قضايا

الاشكالية الخلافية في عولمة اللغة الانكليزية ثقافيا

ali mohamadalyousifمقدمة البحث: تناولت في هذا البحث الاشكالية الخلافية في عولمة اللغة الانكليزية ثقافيا، هل هي حقيقة واقعة من العبث محاولة الاستغناء عنها، ام هي محاولة اورو – امريكية، بامكاننا دحضها وايقافها من ان تصبح تمثل احد جوانب تصدير مفاهيم العولمة كما في ظاهرات عولمة السياسة والاتصالات والتكنولوجيا المعقدة،والمعرفة والمعلوماتية،عالجتٌ قدر المستطاع وبسطتٌ موضوعة تعالق اللغة الانكليزية في ما يعرف بمصطلحي الغزو الثقافي العربي، والاختراق الثقافي العولمي، كأنماط تأثيرية مرتبطة بالمقولات الفكرية والفلسفية لما يراد من عولمة اللغة الانكليزية على كافة سكان وامم وشعوب العالم اليوم، ومايراد للانكليزية كلغة و اساليب حياة من هيمنة في جعلها لغة التابع "المركز" بالمتبوع " الاطراف " .

ومن تحصيل حاصل تاثير الانكليزية الازدواجي في تداخلها العميق بعملية الخلق الابداعي في الاجناس العربية الادبية والفنون، كما في الشعر، والقصة القصيرة، والرواية، والمسرح، و التشكيل الفني "الرسم والنحت"، فألادباء والمثقفين العرب يستقبلون الانكليزية في تحديث معارفهم وتجاربهم الادبية والفنية بطريقتين، منحى التعرف على التجديد الحداثي ومدارسه  وفلسفته اما بتعلم واجادة اللغة الانكليزية قراءة و كتابة، او بالاطلاع المعرفي الثقافي المستمد من الكتب المترجمة المعربة عن مصادرها الانكليزية والفرنسية وغيرهما من لغات اجنبية.

من جهة ثانية فإن انتقال الانكليزية من مرحلة الغزو الثقافي ممثلا في استنساخ اساليب ومفاهيم ومدارس الحداثة الغربية، ومحاولاتنا تطويع كل معطيات ثقافتنا العربية، واجناسها الادبية لتلك المفاهيم الحداثوية بكل ماتحمله من سلبيات تصادر كل الجوانب الايجابية، باتت مسألة خلافية شائكة دارت مناقشتها واستغرقت مايقرب النصف قرن من الاخذ و الرد، من دون حسم شافٍ .

كذلك تناولتُ المؤثرات الاختراقية للغة الانكليزية على صعيد التعليم والتربية في مراحلها ماقبل الجامعية، وتاثيرها الذي ليس بمقدورنا مواجهته او رفضه، في اعتمادنا انتشار الانكليزية ليس على صعيد التعليم الجامعي العلمي و حسب، وانما على صعيد ادارة المصارف ومؤسسات الاقتصاد والسياسة، وتغلغل التكنلوجيا في مرافقنا الحياتية، وهيمنة النمط الاستهلاكي وتقليده، بل التطرف به، كذلك اصبحت الانكليزية والى جانبها باقل درجة الفرنسية في التعليم الجامعي وفي إرسالنا البعثات الدراسية للخارج بالمئات سنوياً، يجعل من الانكليزية لغة " أم " في التحصيل العلمي، اكثر من فاعلية لغة الام " العربية " في مجال استيعاب العلوم المتطورة الضرورية في رسم معاصرتنا للعالم .وهي مسألة لا غنى لنا عنها في ان نتقبل الانكليزية كلغة أم في التحصيل العلمي والمعرفي.

اجد هنا انه لاغنى لنا عن القبول باللغة الانكليزية و الفرنسية وغيرهما كلغات تحصيل علمي، وان نتخذ من لغتنا العربية لغة سلوك اجتماعي وهوية وتفاهم،وثقافة متبادلة في جميع اقطار الوطن العربي، وبغير ذلك نبقى نراوح بين الهوية والمعاصرة الى امد طويل قادم، وهذا يعني الانتحار البطيء الإرادي لأن في التهميش غير المقدور ايقافه عربياً للانكليزية وغيرها من لغات العالم المتحضر يجعلنا نعيش أكثر على هامش المعاصرة وعدم الاسهام في صناعة التاريخ الانساني الحضاري.

