قضايا

الأغتراب في مدونة حي بن يقظان

ali mohamadalyousifبدءا علينا التمييز بين ثلاث مصطلحات لغوية فلسفية انثروبولوجية متداخلة، مختلفة ومتباينة ايضا. المصطلح الاول هو التوحد (Autismus) وهو مرض شائع يصيب الاعمار الطفولية والشابة سنأتي توضيحها لاحقا. والمصطلح الثاني الذي ورد في كتابات ابن سينا، وابن طفيل، وابن باجة، والفارابي، والسهروردي، فهو عندهم (المتوحد الفيلسوف) ومرادفه الحرفي باللاتينية (Autismusly Philosophy) وهي لا تعني المتوحد المريض هنا. وما ينطبق على مصطلح المتوحد الفيلسوف حسب فلاسفة المسلمين هو المبدع الاغترابي او المنعزل اجتماعيا،، والمصطلح الذي ينطبق على حي ابن يقظان على اعتباره فيلسوفا وحيداً هو (the lonely philosophy)، والفرق بين المتوحد المريض (Autismus)، والوحيد الاغترابي المتفلسف (lonely) او (Self-estrangement)، ان المتوحد كما وردت في كتابات افلاطون، وابن سينا، والفارابي وابن باجة، وابن طفيل، والسهروردي هي بخلاف المصطلح الطبي (Autismus) بمعنى هو الشخص المنعزل السوي انسانيا والذي يهجر المجتمع وينعزل عنه بارادة فلسفية عقلية مسبقة، وهي مرحلة من مراحل بحثه الاستقرائي عن الحقيقة، تليها المرحلة الثانية في عودته للمجتمع والناس ونشر افكاره ورؤاه التي استخلصها من تجربته (الاغترابية) لاصلاح المجتمع، واقامة مرتكزاته على اسس من تصوراته الفلسفية، اما الوحيد (The lonely) فهو الانسان الذي يجد نفسه منعزلا (مكانيا) من غير ارادته ولا رغبة منه، كما في حي بن يقظان الذي ارضعته وانشأته ظبية الى سن ثماني سنوات وعاش معظم سني حياته وحيداً في جزيرة غير مأهولة بالكائن الانساني. وقد وجد ابن الطفيل مستفيدا من افلاطون في الجمهورية، والفارابي في المدنية الفاضلة وابن باجة، وابن سينا، ان (المتوحد) تتفق مع تفكيره اتفاقا متطابقا في كتابته لرائعته (حي بن يقظان) مؤكدا فكرة الفيلسوف المتوحد التي استطاع عن لسان حي بن يقظان تأكيد استخدام العقل لسبر اغوار وفك مرموزات حقائق الخلق وظواهر الميتافيزيقيا والوصول لمعرفة (الله).

اما المصطلح الثالث الاغترابي (Alienationlty)، فهو قرين الفيلسوف المتوحد بالتمام والخصائص، فهو يعتزل الناس والمجتمع بارادة فلسفية ليعود ثانية برؤى اصلاحية تكسر حاجز اعتزاله المجتمع للتبشير بافكاره(1). والاغترابي هنا اما ان يكون فيلسوفا مفكرا، فنانا، اديبا، شاعرا صاحب انتاجية ابداعية...الخ.

وقبل الخوض في المفهوم الفلسفي للمتوحد الفيلسوف الذي هو (الاغترابي) المبدع استعير الحادثة الواقعية التالية عن مرض (التوحد) (Autismus) والفت الانتباه تأكيدا ثانيا، بان مصطلح (المتوحد) كما وردت عند فلاسفة الاسلام، الذي سنتناوله فلسفيا، لايقصد به المتوحد المريض طبيا، والخطأ اللغوي الحرفي كان من الممكن تصحيحه بـ (الاغترابي) او الوحيد الفيلسوف (2). لان مصطلح المتوحد تعود اشتقاقا لغويا الى التوحد بمعنى المرض، وليس بمعنى المتوحد الفيلسوف.

وهذا نموذج المتوحد المريض:

عرفتُ حادثة مريض التوحد (شابا) كان متفوقا بالدارسة، ومعدله في امتحان البكالوريا للفرع العلمي كانت 96%، ترك كلية الهندسة بكل يسر وسهولة، كان يحب العزلة منذ صغره، وعدم الاختلاط بالناس، يلتزم الصمت كثيرا، ولديه تصرفات غريبة تأتيه على شكل نوبات انفعالية، شرود وذهان عقلي، وعبارات فلسفية، بلغ سن الثانية والعشرين ولم يشخص مرضه طبيا، انه مصاب بمرض التوحد، حتى وقعت الكارثة، اذ استطاع بعبقرية مذهلة من تدبير خطة بمعزل عن مراقبة والده واخويه وكل من في البيت، حصل على قطعة حديد مجوف (انبوب) مع بطارية كهربائية، واسلاك ومستلزمات اخرى بسيطة، كان يقفل عليه باب غرفته متخفيا عن لفت الانتباه، وهو يصنع آلته، معتمدا قوانين ميكانيكا الفيزياء، وحصل على رصاصة (طلقة) مسدس او بندقية، بمستطاعها كما هو مرسوم، عند قدحها وهي مثبتة داخل الماسورة (الانبوب) الحديدي في احد جانبيه ان تنطلق وتصيب هدفها من الطرف الثاني، وضع كرسيه وجعل فوهة الانبوب الحديدي الجانب الثاني تلامس رأسه من الخلف، بحيث انه اذا ضغط بابهام قدمه اليمنى على (زر) مربوط بشبكة من الاسلاك الموصلة للكهرباء تشحنها بطارية مسببة قوة الضغط التي سترطم مؤخرة الرصاصة بقادح يجعل الرصاصة تنطلق داخل الانبوب الحديدي كمثل انطلاقة الرصاصة داخل ماسورة المسدس او البندقية وبنفس السرعة، وضغط الزر بابهامه لتنطلق الرصاصة وتخترق جمجمته من الخلف منهيا معاناته النفسية التي لا تحتمل بالانتحار الذي ادهش الجميع، في مقدمتهم رجال شرطة التحقيقات الجنائية.

