قضايا

التثاقف العربي البيني

ali mohamadalyousifفي طلب وردني لإبداء الرأي بالوسائل، والكيفية الموصلة لاستعادة العراق الثقافي لحمته بالثقافة العربية الأم وعودته إلى محيطه العربي الثقافي المحذور عليه تواجده الفعلي الفاعل فيه حاليا، بعد العزلة المفروضة عليه في أعقاب التغييرات السياسية عام (2003) وماتلاها من أحداث .

فوجدت الحقيقة الماثلة أمامي كما هي أمام غيري، ملخصها تفكك الخطاب السياسي العربي الحاكم، وتشرذم هذا الخطاب في محاور واستقطابات عربية لاتخدم حاضر ومستقبل أقطار الوطن العربي . ويلاحظ أيضا إلى أي مدى وصل التضاد والتعارض بين السياسي الحاكم واختلاف توجهاته مع المثقف والمنجز الثقافي المفروض والمفروغ من استقلاليته، لكن عدم الإقرار بهذه الاستقلالية النسبية جعلت منه وليدا لهذا الخطاب السياسي العربي الممزق، المشتت، المرتبك، المتعادي فيما بينه، وفي أهم مرفق معطل الفاعلية سياسيا واجتماعيا وثقافيا الذي هو الثقافة العربية في أقطارها، وروافدها في التثاقف العربي البيني، فأصبح تحصيل حاصل مخفي ومعلن هو تبعية التفتيت في الثقافة العربية، وفي منظومة التثاقف العربي البيني وتشظيها قطريا لحاقا بالمتبوع المتفكك السياسي الحاكم .واكثر من ذلك وبمرور الوقت برزت تمفصلات وتقاطعات في مسارات التثاقف العربي التبادلي التكاملي الواحد على صعيد علاقة القطر العربي أو الأكثر مع القطر العربي الأخر وتابعيه!!

من المعلوم ان وحدة الثقافة العربية ووجودها الكياني (معرفيا وحضاريا) يتوقف على مدى تواشج التثاقف العربي البيني لجميع الأقطار العربية فيما بينها، وفي انعدام فاعلية هذا التثاقف يضعف لا بل يلغي أن يكون للثقافة العربية الموحدة وجودا وكينونة حضارية معاصرة، تستطيع بها ومن خلالها اخذ مكانتها المميزة المرموقة بين ثقافات أمم وشعوب العالم.

كما ان عصر العولمة وما يوفره حاليا من تطور مذهل، وثورات متلاحقة في مجال الاعلام والمعلوماتية والاتصالات، اصبح التواصل والتبادل بين الثقافات الاجنبية،  فما بالك بين المجتمعات العربية، يساهم فعليا عبر مد جسور وآليات المثاقفة في نسج علاقات ثقافية متشابكة بين المجتمعات العربية،  وفي تنقل قيم وافكار واساليب في الحياة والسلوك خاصة بكيان ثقافي معين، الى كيان او كيانات ثقافية اخرى، ومن شأن ذلك ان يؤدي بالتالي الى احداث تغييرات جزئية في انماط الفكر والسلوك لدى الافراد والمجتمعات،  وواهم من لا يزال ينمي الاعتقاد في امكان استمرار وجود حواجز سياسية او استراتيجية تحول دون سرعة انتقال المعرفة والافكار والقيم والمكتسبات، فيما بين المجتمعات العربية .(1)

وفي مقارنة بسيطة نجد أنفسنا نحسد ثقافة وأدب أميركا اللاتينية وما بلغته من مكانة عالمية يحترم العالم حضورها الفاعل المميز على صعيد المنتج الثقافي الإبداعي، وصعيد التلقي والقراءة والرواج والترجمة وحتى أفلام السينما، بعد ان حصدت هذه الثقافة المهجنة جوائز نوبل مرات عديدة . ونحن عربيا لانزال أمام حقيقة مؤلمة مخجلة بحقنا، ان مقومات وتراث وتاريخ وحضارة الثقافة العربية والإسلامية هي بلا شك أكثر عمقا وأصالة وتجذرا في وجوب ان تعطي عطاءها المأمول منها، بعد ان برزت ثقافات عالميا هي اقل شانا من العربية الإسلامية وأثبتت مكانتها الدولية .