ان في اعتمادنا الانكليزية لغة تحصيل علمي في مختلف انشطة تحديث المجتمعات العربية، رغم دفعنا لضريبة التحديات التي تواجهنا كجانب عرضي مهم لهذا التوظيف للغة الاجنبية، في تهديدها طمس بعض الملامح الهوياتية الخاصة بنا، وكذلك في تهجينها بعض خصوصيات مجتمعاتنا العربية، التي يتوجب علينا ضرورة المحافظة على سماتها ومميزاتها الثقافية والتراثية والحضارية، وقد جرت مناقشة هذه الاشكالية الخلافية في احد مواضيع كتابي بعنوان (اشكالية الثقافي/مغايرة التجاوز والتجديد).

وفي ذات الموضوع اشرت الى تجارب دول مثل الهند وبعض دول اسيا و افريقيا وامريكا اللاتينية، ودول جنوب شرق اسيا، فهي تعرضت الى غزو ثقافي، واختراق ثقافي مزدوجين في توظيفهم اللغة الانكليزية كلغة تعامل يومي اجتماعي الى جانب اللغات الام لديهم، وبعضهم جعل من الانكليزية ليس لغة تحصيل علمي على مستوى التعليم الجامعي فقط، وانما في اعتمادها رغما عنهم كلغة ادارة مجتمع في مختلف نواحيه، عليه تكون الانكليزية وسيلة تحديث بالنسبة للمجتمعات العربية لا نمتلك ازاء رفضها او الامتناع عن استخدامها حق الاختيار فهي الوسيلة المتقدمة التي تصلنا بالعصر ومعايشة التطور عالميا .على صعيد تطوير العلوم الجامعية واستيعاب بعض حلقات التكنولوجيا المتطورة والمعارف الحديثة .فأين سيكون موقع لغتنا العربية من هذا التحديث العولمي .هذا ما اردت الاجابة عنه في البحث المرفق.

التداخل الوظائفي -المعرفي والهوياتي للغة العربية

بدءا اود التنبيه ان مفهوم (الاختراق الثقافي) هو مفهوم تداولي عصري عولمي، أخذ حيز التنفيذ عالمياً، متجاوزا ما سمي بالغزو الثقافي، واحيانا يمهد الغزو الثقافي الطريق لتمرير الاختراق الثقافي، وفي بعض التجارب الدولية للشعوب المخترقة ثقافيا، يأخذ كل من الغزو الثقافي والاختراق تأثيرا متلازما متكاملا في تعضيد هيمنة وظيفة احدهما للآخر وتحقيق هدف التبعية الثقافية حول التمركز الامريكي العولمي.

وأجد منذ البداية، وهي وجهة نظر خاصة، ان عولمة اللغة الانكليزية ثقافياً – حضارياً، هي حتمية وضرورة تاريخية بالنسبة لاقطار الوطن العربي من الصعب الخلاص منها بسهولة، قبلوا ذلك أو رفضوه، ومن المرجح ان الاختراق الثقافي للوطن العربي بات واقعة ثقافية يجري تنفيذها، وهو يستتبع عولمة السياسة والاقتصاد المفروغ منهما عربيا.

وعن واقعية الاختراق الثقافي للوطن العربي يجمل المفكر محمد عابد الجابري اسبابا ثلاثة عامة هي: اولا تعرض العالم بما فيه اوربا نفسها لاختراق ثقافي أمريكي، ثانيا هي ان العالم غير الاوربي وفي مقدمته الوطن العربي معرض لاختراق ثقافي مركب ومضاعف، أمريكي، أنكليزي، فرنسي، ثالثا التنافس على اختراق العالم الثالث ثقافيا من طرف امريكا من جهة، وأوربا من جهة ثانية.

