قضايا

العولمة وصدمة التاريخ

ali mohamadalyousifلتأكيد بزوغ وسطوع نجم (العولمة) كان وراؤه اهم عامل هو انهيار القطب المناوئ الوحيد امام امريكا كنتيجة غير متوقعة من الناحية النظرية على الأقل هوانهيار منظومة دول الاتحاد السوفيتي القديم . ان التاريخ البشري في تطوره الجدلي الكلاسيكي اخطأ المسار لينتهي الخطأ في بدايات القرن الحادي و العشرين، ليجد مفهوم العولمة نفسه معطى تاريخي لحتمية التاريخ الذي يجب ان يدخل مسار العولمة.. ولكن من مسار تاريخي اخر مغاير هو المسار الرأسمالي الأمريكي تحديداً ... وكان هاجس بروز ظاهرة تستقطب اهتمام العالم ايضاً الى جانب العولمة هو (الارهاب) والارهاب الاسلامي لا غيره ...

في جانب اخر مهم لم تاخذ العولمة كمرحلة معاصرة وتحديث لما بعد الحداثة كان يحتاجها العالم حسب التفكير الامريكي على الطريقة الامريكية حيز التنفيذ المفروض قسراً بمنهجية التطور التاريخي حينما تاكد ان التاريخ ليس مجرد قفزات تراكم كمي للمواصفات المتوارثة المكتسبة لاجيال في استمرارية الاصلح والبقاء في تاريخ الاجيال المتعاقبة على مر العصور الذي يسبق القفزات والطفرات النوعية التي تحتوي سلسلة متصلة من الانجازات العلمية المتقدمة الجديدة .

تاكد انثروبولوجياً ان سلسة المسار التاريخي الذي صاحبه طفرات نوعية، مرت بفترات تاريخية طويلة جداً من غياب التاريخ على حد مقولة المفكر مطاع الصفدي .

العولمة ولدت في مرحلة غياب التاريخ الذي اضاع و هو شيء يحكم قوانين الطبيعة والأنسان الأتجاه المتصور التنبؤي المتوقع مسبقاً .. (العولمة) ليست طفرة نوعية (طبيعية) في مسار التاريخ البشري ... صحيح انها ولدت (حتمية تاريخية) لكنها لم ولن تمثل المسار التطوري الصحيح الذي يلائم كل البشرية ومستوياتها الحضارية المتفاوتة . فهي بذلك تمثل حدثاً جديداً ومنعطفاً تاريخياً معاصراً لا يمكن للعالم ان يفلت او يخلص من تاثيراته الايجابية والسلبية على السواء، سيستفاد بعض غير المستفيدين لكن ليس كالفائدة التي كانت اصلاً موجودة متحققة للبعض من المستفيدين القدامى، و جاءت العولمة لتضخيم وتوسيع شبكة هذه الأفادة بالهيمنة كلية على العالم ... هذا لا يعني الهيمنة هي بالضرورة تكون في كل الأحيان سيئة جداً لها ولغيرها ولا مفيدة فقط في كل الاحوال لمصدريها للعالم . هناك رأيان في كيفية تعامل العرب مع العولمة، الاول يذهب الى ان العولمة هي هيمنة اقتصادية وثقافية واجتماعية، واضاعة للهوية وخصوصيات المجتمعات العربية ولا خير يتوخى في التعامل معها .

والرأى الثاني يذهب الى ان العولمة في ضم اقتصادات الدول ونشر (امركة) الحياة في العالم بوسائل تصدير السلع والتكنولوجيا السيربنتية، ولا يمكن للعرب درء مخاطر غزوها العولمي السلمي سوى بالاندماج معها او بالتوازي مع مسارها، ومحاولة الايفادة من معطياتها التمدينية الحضارية بدلا من التصادم بها وتحريم اللقاء معها.

ان ما هو صحيح ايضاً في دراسة وتفسير التاريخ انثروبولوجياً في استقراء نظري آثاري حضاري علمي اركيولوجي ايضاً، غالبيته في ثنايا الوثائق المخطوطة والكتب والبحوث و النظريات التاريخية والقليل منه المتبقي شاخصاً على الأرض معماراً اثارياُ تراثياً. يقصده السواح لمتعة المشاهدة، والمستشرقين للدراسة .

فما كان من المراحل التاريخية الأنسانية مسلماً به مقبولاً خاصة قبل عصر النهضة في بداية القرن الخامس عشر والى القرن السابع عشر لم يعد كذلك اذ اعقب ذلك ان تجربة واحدة من تجارب الطبيعة كفيلة بتعديل الف دليل عقلي كما يذهب له (بيكون) او مقولة لورانس سامرز رئيس جامعة هارفرد ان فكرة براجماتية واقعية واحدة هي افضل من الف نظرية ونظرية.

