قضايا

الصدفة التاريخية المصنّعة

ali mohamadalyousifاجد كعتبة دخول لموضوع الدراسة ان الصدفة تلعب دورا محوريا مركزيا في صنع حياة الفرد والمجتمع والتاريخ. كما ارى ايضا ان الصدفة نوعان,الاول: صدفة تأتي خارج ارادة الفرد وخارج فاعلية قوانين الطبيعة في فعل التغيير  في صنع المسار التاريخي الانساني. وقد تكون الصدفة ثانيا: صدفة مصنعّة من قبل طرف يدخل بارادة مسبقة ويسهم في تعجيل او حرف المسار التاريخي لتحقيق مقتضيات سياسية مطلوبة.

كانت امريكا تتميز ولازالت تجمع بين القوة اسلوباً والتحضر والتمدن رؤية ومظهراً سياسياً. انها دوماً تلبس مفاهيمها  السياسية ومنطلقاتها في الاقتصاد والثقافة وغيرها للدول الاخرى بدلاً ان يتلبسها واقع حال تلك الدول بمدلولاتها السياسية – الاقتصادية – الثقافية – الحضارية وتعمل على حلها قبل ان تتفاقم تعقيداتها وتصعب معالجتها.

امريكا لاتزال لم تعتد استقراء الواقع الحي الدينامي للامم والشعوب الاخرى … ولاتستوعب خصوصيات محليات وهويات تلك الشعوب قدر اهتمامها اثبات صحة وصوابية وتفرد منطلقاتها السياسية الثقافية –الاجتماعية في تطويعها الواقع وفي الزامه تقييد الحراك المتميز للهوية والخصوصية القومية لغيرها قسراً في تبعية الفكر البراجماتي والدوغماتية بشكل تنعدم فيه حساسية اية مؤثرات فاعلة دولية تأتيها من الخارج تجدها لاتناسبها وتعدم تأثير فاعليتها الايجابية حتى في حالة تصديها معالجة قضايا مصيرية هامة بالنسبة لغيرها .

وشعار ومفهوم "صراع الحضارات" عند امعان التدقيق بالنظر له تتضح غرابة وتعسف ربط "الصراع"  بـ "الحضارة" من حيث ان الحضارات  ليست بالضرورة  تستحضر في ذاتها وتستفزها مؤثرات خارجية  لتدخل بدون روّية حتمية تاريخية التصادم والاحتراب مع غيرها ..هذا فقط في ظروف استثنائية جدا وحضارات لاتمتلك مقومات الاصالة والحصانة التمدينية والانسانية, عندها تكون عوامل استفزازها لايمكنها مجاوزتها سلميا… ولو أن الحضارات على امتداد التاريخ البشري يحكمها قانون انعدام التحاور والتعايش والتفاعل بغيرها ويسيرّها هاجس الصراع والتضاد والاصطدام لكان التوقف أصاب المشروع الحضاري – التاريخي للبشرية عموما، في مساره التقدمي الى امام منذ عصور تاريخية بعيدة في القدم في جميع اشتمالات الحضارة في التمدن والسلام بما يصيب المسار التاريخي البشري الحضاري الكساح والنمو البطيىء جدا. شواهد التاريخ القديمة اثبتت قديما وتثبت الآن ان الحضارات العريقة تكون حصانتها السلمية وتأثيرها الايجابي في الاخرين هو في امتلاكها مقومات المدنية فكلما كانت الحضارة راقية في حيازتها اسباب المدنية والتحضر والقوة المسالمة، نجدها تلين فيها وتندثر لديها نوازع الاحتراب والاصطدام المتعمد بالآخر وشن الحروب على غيرها ونجدها تركن لحياة الترف والمتعة ولو عدنا لبزوغ الحضارات ووصولها اوج عنفوانها التمديني يكون " عامل" الركون الى الدعة والسلام والترف هو العامل الذاتي الاساس الذي يجعل من الموجات الهمجية المتخلفة البربرية الدموية تجد في مثل تلك الحضارات " ضالتها " في استهدافها والقضاء عليها ... لم يسجل التاريخ لنا ان ماتت حضارة متمدنة تمتلك مقومات الاصالة نتيجة اصطدامها بمثيلاتها .. وليس كافيا القول ان الحضارة تهرم وتشيخ . لكن نجد ايضا في شواهد التاريخ المعاصر على وجه التحديد حين يراد تكريس الخطأ، والأمعان في ايقاظ وتحفيز رغبة الهيمنة وفرض منطق القوة على الآخرين ان يكون القانون المحرك الدينامي للحراك الحضاري نجده لايتم كاملا مالم تفعل  "الصدفة التاريخية "  دورها السلبي، وربما يكون -  كما سيتضح لنا لاحقا -  احتمال فاعلية عامل الصدفة التاريخية من ان تلعب دورا تخريبيا عدوانيا معرقلا لطبيعة الحياة المسالمة الامنية وهنا يجب ان يقترن بان تكون الصدفة التاريخية