وبعد تراجع الغزو الثقافي الانكلو – امريكي للوطن العربي الذي اصبحت وسائله بعد عصر تكنولوجيا الالكترونيات، ووسائل الاتصال السمعية البصرية، من أرساليات تبشيرية، ورحلات استكشافية، واستشراق، وسينما، وآداب وفنون وتراجم اصبحت كلاسيكية التأثير، وأمست في معظمها من مخلفات عهود التبعية الاستعمارية ونتائجها، اذ اصبح البلد المغزو اقتصاديا وسياسيا يكون بالضرورة مغزواً ثم مخترقا ثقافيا. وقد جاء مفهوم الاختراق الثقافي المصاحب للعولمة في ميادين السياسة والاقتصاد والاتصالات والمعلوماتية، وتكنولوجيا الانترنت المعقدة، والاستفراد الامريكي بالعالم بداية القرن الواحد والعشرين، تهديداً مباشراً كما اشرنا لمعظم أرجاء العالم بقاراته ودوله، حتى الدول الأوربية مشمولة بالاختراق الثقافي الانكليزي اللغوي الأمريكي، ومفهوم الاختراق الثقافي في التطبيق والتنفيذ لا تقتصر اشتمالاته في عولمة التعليم الجامعي بالانكليزية، وفي الثقافة والآداب والفنون حسب، وانما يتعدى ذلك ليشمل تعميم النموذج الامريكي في مظاهر الاستهلاك اللامعقول، ومجالات الترفيه العام، والتسلية وقضاء اوقات الفراغ، وتقليد الازياء وموضات الزينة رجالا ونساءا، وتحضير الذهنية والذوق العام لتقليد النموذج الامريكي السائد سلوكيا في كل شيء تقريبا.

الا ان اهم عامل في الوصول الى ماذكرناه، يعتمد عولمة اللغة الانكليزية، وجعلها وسيلة مركزية في مستلزمات الحياة، وعولمة تبعية الشعوب الثقافية بالتعامل الوظائفي الاستخدامي لها، ربما باكثر من اعتماد اللغات الوطنية الام في المجتمعات المخترقة.

وفي مثالٍ عابر صرح اكثر من مسؤول استراتيجي بريطاني وامريكي في نبرة نشوة استعلائية الى ان ما استطاعت اللغة الانلكيزية تحقيقه في الغزو الثقافي والاختراق لبلدان في جميع انحاء العالم على امتداد التاريخ الحديث والمعاصر، بدءا من الاستعمار القديم وصولا الى عصر العولمة، هو اكبر انجاز حضاري يحسب لكل من بريطانيا وامريكا حققتاه بنجاح. ونتيجة ذلك لم يعد عالم اليوم بمقدوره الاستغناء عن اللغة الانكليزية في تمشية مجمل امور الحياة، وتواصل الشعوب وعلاقتها بالآخر على كافة الصعد والاشتمالات التمدينية، وان اللغة الانكليزية الامريكية غدت لغة التواصل الوحيدة على النطاق العالمي. واجبر ذلك دولا عديدة في اوربا واسيا وافريقيا وامريكيا اللاتينية واستراليا ذات التنوع الاثني الديني الثقافي، اعتبار تعاملهم بالانكليزية لا غنى عنه، وبعض هذه البلدان لم تكتف مرغمة ادخال اللغة الانكليزية في مراحل التعليم وصولا للجامعي، وانما ادخلت الانكليزية في ادارة مؤسساتها الاقتصادية والسياسية والثقافية، وتعمق هذا الاعتماد على الانكليزية لدى الشعوب المخترقة حتى اصبحت جزءا لا يتجزأ من الثقافة المجتمعية الوطنية العامة، واصبح التداول بالانكليزية في تلك البلدان تحصيل حاصل تبعيتها السياسية والاقتصادية لبريطانيا وامريكيا قديما وحديثا.