ان المثاقفة ظاهرة اجتماعية واقعية وتاريخية، بالامكان رصد سيرورتها وتتبعها على الرغم من الظهور البطيء جداً لاثارها . واذا كانت جميع الثقافات البشرية تبدو للعيان المباشر كأنها مستقرة وثابتة، فالحقيقة التي تكشف عنها الابحاث والدراسات الانثروبولوجية الثقافية غير مستقرة وثابتة، والحق ان الثقافات المستقرة استقراراً نهائياً هي تلك التي ماتت وانقرضت منذ زمن بعيد. ان كل ثقافة تتسم بدرجة معينة من الحيوية والحركية وهي بالتأكيد محل تغير تدريجي بطيء قد لا تلحظه الأعين الا بعد انقضاء زمن كافٍ حين يبدأ التغير الثقافي بالظهور طفرات متلاحقة في المناحي المختلفة للحياة الاجتماعية للشعوب .

والواقع ان التواصل والتبادل بين الثقافات بصرف النظر عن مستويات تطورهما اوتقدمها ورقيهما الراهن غدو ظاهرة عالمية موضوعية لم يعد بالامكان تجاهلها ولا غض الطرف عنها، ولسنا في حاجة الى التكرار بان الفضل في ذلك يرجع الى الامكانات الهائلة التي يوفرها حالياً التطور المذهل والثورات المتلاحقة في مجال الاعلام والمعلوميات والتواصل، بحيث ما عاد في وسع احد اليوم ان ينكر الا جهلاً واستكباراً ان التواصل والتفاعل والتبادل بين الثقافات على المستوى العالمي يساهم فعلياً عبر جسور واليات المثاقفة في نسج علاقات ثقافية متشابكة بين الشعوب، وفي تنقل قيم وافكار واساليب في الحياة والسلوك خاصة بكيان ثقافي معين، الى كيان ثقافي او كيانات ثقافية اخرى، جزئية في انماط الفكر والسلوك لدى الافراد والمجتمعات، وواهن من لايزال ينمي الاعتقاد في امكان وجود حواجز سياسية او استراتيجية قادرة اليوم على الصمود طويلاً امام سرعة انتقال المعرفة والمعلومات والافكار والقيم والمكتسبات الانسانية الراهنة، وخلال سيرورة المثاقفة تقوم كل ثقافة بما يمكن تسميته مجازياً بتصدير ثقافي، أي بنقل بعض معالمها وسماتها الى الكيان الثقافي الاخر، وفي الوقت ذاته تستورد منه بعضاً من سماته الخاصة، ويلاحظ ان هذه العملية نادراً ما تكون متكافئة (د.عبد الرزاق الدواي، المثاقفة سيرورة واليات، (عالم الفكر، مج41، ع 2، 2012، ص 177 ).

لاخلاف انه يوجد في أقطار وطننا العربي اليوم أناس متنفذون، يمارسون وبتوجيه سياسي حاكم تعطيل دور التثاقف العربي البيني، وإبعاده عن مقاربات التكامل في تحقيق الهدف الثقافي العربي الواحد، الاهو تاصيل الهوية الثقافية العربية المقسمة والمجزاة، ومن ثم تحقيق حضورها العصري الحضاري بمعزل عن وصاية الارادات السياسية المتضادة، المتعادية، التي اعتادت الصيام على الجهل والافطار على التخلف والفقر الشعبي الجماهيري.وبذلك يكمن سر نجاح ديمومة بقائها على سدة الحكم مدة عقود توريث الاب للابن.

إن في وصاية الفكر الإيديولوجي السياسي الحاكم على حرية التثاقف العربي البيني بين الأقطار العربية، الذي هو مشروع بنية ثقافية حضارية داخل القطر العربي الواحد ومجوعة الأقطار العربية.وفي مصادرة حق حرية هذا التثاقف، وعدم الإقرار باستقلالية تحركه الثقافي، وعرقلة تكامله عربيا كمنتج إبداعي ثقافي متداول ومتبادل بين قطرين أو أكثر وبين مؤسسات ثقافية راعية غير رسمية تجد في مثيلاتها في القطر العربي الأخر تكاملا أفضل.لانه بات من المفروغ منه اليوم عالميا، ارتباط ثقافة أي مجتمع بالمفاهيم الديمقراطية،  وتأمين حقوق الانسان، واحترام حرية الرأي،  والانفتاح على القيم الانسانية السائدة .