(مصّنعة) سياسيا وليست صدفة (عفوية)

 طارئة محدودة التأثير والفاعلية بخاصة في الاحداث والمنعطفات الكبرى في التاريخ تفرزها الطبيعة في ظروف معينة خاصة فتكون رغبة استحضار وتصنيع مسببات اشعال حريق نزعة صراع وتصادم او هيمنة لاتتم كاملة وربما لا تحدث ابدا اذا ما تركت اية نزعتين او ظاهرتين تاريخيتين تحاولان التصادم والصراع تحت تأثير تغذية فاعلية عاملي الذاتية والعوامل الموضوعية المفروزة عن اجواء ومحيط  (الحدث) في غياب العامل المساعد لتحفيز الجانبين الذي هو الصدفة التاريخية المصنعة سياسيا.

ليس غريبا ان نجد قطبي نزاع تحكمهما شروط  فاعلية العامل الذاتي والعوامل الموضوعية ان يفعلا فعلهما في ايصال قطبي النزاع لنقطة حدث الصراع غير كافييين. ولايشترط حصول التصادم والصراع رغم توافر العدوانية ونزعات الاحتراب واستعدادات الاصطدام لدى الطرفين ... واكثر من ذلك نجد ان فاعلية العوامل الذاتية والموضوعية المكتفية بشروطهما الممهدة للاصطدام والاحتراب الذي يبدو كحتمية لاخلاص منها ان يصل نقطة حدث الحرب والصراع لكن لايحدث دونما توافر مؤثر خارجي كعامل مساعد مفاجىء يسرع في تقريب زمن ومسافة حتمية وقوع الحدث ولايكون هذا العامل المساعد الذي يدخل طرفا ثالثا بين طرفي النزاع سوى " الصدفة التاريخية المصنّعة " التي يبدو لنا انها صدفة عفوية عابرة ويغيب عن اذهاننا التفكير بها على انها عامل مساعد وحتمية "مصنّعة " سياسيا بعناية ... اذن يمكننا القول ان " الصدفة التاريخية"  التي يتم تصنيعها كعامل مساعد لاشعال فتيل حدث الاصطدام وانضاج عاملي الذاتية والموضوعية لدى كلا الطرفين المتنازعين يكون دورها اكبر من عاملي الشروط الذاتية والمحفزات الموضوعية حين تكون مصنعة مختبريا لتحقيق هدف سياسي معين مرسوم سلفا وفي تحفيز عوامل الاصطدام المراد استحضارها واشعال الصراع الدموي لسنوات طويلة.

هنا نجد ان دور الصدفة التاريخية المصنعة مختبريا تحضر بين طرفي نزاع تعويضا سلبيا لابل معيقا عن قصد مسبق لتغييب التاريخ في مرحلة معينة او مراحل من ان يأخذ دوره الطبيعي المعتاد في تسلسله التطوري غير المتقطع الذي تحول الصدفه المصّنعه دون وثوبه الى امام وتعويق مساره المسالم المستدام .

الصدفة التاريخية المصنعة مختبريا لاغراض سياسية ستراتيجية هي حتما تقترن بالاعاقة والسلبية . اما الصدفة التاريخية العفوية بما لايمكن حصرها التي لعبت دورا مهما فاعلا في تقدم وحضارية المسار التاريخي فهي صدفة تاريخية يكون حضورها " عفويا" يتحكم بها وبمسارها قانون الطبيعة الذي استحضرها فقط التي لا دخل للرغبة او الفاعلية للانسان او المجموعة من الناس في استيلادها وتحضيرها فهي تكون بحالة خارج سيطرة اي قانون وضعي او رغبة لانسان .. يبقى مسألة هل هي اي الصدفة التاريخية العفوية فاعلة ايجابياً في حضورها ودخولها على المسار التاريخي، ام هي فاعلة سلبياً في عرقلة هذا المسار!؟