الا ان عولمة اللغة الانكليزية كلغة حياة متداولة عالميا، متسيدة متفردة، اصطدمت أوربيا بعقبتين رئيسيتين : الاولى هو استحالة دمج وترجمة وصهر لغات جميع او اغلب البلدان الاوربية العريقة، المتباينة المختلفة ثقافيا، فهي تمتلك حصانة في عدم الاستجابة للاختراق الثقافي الامريكي، كما هو الحال في بعض جوانب السياسة والاقتصاد، بما اصبح على انكليزية الامريكان امرا عصيا على التنفيذ ألاختراقي. ورغم كل هذا الاستهداف فأن، دول اوربا تعمل ضمن السوق الاوربية المشتركة، وفي الاتحاد الاوربي على تعميق استقلاليتهما وتحصين نفسيهما ضد العديد من مجالات تعميم اختراقات العولمة الامريكية، بالخصوص عولمة اللغة الانكليزية وتوظيفها الثقافي الاختراقي اوربيا.

من الواضح ان دول اوربا الغربية لديها اعتزاز بخصوصياتها الثقافية، وبمواريثها الحضارية، وكذا الحال مع دول اوربا الشرقية، فهذه لديها خصوصية ثقافية مميزة عريقة، قبل ضمها تحت هيمنة النظام الشيوعي في الاتحاد السوفيتي القديم، والامر الاخر ان هذه الدول سبق لها تجربة حين عجزت الشيوعية عن صهر وادماج الملامح الثقافية الحضارية والاثنية والدينية المنوعة الأصيلة لتلك الشعوب، في بوتقة ثقافية يتزعمها الروس في حكم الاتحاد السوفيتي.

صحيح نجد اليوم ان بعض شعوب اوربا الشرقية بعد خلاصها من النظام الشيوعي، اخذت (تتأمرك) في تقليد النمط السلوكي الثقافي والاجتماعي في مظهري (الموضة) و (الاستهلاك) فقط على الطريقة الامريكية، وتأثير هذين المظهرين في عمق التوجه الثقافي الاستراتيجي لتلك البلدان محدود الفاعلية والعمق الاختراقي، لان اوربا الشرقية عموما ينقصها الثراء المادي والمالي في إمكانية تقليد ومجاراة النموذج الاستهلاكي الامريكي المهووس.

العقبة الاوربية الثانية بوجه الاختراق الثقافي الامريكي، هو فرنسا بكل ثقلها وتاريخها السياسي الثقافي الحضاري، فهي تعتبر نفسها الند المكافئ لامريكا المتقاطع معها في العديد من الامور على المستويات السياسية والاقتصادية وقضايا الشعوب وغيرها، وان كانت المشتركات في التقارب بينهما مهمة وليست معدومة تماما، خاصة في عهد الرئيس السابق (نيكولاي ساركوزي) فنجد فرنسا تعمل ضمن الوحدة الاوربية السياسية و الاقتصادية، وهي ايضا مع توحيد العملة (اليورو) رغم التحفظ البريطاني الممتنع عن دمج وتوحيد الجنيه الاسترليني بالعملة الجديدة (اليورو) وتوحيد العملة في اوربا الاتحادية, ولاحقا انفصالها عن الاتحاد الاوربي.

لكن فرنسا تمتلك استقلالية ثقافية وتحصين حضاري متوارث يصعب معه عولمة الاختراق الثقافي معها بطواعية وتابعية، فهي تنظر لنفسها باعتزاز ثقافي حضاري، يفوق بتقديرها وهي محقة بذلك الوافد العولمي الثقافي الامريكي الذي يحاول استهدافها، بالقياس لعراقة وتاريخانية اللغة الفرنسية، ان لم يكن بعد الثورة الفرنسية عام (1789 – 1799م)، فقبلها او رافقها ايضا ابان الحروب الفرنسية الانكليزية، وحروب دول اوربا قاطبة مع بعضها البعض كالالمان والطليان والهولنديين والاسبان...الخ وكذلك ما فعله الاستعمار البريطاني لامريكيا (1607م)، وما خلفه وراءه من حروب اهلية امريكية، وحرب تمييز عنصري قاس بين السود والبيض امتدت حقب وسنين طويلة.

