قضايا

مسار التاريخ الواحد

ali mohamadalyousifلم يكن الرأي دقيقا بأن الحياة تأخذ مسارات محددة يرسمها ويشترطها بقسر والزام حركتي الزمان والمكان في علاقتهما الجدلية. فالزمان السرمدي الممتد إلى ما لانهاية يمثل علة حركة المكان والكون وما يطرأ عليهما من تغيير وتبديل مستمرين . كذلك بدون الحيز المكاني، كينونة الطبيعة والوجود الانساني لايمكننا ادراك فاعلية الزمن التاثيرية عليه (على المكان والوجود).

ان مسارات الحياة المختلفة المتباينة بعوامل الذاتية والموضوعية كالبيئة ومعطيات العصر مثلا لا تصنعان لوحديهما تاريخا. بل ان للصدفة دورا هاما جدا في صياغة حياة وتاريخ الانسان، بل البشرية عموما، فارادة الانسان مهما كانت بدئية بسيطة في طموحاتها فهي تمثل نزوعا تاريخيا متقدما في مسار تطور الحياة وصيرورتها. كذلك هي حاجات الانسان ورغباته وغرائزه ومداركه العقلية ومعارفه الثقافية والعلمية. واللغة ما هي الا مداميك رسوخ ونجاح الانسان في تطويعه العديد من مسارات الحياة والتاريخ وتحكمه بها من خلال الوصول إلى القوانين العامة التي تطبعها بها وانعكاس كل ذلك طبقا على حياة  المجتمع. ولا يخلو كل ذلك من فاعلية عامل الصدفة إلى جانب عوامل عدة. وذهب الفيلسوف المؤرخ "اشبنجلر" ابعد من ذلك إذ يقول : (ان الانسان مجرد من الإرادة الحرة، إذ ان عليه ان يخضع لمصيره ويذعن فليس الانسان الذي يصنع التاريخ بل ان الحوادث والاحداث هي التي تختار انسانها وتخط  تاريخها).

كذلك فان سبب اختلاف الثقافات وتنوعها بين الامم والشعوب ايضا لا تستطيع الافلات من احكام وتحكم عاملي الزمان والمكان مضافاً لهما كما اسلفنا عامل الصدفة، لكن يأتي في مقدمة تأثير العوامل الثلاثة التي هي عوامل (كونية) دراستنا للانسان، الجزء الاهم الفاعل في الطبيعة كخصوصية ثقافية ولغوية وموروث تاريخي معرفي متنوع وكمحيط جغرافي ديمغرافي كتنويعة مجتمع علميا وحضاريا وتربويا كارادة للتحضر... الخ فمثلا الثقافات الغربية اليوم  بمشتركاتها المتشابهة تقريبا تجعلنا نغلب وصفها بالحضارة أو الثقافة المادية العلمية التي تختلف كثيرا عن معظم الثقافات الشرقية، ذات الهويات المثالية التي من سماتها الافكار الغيبية، الدين والمقدس، الميتافيزيقيا، الروحانيات ... هذه السمات تأخذ جانبا طاغيا في معظم الثقافات الشرقية، اذا ما استثنينا وبتحفظ ايضا اليابان والصين المعاصرتين، واقدم العصور كما في حضارة وادي الرافدين والحضارة الفرعونية وصولا إلى الحضارة العربية الاسلامية، وما يرافقها من اعتياش على موروث ماضوي فقط لايمت للعصر بصلة. ومن هنا يمكننا التسليم بصحة العبارة المقتبسة على لسان الكاتب المبدع سعدون محسن ضمد (ان العرب نظريين اكثر منهم عمليين). ومن الجدير بالذكر ان ما يطبع عصرنا الحاضر حسب احد المفكرين العرب انه:

(قد مضى العصر الذي كان يمكن فيه ان تعيش عدة حضارات في آن واحد، فتوينبي مثلا يعدد ما يقرب من العشرين حضارة انسانية عرفها تاريخ البشرية ومن الطبيعي انه كان بامكان العالم ان يتسع لاكثر من حضارة واحدة في وقت واحد الا ان عالمنا اليوم يصغر تدريجيا حتى يكاد يصبح قرية واحدة، فلقد حولته  وسائل الاتصال ووسائل الاعلام المتطورة إلى مجتمع صغير يكاد يعرف كل من فيه كل مافيه ويكاد كل مافيه يعني كل من فيه، وعالمنا يتجه إلى الاستظلال بظل حضارة واحدة كما تشير كل الدلائل)(2).

ربما توجد انواع من حتمية المسار – سكة حديد – هي التي تختار للانسان موقعه الاجتماعي والعلمي والمهني في الحياة، يساعد في هذا الاختيار المفروض رغبة داخلية يسعى من خلالها الشخص الوصول لهدفه في ان يكون طبيبا مثلا أو مهندسا، فنانا، كاتبا، شاعرا وترفضه مسارات الحياة الاخرى التي هي تكون من حصة الاخرين في ان يكون تاجرا أو عاملا أو موظفا... الخ. برأينا يبقى هذا الامر استثناءات متعددة وليس قاعدة يحكمها قانون عام يحكم الناس والحياة. وقليلون الذين ينطبق عليهم هذا المعيار التوصيفي المهني، فكم مهندسا كانت امنيته في الحياة ان يكون طبيبا ولم يوفق ولم توصله حتمية المسار (سكة الحديد) إلى مبتغاه!؟ وكم طبيبا دخل الطب ومن غير رغبة ولا اهلية حقيقية ولم يكن لحتمية المسار دورا في تحديد مستقبله ايضا ليصبح عالة على مهنة الطب ومستشفياتها!؟ وكم فنانا ومثقفا واديبا يعيشون بين ظهرانينا اليوم وكانت تلك امنيتهم ورغباتهم وحصلوا عليها وكانوا بالنتيجة فنانين وادباء مدعين لامبدعين، ولم تخترهم الحتمية المسار الحياتي، كما ولم تسعفهم قدراتهم الشعرية والثقافية والفنية الا ان يكونوا طارئين ولا نقل فاشلين. اخيرا ورد ص51 من الكتاب : (الانسان يدرك اللون الاحمر مثلا بسبب طبيعة التحسس للالوان الموجودة في عينيه أي ان اللون الاحمر موجود في الطبيعة وبسبب منظومته الادراكية، لكن هذا لا يعني بان الاحمر موجود في الطبيعة وبمعزل عن الانسان ابدا) (هكذا!؟) العبارة غارقة في مثالية فلسفية في تغليب اسبقية الوعي على المادة، ولا مجال لتفصيل هذه الاشكالية الفلسفية لكن نقول ان اللون الاحمر أو الاحمرار غير المدرك من شخص يدركه الاخر أو مجموعة الاشخاص الاخرين وهذا يؤكد ان الاحمر موجود في الطبيعة شاء ام ابى الانسان وبمعزل عنه ايضا ان شاء.

 

علي محمد اليوسف

.....................

الهوامش:

- مرجعية هذه المقالة كتاب (الاوثان) كتاب فلسفي مميز لباحث وروائي عراقي شاب واعد بالكثير، سعدون محسن ضمد.

1. مداخلة في كتاب الاوثان، تأليف سعدون محسن ضمد، منشورات دار الصباح،2006 .

2. د. معن زيادة،معالم على طريق تحديث الفكر العربي،سلسلة عالم المعرفة عدد 115، 1987،ص 47 .

 

في المثقف اليوم