(وفي مراحل بروز الأتجاهات الواقعية الجديدة في التاريخ كوضعية (كانط) وبراجماتية جون دوي و هـ.ي بيرس، كلها تيارات تستقي مباشرةً مفاهيمها من العلم او العلوم الحديثة وتعتمد على كشوفاتها وفتوحاتها في مجالات النفس والحياة والكون). (نقلا عن د.محي الدين اسماعيل،الفكر والمعاصرة، ص103 بتصرف) .

وبأسم العقل والعلم والتقدم وهي الاسس التي قامت عليها الحداثة الاوربية في القرن الثامن عشر برزت في القرن الذي يليه نزعات فكرية تصب كلها في مجرى واحد هو تكريس فكرة تقدم الانسان الاوربي وجدارة امريكا والغرب بالهيمنة على العالم لـ (تمدينه) ونشر الحضارة وقيمها في الحرية والديمقراطية و حقوق الانسان ومن اهم هذه النزعات، النزعة التاريخية، النزعة التطورية، النزعة العرقية، النزعة العلمية، النزعة الاستشراقية الاستعمارية . (نقلاً عن المفكر د. محمد عابد الجابري) .

اصبح من السهل علينا الان فهم العولمة انها تمثل نهاية التاريخ فعلاً لكن ليس كما اشرنا سابقاً على وفق المنظور الفلسفي و المسار التطوري الانطولوجي (الوجود) لتفسير ماضي وحاضر التاريخ في كيفية رسم المستقبل بل بالرغبة القسرية التي فرضت نفسها على التاريخ والحياة المعاصرة التي يحياها العالم اليوم بعد دخوله بداية الالفية الثالثة بمتغيرات جديدة غير متوقعة في السياسة والعلوم والاتصالات و المعلوماتية وفي الاقتصاد – اهم ركيزة مادية تصبغ العالم اليوم – في الثقافة والحياة الاجتماعية والسلوك البوهيمي والنزعة الاستهلاكية.

نهاية التاريخ كما فسره فوكاياما يمكننا فهمها فهماً خاصاً بعيداً عن المفهوم المعرفي و الايديولوجي الفلسفي لتفسير التاريخ تماشياً مع المعطى التاريخي للعولمة لدى صوموئيل هينتكتون وكذلك خلافاً للتاثير المادي الجدلي للتاريخ وذلك في كبس وضغط مراحل التاريخ البشري القديمة – نقصد من ضمنها مراحل الحداثة الى ما قبل بروز ظاهرة العولمة – في طفراته النوعية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والايديولوجية و نحن نعيش عصرنا الحاضر في العولمة و نستقريء للمستقبل في ان البشرية عموماً اصبحت الان او بالأصح اصبح تاريخها، مرتهن ويمر اليوم بمرحلتين فقط اذا سلمنا بحقيقة نهاية التاريخ وهي حتمية صحيحة مادمنا نعيشها دونما ان تلجؤنا التفسيرات النظرية السابقة وحيثما لم تبق هناك حاجة او فائدة من وراء الاستقراء المرحلي التاريخي ودراسة طفراته النوعية في المسار الانساني .. ليس لعدم صحة النظريات السابقة في تفسير التاريخ بل لعدم صحة ووجوب الحاجة والضرورة لها حاضراً ومستقبلاً من جهة، ومن السذاجة جداً بل من غير المقبول علمياً القول بان التاريخ البشري لم يمر بالمراحل و الطفرات النوعية الحضارية و ان التاريخ بمجمله سلسلة من الحوادث غير المنسقة العشوائية والتي جرت بعيداً عن فاعلية الضرورة في التقدم الى امام و بعيداً عن أي نوع من (غائية) اراد التاريخ في مسيرته الوصول اليها .. وان مسيرة التاريخ البشري حكمته مجموعة عوامل متداخلة جعلت من مساره اعتباطياً متراجعاً مرات، متقدماً اخرى .. كابياً وساقطاً مرات .. وواقفاً ثابتاً اخرى انه قانون (ارنولد توينبي) التحدي والاستجابة في التطور التاريخي وصنع الحضارات .

اصبح الان ضرورة وجوب التركيز فقط على (نوعين) او مرحلتين فقط من مراحل التاريخ البشري عاشته وتعيشه البشرية :

اولهما : التاريخ الانساني البدائي – البدئي للوجود البشري – هنا نستعمل كلمة بدائي واينما وردت لاحقاً استعمالاً مجازياً تعبيرياً  لا نقصد به عصور ما قبل التاريخ فقط – فهذا التاريخ (المضغوط) المكبوس في جميع مراحله وتغيراته و طفراته وتبدلاته يبدأ بالعصور الجليدية وتبدل المناخ على الارض مروراً بعصور الانسان الحجرية و اركيولوجيا التاريخ الحضاري لمراحل ما بعد التاريخ وصولاً الى مراحل الحداثة وما بعد الحداثة والى اخر النيولبرالية والعولمة.