مايهمنا كعرب في عولمة اللغة الانكليزية نشير الى سوريا البلد العربي الوحيد بحسب علمي الذي اقدم على خطوة تعريب التعليم الجامعي، ونجحت بذلك نجاحا (نسبيا) في تحقيق مادون المطلوب، وتلبية الطموح، بما لايشجع الدول العربية الاخرى الحذو والاقتداء بالتجربة السورية، ويرجع المؤرخ اللبناني أحمد بيضون ان التعريب في بلاد الشام بدأ قبل الاسلام اذ حلت اللغة العربية محل الارامية والسريانية. والتعريب الجامعي في سوريا او غيرها من الاقطار العربية لايحل ولا يلغي مشكلة وعقدة ضغوطات عصر العولمة علينا، ورغبة وضرورة افادتنا من التقدم العلمي والتكنولوجي الامريكي والغربي عموما، وحتى الاجنبي من اليابان والصين وكوريا الجنوبية. ولن يكون التعريب الجامعي عامل مساعد، ولا بمقدوره ان يبطل فاعلية واهمية تواصلنا الثقافي والحضاري مع الاخر، سواء بعولمة الانكليزية او الفرنسية، وان كانت سوريا حققت في التعريب الجامعي خطوة متفردة عربيا كانت تحصينا ثقافيا على مستوى الداخل المجتمعي فقط من الاختراق الثقافي، كما يمكننا الاشارة بالمثل الى تجربة الجزائر في التعريب مجتمعيا داخليا ايضا لمراحل التعليم عندها ولم تتقدم باتجاه تعريب التعليم الجامعي بعد الاستقلال الوطني فالفرنسية لغة أم في التحصيل العلمي والافادة المعرفية حضارياً.

وما هو جدير بالاشارة ايضا ان عامل اللغة العربية تحديدا مع بدايات ما يعرف بعصر النهضة العربية، وقبلها وعلى مر عصور طويلة بقي فاعلا في الحفاظ على الهوية العربية، وخصائص الذات الحضارية التراثية الاسلامية، ليس دينيا فقط عن طريق تلاوة وتداول وشرح وتفسير سور وآيات القرآن الكريم فقط، وكذا الحال مع فتح وانشاء المدارس الحديثة في مراحل التعليم الابتدائي خلفا لما كان سائدا (الكتاتيب).

بقيت كل من اللغتين الانكليزية والفرنسية ابان الاستعمار القديم، لغة (نخبة) سياسية حاكمة مع حاشيتها طارئة غريبة في معاملتها معاملة الاحتلال الاجنبي للبلد والوصاية عليه، بمعنى ان الغزو الثقافي للانكليزية والفرنسية استقطب فقط، بعيدا عن المجتمع الطبقة الاقطاعية الغنية المتحالفة مع مصالح الاستعمار، تسندها في ذلك تحالف برجوازية راس المال العربي الناشئ، وهذه النخبة كانت المستفيد الاول والاخير من الغزو الثقافي ألاختراقي الذي ساد العصر آنذاك. ولم تستطع اللغتين الانكليزية والفرنسية ان تحلا محل اللغة العربية وتوظيفهما بالتعامل التعليمي الثقافي مجتمعيا، باستثناء إرسال البعثات الجامعية. وباستثناء انشاء وبناء معاهد وجامعات فرنسية وأمريكية في بعض الأقطار العربية أيضا، ليس فقط لان الانكليزية والفرنسية لغتان مرفوضتان وطنياً وحسب، ولكن كون المجتمعات العربية وقت ذاك تتفشى فيها الأمية الأبجدية والثقافية بشكل كبير، عليه كان من الصعب على لغة أجنبية استيعاب المجتمع اختراقيا ثقافيا، ويبقى اثر زرع بعض المعاهد الفرنسية والجامعات الأمريكية في بعض أقطار الوطن العربي هو تحقيق غزو ثقافي بانت آثاره بعد الاستقلال الوطني لاحقاً.