كلا الافتراضين خارجين عن تحكم الانسان ورغبة التاثير بها… وما اكثر الصدف التاريخية العفوية التي قفزت في التاريخ ونقلته من مساره نحو منعطف اختزال الزمن التطوري بفترات زمنية طويلة جدا قد لا يصلها في تطورها ومساره البطيء التقدمي الطبيعي … وكم صدفة تاريخية عفوية اثّرت سلبا في المسار التاريخي فعرقلت تقدمه احقابا طويلة جدا من الزمن . الشيء الاخير الذي يجب التنوية عنه بعجالة هو ان الصدفة التاريخية غير المصنعة لايقتصر مجال حضورها وتاثيرها على المسار التاريخي او الحضاري فقط بل تدخل في تطور جميع مناحي الحياة … اذ لايخلو الطب مثلاً الذي يحكمة العلم التجريبي من تدخل الصدفة فيه وتفعل فعلها في مجال الاكتشافات بما لا حصر له وحصل ذلك في كافة المخترعات والكشوفات العلمية الصرفة في الفيزياء،في الكيمياء،في الرياضيات فكيف يكون الحال في مجالات اخرى!؟ في مجال العلوم الانسانية كالتاريخ والطبيعة الانسانية  وميادين السياسة والاقتصاد.

اما في حالة توسط " صدفة تاريخية مصنعة" بين طرفي نزاع عندها يصبح التصادم الحضاري ماثلا كحتمية مسلّم الأخذ بها يتحتم وقوعها وحدوثها ويبدو معكوسها وخلاف ذلك في رغبة الحوار والتعايش وتأمين الاستقرار والسلام اقل حظا للقبول وأخذا في حيز التنفيذ ونجد في انحرافها عن طريقها الطبيعي المسالم في الحياة اقبل للتسليم به واكثر قبولا في حال غياب نقيضها في الوقوف المبدئي الانساني الثابت السليم .

في اسقاطنا احداث تفجيرات 11 ايلول 2001 على تنبؤات مثل " فوكوياما و هينتكتون" في مقولتي نهاية التاريخ وصراع الحضارات كحتمية تاريخية نلاحظ التفجيرات التي حدثت في نيويورك  (كصدفة تاريخية) سواء كانت تلك الصدفة مصنّعة سياسيا ام لا، حضرت كعامل مساعد عفوي لمجموعات ارهابية ذات منابع اصولية متزمتة عقائديا – وان بات الامر مؤكداً ان القائمين بالتفجيرات هم من الاسلاميين اعطت مقولة ونظرية التصادم الحضاري ليس مع حضارة اسلامية وانما مع ظاهرة ارهابية يقوم بتنفيذها مجموعة ارهابيين التسليم بها كاملا صحيحا  في ضرورة المواجهة الارهابية مع امريكا وغير امريكا من شعوب الارض.

الصدفة التاريخية  المصنعة سياسيا مختبريا  التي حضرت كعامل مساعد اشعل فتيل حرب الارهاب ونرجح ان الصدفة في احداث ايلول كانت مصنّعة من طرف ثالث ليس هو احد طرفي النزاع امريكا من جهة ومجاميع الارهاب من جهة اخرى كان يراد من الصدفة المصنعة مختبريا في صورة التفجيرات التي حدثت اعطاء العالم باجمعه برهانا يخرج من مختبرمعد لتسجيل استكمال المعادلة على اللوحة المعدة هي الاخرى سلفاً " لاثبات " بالبرهان الواضح ان " الاسلام"  كدين وحضارة انما ومنذ ولادتة كان يلازمه توأمه السيامي الملتصق به الا هو" الارهاب " والذي من دون الارهاب ليس هناك اسلاما مسالما يرغب التعايش بأمان واستقرار دونما عنف مع الاخرين، وبذالك ينتفي صدق التاريخ بانه انجب حضارة عربية اسلامية اعطت شواهد تمدينية في معظم انحاء العالم على مر عصور طويلة.