بعد هذه الحادثة بسنوات قرأت ما يلي للدكتور عبدالرزاق الدوّاي، كتب في بحثه: (الاشخاص الاذكياء يتصرفون بطريقة غير عقلانية في بعض الاحيان، ونجد نسبة عالية من المرضى النفسيين الذين يتمتعون بقدرات ذهنية عالية تتجاوز المتوسط المعتاد، بحيث ان مجموعة من مرضى الانفصال في الشخصية، او التوحد، يقعون ضحية ذكائهم الخارق)(3).

هذا نموذج المتوحد المريض، وليس المتوحد الفيلسوف والان نعود لموضوعنا الاغترابي او المتوحد الفيلسوف غير المريض في كتابات الفلاسفة المسلمين، يشترك المتوحد الفيلسوف والاغترابي المبدع انهما شخصان سويان غير مريضين ويشتركان في (الغربة والانكماش على الذوات خشية الضياع في الحياة المتقلبة، ويبقيان غير مستلبين ذاتيا ورمزا لثبات الموقف وسلامة النظر والمعرفة)(4).

وعند ابن باجة في كتابه (تدبير المتوحد) رسائل بن باجة الالهية/ تحقيق ماجد فخري يصف المتوحد(5) (بالانسان الكامل الذي يتبع عقله ويسيطر على غرائزه وشهواته، فالمتوحد ليس زاهدا ولا متصوفا، وانما هو فيلسوف يحيا حياة عقلية محضة، فيأخذ نفسه بالبحث والنظر ويعني بتدبير شؤون الحياة في المدينة الفاضلة على اساس الرؤية والفكر)(6).

والمتوحدون في نظر ابن باجة مواطنون في الدولة المثالية، وان كانوا غرباء في المجتمع الحقيقي، الا ان جرأتهم الروحية تدفعهم الى مجاوزة شروط الواقع والى سلوك منهج عقلي يهيئون به اسباب السعادة في الدنيا والاخرة، وان تأثر بن باجة بالفارابي اكده المستشرق (بور) ويرى ابن باجة، وهذا جوهر نظريته ان الانسان كائن متوسط بين الالهي والبهيمي، ويحسن به ان يسلك المسلك الالهي ما امكنه، ولا يتأتى ذلك الا بالتوحد، وهنا ابن باجة متأثر بالنزعة اليونانية (افلاطون) في الجمهورية(7).

وقد يتبادر الى الذهن ان التوحد هو انعزال الانسان، يعيش في برج عاجي، يتأمل العلوم النظرية فيصل بذلك الى الاتصال بالعقل الفعال، ان العزلة التامة مخالفة لطبيعة الانسان، من حيث انه مدني اجتماعي  بالطبع، فلذلك يكون المتوحد واجبا عليه السير في ان يعتزل الناس جملة ما امكنه، ولا يلامسهم الا في الامور الضرورية، او بقدر الضرورة، أي ان العزلة التي يطلبها ابن باجة ليست العزلة المناقضة للناموس الطبيعي الاجتماعي، انما هي علاج لبعض السير، أي المدن الفاسدة من امراضها الاجتماعية(8). لقد حاول ابن باجة في كتابه (تدبير المتوحد) ان يصف كيف يمكن لفرد او جماعة صغيرة من المفكرين الاحرار ان يكونوا ضمن المدنية الحقيقية، مدينة جديدة فاضلة، يتضح هنا تأثير الفارابي في ابن باجة وتأثير افلاطون على الفارابي – يتخذون المدينة الفاضلة هدفا او مثلا اعلى للمستقبل.