وكل هذا التحصين القديم لا يمنحنا اليوم تفويضا عقلانيا بعد مرور أكثر من مائة عام في سيرورة وتطور المفاهيم المعرفية من حولنا في الثقافة والأدب والفنون وأساليب الحياة، في أحقية ومشروعية انكفائنا الذاتي وتقوقعنا الثقافي عن مسايرة واللحاق بالركب العالمي في التقدم العلمي والتكنولوجي والاتصالاتي، وتبادل القيم والحوار الحضاري مع الاخر في عصر العولمة في محاولة إلغاء الانكليزية كمصدر تثاقف حضاري.

ورغم اننا نقوم ومنذ عشرات السنين بانفتاحنا التام على ادخال الانكليزية ترافقها الفرنسية في مناهج التعليم عندنا وفي جميع اقطار الوطن العربي، وعن طريق ارسالنا البعثات الدراسية الى الخارج، فلا زال الانغلاق والتحسب والقلق قائما على صعيد التحصين الثقافي من الغزو والاختراق للحفاظ على خصائصنا المميزة قوميا وفي مقدمتها محافظتنا على لغتنا العربية، وهذا يعطي للطرف المتسيد (المركز) انطباعا زائفا باننا كعرب غير جديرين بأدنى اسهام فاعل في صنع الحضارة العالمية، في مخافتنا الافادة من جوانب عولمية ايجابية قد يأتي بعضها في ان تصبح تلك الايجابيات بمرور الوقت في تعاملنا الانفتاحي عامل مراجعة نقدية عصرية، ثقافية حضارية شاملة لجميع موروثنا، ونقده وتشذيبه بعقلانية، لا تقبل بها ايديولوجيات سياسية متطرفة متنفذة، وقوى سياسية لا تفهم التعاطي مع العصر باكثر من استيراد ديكور الحكم. وجانب التحاور الثقافي مع الاخر يكون بايجابياته المتوقعة، اكثر من سلبياته الحتمية التي تعتبر هامشية وغير ذات قيمة حقيقية، قياسا بالمنجز المرجو والمتحقق في معايشتنا للمعاصرة والعالم علميا وثقافيا.

ونحن بالتأكيد ليس بحاجة الى تزكية تأتينا من أحد، لكن يبقى ما تطرقنا له عامل مهم في ان نجد على سبيل المثال توماس فريدمان الفيلسوف الامريكي المعاصر يستثني العرب من أي اسهام حضاري مستقبلي للعرب في صنع الحضارة العالمية المعاصرة – لا تكفي هنا ردود الافعال الانفعالية بالرد – ويعزو ذلك مخافة العولمة الامريكية من تحقيق اختراق ثقافي عربي حضاري، هو بالاصل مسبوق بعولمة سياسية اقتصادية لاقطار عربية عدة، ان لم يكن جميعها، زاعما فريدمان ان هناك اسبابا كامنة في صلب ثقافتنا العربية تحول بيننا وبين تحقيق ذلك الاسهام، مستثنيا (العربية) من ضمن ثقافات عالمية كالصينية والهندية متهما العربية بانها ثقافة منغلقة بصورة مترسخة تعوق انفتاحها على الفضاء العالمي، وما يتيحه من فرص متساوية للمشاركة في صنع حضارة العصر، فالعالم كما يزعم فريدمان قد صار سهلا مسطحا بفعل العولمة، خاليا من كل ما يعوق المشاركة والتعاون في ظل جو من حرية المنافسة وتكافؤ الفرص( ).

بالعكس من هذا يرى المفكر الجابري: ان العولمة الراهنة هي ايديولوجيا تطمح احتواء كل انشطة الانسان وممارساته وعلاقته وافكاره وقيمه ومعتقداته، وأمور تنميته، وصحته، وشغل اوقات فراغه بالاضافة الى كل ما يتعلق بالسيادة والهوية وحقوق الاقليات والملكية الفكرية، والعولمة بحسب الجابري ليست آلية من آليات التطور الرأسمالي، بل هي ايضا ايديولوجيا تعكس ارادة الهيمنة على العالم.

