قضايا

الخيال في الفن

ali mohamadalyousifتعتبر اراء الفيلسوف الماركسي المجري لوكاتش في الفن هي الارهاصات الاولى للمفاهيم التجريدية والنظرة الجمالية لمستقبل الفن . ففي كتابه واقعية بلا ضفاف الذي يعتبر الآن من كلاسيكيات فلسفة علم الجمال،  يشير لوكاتش فيه ان الابداع الفني الجمالي لايستمد مقوماته من الطبيعة فقط في البحث عن الجمال، والا كان اعظم الفنانين هو الذي يقدم فنا مماثلا للطبيعة .

صوابية وصحة هذه المنطلقات والتي كان يطالب بها على صعيد الفكر الماركسي كل من تروتسكي ومن بعده غرامشي، تذهب انه بخلاف المفهوم الفلسفي الافلاطوني التقليدي، بأن الفن هو (محاكاة) المثال الاسمى في الطبيعة، اي بمعنى نقل واستنساخ الجمال من الطبيعة كمصدر وحيد للالهام الفني .

ثم جاءت الانعطافة الكبيرة في فلسفة الفن ومفاهيمه وتياراته المتعددة في رفض المنطلقات الافلاطونية في محاكاة المثال في الطبيعة . وتأكد هذا الفهم اكثر بعد اختراع كاميرا التصوير الفوتوغرافية . من حيث ان اروع نماذج محاكاة الطبيعة تنجزه وتوفره لنا كاميرا التصوير، اسود وابيض، وملون .

ما يقوم به  التصوير الفوتوغرافي – وان كان هذا ضربا من الفنون التشكيلية – انما يمثل المحاكاة  الجامدة في لقطة واحدة من سلسلة جريان الطبيعة والحياة . بمعنى ان التصوير الفوتوغرافي  الفني يستمد مقومات بنائه الفني من الطبيعة ولها ومن اجلها، فهو يستمد من الطبيعة خامات الحرفة الفنية بمعزل عن فاعلية خيال الانسان الابداعي وآلية تنفيذ تلك الاخيلة في الواقع الفني.

الفنون الكلاسيكية مثل الواقعية والانطباعية تعتبر محاكاة الواقع والطبيعة واعادة تخليقها مرات عديدة يجعل من الطبيعة والوجود الواقعي والمعيشي للانسان هو الفن.

في تطور لا حق في مدارس وتيارات فلسفة الفن والحداثة اتضح قصور تلك النظريات الفنية وتم تجاوزها فنيا منذ عقود طويلة في ضرورة اعتماد (الخيال) الانساني والمخيلة الفنية المخصّبة، استكمالا لما تعطيه وتمنحه الطبيعة من خامات تدخل في عملية المنجز الفني، وهذا ينطبق على الشعر وبعض الفنون التي لا تعتمد الالوان والمساحات والفراغات في لغة التواصل التشكيلي .

ان المواد الخام التي تمنحها الطبيعة للفنان ليست كافية لتخليق فن حقيقي دائم اصيل، فلا بد للفنان من اضافة نوعين من الاسلوبية في تخليق الفن وانتاج العملية الفنية، هما الخيال الفني الخصب في استقدام واكتشاف عوالم غير معروفة ولا مسبوقة ووضعها في مختبر الانتاجية الفنية، الشيء الآخر المكمّل لخامات الطبيعة وخيال الفنان هو الخبرة المهنية المكتسبة في كيفية توليف معطيات الطبيعة مع معطيات الخيال الفني في تنظيم حرفية انجاز اللوحة التشكيلية، و في توزيع الالوان والكتل والمساحات والفراغات في نسق هارموني منظّم .

الخيال اسمى خاصية يحتازها الانسان مع خاصية الذكاء في تطوير وجوده واغناء وتأثيث حاضره وانتقاله من مرحلة تطورية الى مرحلة اخرى اكثر تطورا .

من هنا نستطيع القول ان انفصال معطيات الطبيعة كخامات اولية في الانتاجية الابداعية لا تخلق منفردة لوحدها فنا اصيلا خالدا يطاول البقاء، كذلك نجد ان جنوح الخيال الفني في مدارس التجريد وما بعد الحداثة ممثلا بالسريالية الغرائبية عند اندريه بريتون في الشعر، وسلفادور دالي في الفن التشكيلي، وكذلك التكعيبية عند بيكاسو والعودة للبدائية في الفن وغيرها من المدارس الحداثوية في الفنون انما تقوم جميع هذه التيارات والمدارس على استثمار الخيال الفني في نوع من الادهاش غير المتوقع بمعزل عن كل تأثيرات المحيط والطبيعة،وهناك دعوة اخذت حيز التنفيذ في الاوساط الادبية والفنية في امريكا واوربا والغرب تذهب الى ضرورة تخصيب الذاكرة التخييلية عند الفنان في تعاطيه للمخدرات .

اذن لولا المناداة بضرورة اعمال الخيال وتوظيفه في الفن للوصول الى عوالم غير مكتشفة ولا مسبوقة  .. لكان الفن التشكيلي توقف عند سيزان ورامبرانت وفان كوخ وغويا وماتيس في مدارس وتيارات الفن التي اصبحت كلاسيكية كالواقعية والانطباعية والرمزية في محاكاتهم رسم الطبيعة والموديل .

 

علي محمد اليوسف – الموصل

 

 

في المثقف اليوم