جعلت الايدولوجيا السياسية العربية من هكذا توجهات وفعاليات على طريق بناء مشاريع تثاقفية عربية، تابعا مغلوبا على أمره في تنفيذ أملاءات ما يريده السياسي ويرغبه الحاكم منه، حتى وان كان في علم ويقين الحاكم ان ما ينطوي على هذه الإعاقة والتخريب لمشروع ومبادرات التكامل والتبادل التثاقفي البيني العربي العربي من تعطيل دور ما يعلي شان الثقافة العربية على الصعيدين العربي والدولي.

كان طبيعيا جهود ومحاولات تجسير علاقات الالتقاء والتبادل والتثاقف التكاملي بين اكبر عدد من الأقطار العربية بعيدا عن تدخلات وعراقيل مؤسسات السياسي الحاكم ان تصبح حلما لم يتحقق منه شيئا لحد ألان، وطموحا طي القصور في الوصول إلى بداياته الصحيحة، ويرتد بالنكوص والانكفاء على الإرادات الحقيقية المخلصة المبدئية فيقمعها، ويبطل توجهاتها في السعي لتوحيد لغة وخطاب الثقافات العربية المبعثرة في الداخل العربي ونحو الخارج الدولي، بعيدا عن الإعاقات المحورية العربية، وتكتلات تحقيق مقتضيات مصالح السياسي الحاكم قبل أي اعتبار اخر، لذا أصبح تباعد المنابر الثقافية وتبعثر جهودها وتفرقها أمام تجزئة الاستقطابات التثاقفية العربية جغرافيا وابداعيا، على مستوى القطر العربي الواحد والاقطار المتعددة، يستثنى من ذلك قيام بعض دور النشر العربية في تأكيد وحدة التثاقف العربي بالمطبوع المتداول عابر حدود القطر، وكذلك بعض مسابقات الجوائز التشجيعية الفصلية والسنوية، وهي جميعها لاتفي بالغرض والهدف من إشاعة وبناء تثاقف عربي متبادل ومتكامل في مجالات المنجز الثقافي والفني المنوع.

نقول أصبحت المنابر الثقافية الجادة غائبة امام رواج بضاعة ( كانتونات) ودكاكين الثقافات العربية المتعددة التي تمجد كل منها وترفع من ارادة هذا الحاكم دون غيره، وتحتكم بأمره، وتسير بمشيئته، وتتمول بعطاياه وهباته .فهي صاغرة مطيعة تعادي من يعاديه السياسي وتعمل على وفق أجندات سياسية متباينة في تقطيع وشائج التواصل والتكامل والتثاقف العربي لان في ذلك تنفيذ إرادة السياسي.وبخلافه –وهو ما يتكرر في اكثر من بلد عربي واحد- في التمرد على سلطة ووصاية الحاكم السياسي عندها تكون المنابر الثقافية الجادة ومبدعيها يضعون انفسهم تحت طائلة غضب الحاكم ومساءلة أجهزته الحكومية القمعية .هذا هو مشهدنا السياسي الثقافي العربي السائد. انقسامات الايدولوجيا العربية السياسية الحاكمة في دهاليز صنع القرار السياسي، والأجندات الاستقطابية والتكتلات والمحاور على مختلف انواعها ومشاربها، والتدخل في شؤون الدول العربية الأخرى بمختلف الوسائل والسبل، كل هذا جعل من الثقافة العربية وخطابها التثاقفي غير المتكامل عربيا، منقسما على نفسه عدة مرات، وخطابا مؤجلا مغيبا، كما جعل اختلاف السياسي من وحدة مسارات الثقافات القطرية العربية خاطئا وعقيما على مستوى التحقق الإبداعي داخليا والحضور الحضاري خارجيا، كما جعل من سبل تفعيل التبادل والتكامل والتثاقف العربي العربي سبلا غير مجدية لاضوابط مؤسساتية نظامية ترعاها، ولا فعاليات مجمتعات مدنية او غيرها مسموح لها ان تخدم تطورها وتقدمها.فهل من الغرابة ان نجد الثقافة العربية ومشروعها البيني العربي الثقافي رهينة محكومة بالسجن الانفرادي المؤبد داخل القطر العربي الواحد. وليس معنى هذا انه بات بالضرورة او بالمطلق حرفيا ان ثقافات جميع الاقطار العربية ومنجزاتها ومشاريعها التكاملية هي عجينة طيعة يشكلها الحاكم بيده كيف يشاء اذ لانعدم وجود استثناءات متمردة رافضة لكل اشكال الوصاية على الثقافة والمثقفين، لكنها محكومة بخصوصية عوامل كل قطر عربي لوحده، وفي كل الأحوال تبقى المحاولات الجادة في تحقيق مشروع تثاقفي تكاملي عربي بيني بين معظم الأقطار العربية، وصولا لهدف توحيد الخطاب الثقافي داخليا وخارجيا، ومن ثم تأكيد وحدة هوية الثقافة العربية المعاصرة .ويبقى ذلك من الأهداف المصيرية الهامة، وعلى المنابر الثقافية القطرية الموزعة الجادة السعي الحثيث على طريق بناء هذا المشروع البيني العربي فهو بداية مشروع حضاري للثقافة العربية. وللحد من إشكالية عرقلة المشروع التثاقفي عربيا لابد من التوجه والعمل وبدعم حكومي ومؤسساتي إن أمكن او بدونهما، في ضرورة خلق المشتركات التثاقفية، وتجميع الطاقات الموزعة وابراز فعالياتها وتأثيرها، كما ان السعي إلى توحيد الجهد السياسي المؤثر في بعض الأقطار العربية المتعاون مع الجهد التثاقفي والتكامل الإبداعي بما من شانه إعطاء دفع تعجيلي لمشروع التثاقف في حرية الحركة والامتداد خارج القطر العربي الواحد، والاستقلالية المهنية في تلاقيه وتكامله مع نظائره من الطاقات على امتداد الوطن العربي. وان جهود المؤتمرات والمهرجانات المحكومة حاضرا بهيمنة السياسي وتوجهاته، في حال تخلصها من الأمراض المزمنة يمكنها من خلال تلك اللقاءات والمؤتمرات من بلورة المشروع التثاقفي العربي.ويأتي بداية أهمية تطوير عمل هذه المؤسسات بالمقترحات التالية وغيرها من الإمكانات العديدة المتاحة :