نخلص فيما يهمنا عن دور اللغة العربية امام الاختراق الثقافي الامريكي في توكيدنا للذات العربية من جهة، والانفتاح المعاصر لتلافي نقصنا في مجال العلوم بجميع اشتمالاتها والتكنولوجيا المعاصرة الالكترونية المتصاعدة من جهة اخرى، هي في ان نحتذي ونستفيد من التجربة الهندية، اذ كما هو معلوم ان بريطانيا استعمرت الهند (1858- 1947م)، اي مائة عام تقريبا،لم يبق من يعرف الف باء القراءة والكتابة عندهم، لا يجيد التحدث بالانكليزية لكن مع كل ذلك بقيَ المجتمع الهندي محافظا على موروثه الحضاري، ومرتكزاته الفكرية الثقافية، وحتى الدينية المتعددة بين المسلمين والهندوس والسيخ، في اعتمادهم اللغة الهندية الام وفروعها الاثنية لغة تعامل محلي يومي اجتماعي صرف، وفي مختلف شؤون الحياة، والدوائر الحكومية، ومع كل ذلك اعتمدوا الانكليزية بعد رحيل المستعمر لغة تبادل وتكامل حضاري وعلمي وثقافي مع العالم. ويمكننا التعميم اكثر بالاشارة الى بلدان اخرى مشابهة للهند في تجربتها (اللغوية) الحضارية، تمتلك تنوعا دينيا واثنيا يفوق التنوع الهندي باضعاف واكثر مثل (إندونيسيا)، وكذا اليابان وكوريا الجنوبية، كما يوجد امثلة مخالفة سيأتي التطرق لها لاحقاً، ففي سنغافورة على سبيل المثال كما يذكر الاستاذ سليمان العسكري استطاع الاختراق الثقافي الذي استقطبته اللغة الانكليزية الى ان تصبح سنغافورة بأيدي المهاجرين اليها بالكامل.

يذكر المفكر الجابري ان لغات شعوب العالم مقدسة وليست محترمة فقط. ويضرب لذلك مثلا انه في زيارته لليابان، وجد اعتزاز اليابانيين بلغتهم اكثر من اعتزاز العرب بلغتهم، وكمظهر واحد فقط للتدليل على ذلك اشار الى ان اليابانيين في الندوة التي حضرها، والتي كانت الانكليزية اللغة الرسمية في اعمال الندوة كانوا يتدخلون كلهم باليابانية، ويتركون الترجمة الفورية، لتترجم كلامهم الى الانكليزية او العربية، هذا في حين كان جميعهم يتكلمون الانكليزية، وحين وضعوا الواح الاسماء على طاولات الندوة كتبوا اسماء اليابانيين باليابانية وحدها، واسماء الوفود الاخرى بالانكليزية، فعلوا ذلك من دون أي شعور بالنقص، ومن دون أي شعور بالتقصير في حق الضيوف وهم جميعا لايعرفون اليابانية. ويروي انه كان في زيارة الى اسبانيا وطلب مكالمة هاتفية من بدالة القسم الدولي وكان يتحدث بالفرنسية، فاجابته موظفة البدالة: انت الان في اسبانيا وعليك التحدث بالاسبانية وقطعت الخط.

فهل يحذو العرب امام خطر تحسب الاختراق الثقافي العولمي ان لم يكن قائما الآن حذو سوريا في التعريب غير الكامل وغير الناجح، وما طرحته الجامعة العربية في مقترح النظر بتعريب مناهج التعليم بمراحله كافة؟ وهو طريق صعب محفوف بالمخاطر وسلبياته تطغى على ايجابياته في افتراض نجاح التطبيق والتنفيذ، وهو يقود حتما الى الانزلاق في التقوقع والانغلاق عن التواصل ثقافيا بالعالم، وفي ابقاء مراحل السبق العلمي الحضاري الثقافي للغرب علينا الى مديات اوسع من الحالي، تكبر وتتوسع بمرور السنين بما يضعنا على هامش التاريخ الحضاري الحي المتطور في العالم من حولنا، اكثر مما نحن فيه.

