حياتها انتهت بوضع الاستاذ الدرجة على البحث السطحي الورقي المقدم له وانتهى. ونفس الحال يسري على الاطاريح في مجال الدراسات الإنسانية والفنون والتاريخ والتراث فهي في نفس خانة خداع الطالب والأستاذ للجامعة، وخداع الجامعة للمجتمع والدولة، وتضليل امانة التحصيل العلمي المتميز ويكون المسوؤل الأول والأخير سياسة وزراء التربية والتعليم الجامعي وسياسة الحكومة ككل.

 

علي محمد اليوسف - الموصل

 

في المثقف اليوم