ان العالم بعد تأكده من ضلوع بعض المنظمات الاسلامية بالارهاب بعد التفجيرات الامريكية اعطى لنظريات ومقولات المنظرين الامريكان والغربيين مصداقية مسلّم بها، وبذلك تم تسويق " صراع الحضارات " و "نهاية التاريخ" و "ظاهرة الارهاب " انها جميعا نتائج استقصاءات وبحوث وعمل شاق طويل استغرق مرحلة زمنية طويلة جدا من دراسة لحتمية صراع الحضارات وعلاقتها بالارهاب الاسلامي !! وما يترتب على عدم اخذ هذه المقولات طابع المعالجة الجذرية الآنية لها فان تركها سيقود الانسانية بأجمعها الى كارثة لا يمكن الأحاطة بمعالجة نتائجها التي تسفر عنها ظاهرة الارهاب.

اذن اصبح لدينا بالذات " الشرق الاسلامي " واصبح العالم اجمع امام " ظاهرة " واقعية مثبوتة بالبرهان لاتقبل الحوار والنقاش ولا انصاف الحلول فبدلا من ان تكون التفجيرات الارهابية محصورة بين طرف متضرر فعلا ومن حقه الكامل الدفاع عن امن مواطنيه واستقرار حياتهم هو امريكا ودول العالم.. بالضد من طرف اخر هي منظمات ارهابية " دينها" الاسلام فقط .

اصبح الكلام والتصرف اذن بالنسبة للاسلام خلطا مدعوما بوقائع دامغة لايمكن ولا له حق انكارها احد . انه صراع بين حضارتين حضارة متمدنة غربية بزعامة امريكية ينفرز عنها كل ما هو نبيل وشريف وحق وعدل من ديمقراطية، الى حرية في المعتقد الديني حرية في الرأي، حقوق انسان، عدالة وتكافؤ بالفرص قضاء مستقل عادل ... الخ تقابلها " حضارة " العرب وغالبية الدول الغربية الاوربية يستعملون عبارة "حضارة اسلامية" اينما وردت تعبيرا مجازيا فهم لايعتقدون فعلا بوجود حضارة عاشت الف واربعمائة عام كان العرب اداتها، والاسلام واحيانا المسيحية والاديان السماوية مشتركون معها في صنع الحضارة العربية الاسلامية كما حصل في الاندلس وكانوا من محركي فاعليتها – بل يعتبرونها حضارة تخلف وارهاب وحروب وفي هكذا طرح للمعادلة فيه الكثير من الخطأ الفادح والتجني وخلط الاوراق وتشويه للاسلام كدين يدين الارهاب ويستنكره لا بل يتصدى له ويحاربه، تشويه متعمد للاسلام على اصعدة الفكر والايديولوجيا والسياسة والاجتماع والاقتصاد والثقافة وضياع الشفافية والوضوح والصدق .

ومن تكريس هذا الخطأ المكرّس باسباب غير موجودة اساساً –بل المصنعة سياسياً مختبرياً – كانت الولادة القيصرية لظاهرة (الارهاب الاسلامي) التسمية التي بعد التفجيرات الدموية الانتحارية المدانة اسلامياً، الهبت مشاعر البغضاء والعنف والغضب والتعصب والعدوانية تجاه العرب والمسلمين على السواء من جهة، ولجمت الافواه وقطعت الطريق على نوازع الرغبة بالسلام العادل والاستقرار ورغبة المتحاورين في الوصول الى حلول ترضي جميع الاطراف في المنطقة العربية واقعدت اصحاب النوايا الصادقة المعتدلة من جهة اخرى من ان تلعب دوراً ايجابياً مسالماً في وضع الامور في نصابها الصحيح والوصول لغايات سامية حضارياً.

الخطأ الامريكي الموجه اسرائيلياً هو في اسقاط ظاهرة (الارهاب الاسلامي) كممارسة مدانة عربياً واسلامياً قبل ادانتها عالمياً على مسرح معالجة جميع القضايا السياسية المعقدة التي تعانيها المنطقة العربية ودول الجوار الاسلامية وتكريس الخطأ السياسي الامريكي –الاسرائيلي –هو في الاصرار بدافع نوايا العدوانية والسوء وتعقيد الوضع اكثر هو في الصاق واقران ظاهرة الارهاب مع كل مسألة عالقة يراد ايجاد حلول لها بين العرب من جهة واسرائيل وامريكا من جهة اخرى وجعل (الارهاب) عائقاً وسبباً لعدم حل مشاكل المنطقة باقامة سلام عادل يرضي جميع الاطراف ونشر الامن والاستقرار …..

 

علي محمد اليوسف - الموصل

 

 

في المثقف اليوم