اما ابن طفيل في قصة حي بن يقظان فيذهب كامل عياد في تحقيقه للمدونة، فهو يشرح مراحل التطور الطبيعي للانسان في حالة محضة، ويبين لنا علاقة الفرد بالجماعة بصورة حية واضحة، فانتخب من اجل هذه الغاية جزيرتين مسرحا لقصته في احداهما نجد المجتمع البشري بكل عاداته وتقاليده المتوارثة (جزيرة ابسال)، وفي الثانية الانسان المتوحد في تطوره الطبيعي بعيدا عن تأثير المجتمع – (جزيرة حي بن يقظان) فكل من حي وابسال يسكنان منعزلين احدهما عن الاخر كل واحد في جزيرته، في البدء كان سفر أبسال الى جزيرة حي واشتراكهما معاً بالاستدلال العقلي وتعلم حي بن يقظان لغة الكلام من أبسال، ومن ثم سفرهما معاً الى جزيرة ابسال المأهولة اجتماعيا واقامتهما بين سكانها فانه بحسب كامل صليبا ليس سوى وسيلة للنقد الاجتماعي من طرف خفي، فقد اراد ابن طفيل بذلك تشريح احوال عصره الاجتماعية وبيان فساد الانظمة وانحطاط الاخلاق وتفسخ العقائد الدينية. وبعد ان أديا ما يتوجب عليهما من اصلاح عادا الى جزيرة حي بن يقظان الخالية من السكان ليتعبدا، بالاستدلال الفعلي للخالق (الله) حتى وفاتهما.

للسهروردي المتصوف المقتول بحلب عام 587هـ رسالة قصيرة اسمها (الغربة الغربية). يبدأها قائلا:

(اني لما رأيت قصة حي بن يقظان وصادفتها مع ما فيها من عجائب الكلمات الروحانية والاشارات العميقة، عارية عن تلويحات تشير الى الطور الاعظم المخزون في الكتب الالهية والذي يترتب عليه مقامات الصوفية، واصحاب المكاشفات ولم يشر الى ذلك الا في آخر الكتاب اردت ان اذكر طورا في القصة، أسميتها أنا قصة الغربة الغربية). (9).ان قصة حي بن يقظان للسهروردي تنطوي على سياحة روحية يتخيل السهروردي فيها نفسه كائناً بين مغرب الارض ومشرقها، وبين الارض والسماء، ثم يشرح تلك السياحة حالا من الوصول (الاتصال بالالوهية) وهو يفعل ذلك بطريقة رمزية، ولما وصل الى قمة الجبل سينا، ظنّ انه وصل الى المكان الذي يصل به الى الله (لان موسى كان قد صعد الى قمة جبل سيناء فتجلى الله عليه وكلمه). ولكن السهروردي يدرك ان فوق جبل سيناء جبالا كثيرة وان وراء هذا الاب الروحي الذي خاطبه اباء روحيين كثار، ثم ان الذي كلم السهروردي على جبل سيناء افهمه انه يجب ان يعود الى الارض، ثم بشره بانه يصل الى إله بعد ذلك لقد اراد السهروردي ان يبين المرحلة الاخيرة للترقي عند الانسان، وهي اتصاله بالله، وانكشاف العالم له، والتغلب على العقبات التي تعترضه من شهوات وطباع وغرائز، وانه لايمكن التغلب عليها الا بجهد كبير، والهام من الله تشير اليه قصة الهدهد مع سليمان فلئن كان حي بن يقظان في نظر ابن سينا هو العقل الانساني وفي نظر ابن طفيل هو الانسان نفسه باحثا منقبا عن الحقيقة حتى يصل اليها، فان حي بن يقظان عند السهروردي هو الانسان الذي اكتمل عقله واراد ان يصل من طريق الكشف والفروق الى معرفة ربه، ثم وصل بعد طول عناء، فابن سينا جعله عقلا متفلسفا، وابن طفيل ارقى مما وصل اليه انسان ابن سينا، وانسان السهروردي ارقى مما وصل اليه انسان ابن طفيل(10).

 

علي محمد اليوسف - الموصل

.......................

(1) راجع كتابنا سيسيولوجيا الاغتراب، قراءة نقدية منهجية في فلسفة الاغتراب، دار الشؤون الثقافية بغداد 2010، والطبعة الاخرى فلسفة الاغتراب، دار العربية للموسوعات، بيروت 2013.

(2) يراجع كتاب الفيومي، ابن باجة وفلسفة الاغتراب، دار الجمل، بيروت، 1988، ص196.

(3) د. عبدالرزاق الدوّاي، مجلة عالم الفكر، مج41، كانون اول 2012، ص70.

(4) د. عبدالقادر موسى حمادي، فكرة المتوحد عند فلاسفة الاسلام، مجلة دارسات فلسفية، ع20، 2007، ص127.

(5) ترد لفظة المتوحد هنا باصل الكلام المقتبس على انها ليست قرينة مرض التوحد، كما قد يتبادر للذهن، وانما المقصود بها هنا، الفيلسوف المتوحد المنعزل اجتماعيا، او الذي يعيش وحيدا اغترابيا.

(6) المصدر السابق، نقلا عن جميل صليبا، تاريخ الفلسفة، ص267.

(7) نفس المصدر السابق نقلا عن الفيومي، ابن باجة وفلسفة الاغتراب.

(8) المصدر السابق، ص109.

(9) د. عبدالقادر موسى حمادي، مصدر سابق، نقلا عن جميل صليبا.

(10) حي ابن يقظان، تحقيق امين، ص39.

 

في المثقف اليوم