• الاستفادة من مصالحة السياسي مع الثقافي، أي مصالحة الفكر السياسي الحاكم وغير الحاكم مع الفكر الثقافي والإبداعي الفني داخل القطر العربي الواحد، والاستفادة من الدعم الحكومي في حال توفره لبناء المشروع التثاقفي العربي.

• الاقرار باستقلالية الفكر السياسي عن الفكر الإبداعي ليس على مستوى البناء المعماري الفني والجمالي بل وعلى مستوى الفعالية التثاقفية في المحيط العربي وان العمل الثقافي مع السياسي هو عمل تكاملي في تحديث بنية المجتمع من كافة النواحي، ثقافيا اقتصاديا سياسيا، والإبتعاد عن منطق وإستراتيجية التضاد المستحكم المزمن بين السياسي والمثقف.

• إشاعة روح التعاون وتوحيد الجهود في عمل الاتحادات والمؤسسات الثقافية العربية، ونبذ نزعة الاختلاف واختلاق الازمات، وعدم شحن المهرجانات واللقاءات والمؤتمرات الثقافية بالمقاطعات غير المبررة، وتغليب المناكدات بلا سبب معقول.

• التخلص من نزعة الاقصاءات والتهميش الثقافي لهذا القطر العربي اوذاك ماخوذا بجريرة السياسي، فلا تخلو توصية ختامية لمؤتمر عربي من تجديد مقاطعة قطر عربي اواكثر، فالاقصاء والتهميش لاي قطر عربي ثقافيا يقوم اليوم على سند ارادات سياسية في وضع شروط تعجيزية مسبقة ومختلقة، في حين كل ذلك لاتوصي به ولا سبقت ان عملت به مؤتمرات الاتحاد العربي لان في ذلك خرق واضح لثوابت توحيد الثقافات العربية المجزاة وليس في مثل هذه الممارسات جدوى على وضع تاسيسات راسخة لمشروع تثاقف عربي والاعلاء من شان هوية الثقافة العربية.

 

علي محمد اليوسف

........................

هامش

 (1) د. عبدالرزاق الدواي، عالم الفكر،  مج 41، ع 2،  2012 الفلسفة والثقافة في عصر العولمة ص 117 .

 

في المثقف اليوم