نجد وهو مقترح ان اعتماد وتوسيع السائد حاليا في معظم البلدان العربية، بأن لغة الوطن العربي الام في داخل الاقطار العربية، يجب ان تكون غيرها لغة التخاطب والتعامل الحضاري مع الاخر، ونتقبل بحكم الضرورة اللغة الانكليزية او الفرنسية المرادف التكميلي للعربية في تسهيل تعاملنا مع العالم الخارجي، وان نتعامل مع الانكليزية لغة اتباع علمي حضاري في تعاملنا مع دول العالم، واكتسابنا مقومات المعاصرة والتحديث، وتبقى في هذا المنحى الانكليزية ليست لغة اختراق مجتمعي داخلي، يضيع الهوية المحلية والقومية، ويفرط بالذات الثقافية. والغاء خصوصيتنا الذاتية الحضارية من خلال اختراق الانكليزية ثقافيا، وهذا احتمال غير مرجح ولا يكتسب مقبوليته، كون اللغة العربية محصنة بارتباطها الوثيق، بلغة القرآن الكريم وكذلك في العربية لغة الفصحى في الكتابة والقراءة وسيلة اتصال العرب اللغوي والثقافي في أوطانهم مع بعضهم الاخر مما يبقي اللغة العربية، لغة ادب وثقافة محلية وطنية قومية دينية، تستوعب لهجات الاقليات والطوائف من جهة وتحتوي ايضا اللهجات العامية التخاطبية في الكلام اليومي وهذا يجعل من تعاملنا مع دور اللغة الانكليزية لغة خطاب علمي وتبادل ثقافي حضاري ومعرفي معاصر مع الاخر المسبوقين عنه بمراحل زمنية تاريخية طويلة للحاق بركب تقدمه المتصاعد بالايام، مسألة ضرورية لاغنى لنا عنها.

في دول مجلس التعاون الخليجي العربي الوضع مختلف تماما بما تحدثنا عنه من التحسب العقلاني للاختراق اللغوي الانكليزي مجتمعيا، ففي مقال افتتاح رصين للدكتور سليمان العسكري تحت عنوان (اقتلاع الجذور وتنمية الضياع)، مجلة العربي العدد 647 – تشرين الاول 2012 تحدث الاستاذ العسكري بالارقام والشواهد المحزنة والمرعبة عن مسألة الاختراق الثقافي في دول مجلس التعاون الخليجي، وفي مثال يسوقه ان اللغة الانكليزية اصبحت في مجمعات منعزلة للوافدين من غير العرب في البحرين وعمان وقطر والامارات والسعودية، لغة رسمية من التعليم الابتدائي وانتهاء بالمدارس الخاصة، وبمرور الوقت تنامى نفوذ وهيمنة المجتمعات الوافدة المنعزلة بما جاء على لسان الاستاذ العسكري انه (سينمو في دول الخليج العربي، مجتمع بلا هوية، متعدد الاثنيات، تحتفظ كل مجموعة بهويتها وانتمائها الاصلي، تحت مظلة اللغة الانكليزية الجامعة).

واذا ما كان الاختراق الثقافي للانكليزية مقتصرا على التبعية الخليجية والعربية عموما على مستويين، الاقتصاد، واقتصاد النفط منه تحديدا، والانفتاح العلمي على الغرب في البعثات والتعليم العالي، فإن ما تشهده دول الخليج العربي من اختراق لغوي ثقافي اجتماعي هجين من وافدين هنود، باكستانيين، وبنغلادشيين، فليبين، تايلنديين، صينيين، يمثل اخطر اختراق ثقافي داخلي، اذ تراجعت اللغة العربية الى المرتبة الرابعة في بعض بلدان الخليج، كما يشير الاستاذ العسكري، بعد الانكليزية والهندية والاردو، حيث يشكل هؤلاء الوافدين نسبة 40 – 70 بالمئة من مجموع السكان وحصولهم على حق التملك العقاري الذي يمنحهم الاقامة الدائمية. فأصبحت الانكليزية في دول الخليج لغة تعليم جامعي ولغة ادارة اعمال ومؤسسات مجتمعية واختراق ثقافي بامتياز.

 

علي محمد اليوسف/الموصل

 

في المثقف اليوم