 ثانيهما: مرحلة التاريخ الانساني المتحضر الحديث المعاصر الذي افصح عن ولادته في اعلى مرتبة له ممثلا في (حامل) واحد هو (العولمة) التي اوقفت التاريخ ان لم تكن فعلا انهته في ادخاله – المقصود تاريخ ما قبل العولمة  - في خندق المتحفية والتغييب لاي قدرة فاعلة يمتلكها في التاثير بترسيم ما يجب ان يكون عليه المستقبل وليس متروكا لما يريد المستقبل ان يكون عليه .. كان هناك قدرة مهيمنة مسيطرة تسير مساره وتعين اهدافه وترسم وسائل الوصول لها ما كان يدعى بالقوانين الطبيعية التي تحكم الكون والميتافيزيقيا التي ليس بمقدور الانسان التحكم في تحقيق ضروراتها تلاشى وانتهى .. تمت السيطرة حتى على جدل وديالكتيك القوانين التي تحكم المادة والتاريخ والانسان والعلم وتطبيقاته في جميع نواحي الحياة . وما يطلق الان عن نهاية التاريخ انتهاء عصر الايدلوجيات، التي هي افرازات مرحلة العولمة وصراع الحضارات وبروز ظاهرة الارهاب . تجعل من تداول وتطبيقات هذه المفاهيم اهم وابرز مواصفات العصر الجديد للانسان، عصر مغاير تماما لكل ما سبقه من تاريخ وظواهر سياسية واقتصادية وثقافية وحضارات واستراتيجيات وتنبؤات.. !؟

لو اخذنا جميع الصفات المميزة لمراحل التاريخ و استعرضنا الكثير والعديد من النظريات القديمة في تفسير التاريخ فسنخرج بنتيجة تاريخية – علمية – حضارية ان التاريخ البشري للانسانية وان اختلفت فيه العصور وتنوعت على ارضه الحضارات فهو اصبح الان بالمحصلة التي نعيشها في بداية القرن الحادي والعشرين، كونه تاريخاً محكوماً بالزمان والمكان، بالعلم والميتافيزيقيا هو في حقيقته تاريخ مكبوس مضغوط . شريط سينمائي داخل قرص الكتروني يستطيع الانسان في الوقت الحاضر وضعه في حاسوب الكتروني ويستعرضه في ساعة او اكثر.

التاريخ في المتراكم – الكمي – والكيفي لم تعد له تلك القابلية او الفاعلية الكبيرة جداً في تشكيل مكونات حاضرنا ومستقبلنا ولا في بناء توقعاتنا المستقبلية علميا وحضاريا . لا ينكر احد ان تاريخ اية امة من الامم وتاريخ أي شعب من شعوب العالم انما يمثل بكل مكوناته الاثارية والحضارية العلمية والثقافية (ذاكرة) ذلك الشعب او تلك الامة المميزة عن بقية امم وشعوب الارض لكنما اصبح تاثيرها في ترسيم حاضر ومستقبل التاريخ البشري الان هامشيا جدا ان لم يكن معدوماً ونقصد هنا تحديداً التاريخ الغائي الحضاري للانسان .

لو اخذنا الحضارة اليونانية التي استلمت منها الراية الحضارة العربية – الاسلامية .. كانت الاولى شائخة والثانية فتية ولو جئنا للحضارة الرومانية في اوج عظمتها لوجدنا انها لم يكن لها تاثير كبير في نقل اوربا من العصر الوسيط الى بدايات النهضة  بل كان للحضارة العربية الاسلامية دورا اكثر فاعلية من الحضارة الرومانية في التاثير باوربا ونهضتها .. ولو اخذنا الحضارات القديمة كالسومرية والاشورية والبابلية والفرعونية والفينقية وما جاورها من حضارات الفارسية والهندية والصينية  (الكونفوشوسية) والبوذية جميعها بكل معطياتها اصبحت حضارات (متحفية) في وجودها اليوم وتاثيرها الحضاري الذي انتهى وتوقف .. لو قارنا بين تلك الحضارات العريقة وبين الحضارة الامريكية الاوربية في الوقت الحاضر –خاصة الحضارة الامريكية التي لا يتجاوز عمرها الزمني والتاريخي عن خمسة قرون – هل يمكن باستطاعة احد  نكران تاثيرها الفاعل لا بل تاثيرها المهيمن في رسم مسقبل البشرية بما يعادل اكثر من الاف الاضعاف لما تستطيعه من تاثير تلك الحضارات التي سبقتها مجتمعة!! . 

ولو أخذنا التطور التاريخي بمعزل عن المتحقق الحضاري الانساني ان استطعنا وجاز لنا مثل هذا التعبير واخذنا نموذج التفسير المادي الجدلي للتاريخ الذي يبدا باركولوجيا التاريخ مرورا بالعصور الحجرية وعصور ما بعد التاريخ مع ما تخللها من طفرات نوعية طرأت على هذا المسار التي حصلت على مر التاريخ المدون اثاريا متحفيا ابتداءا من المشاعية الى عصر الصيد الجمع والالتقاط فعصر الزراعة تلاهما الاقطاع ومن ثم البرجوازية فالرأسمالية التي في اعلى مراتبها الامبريالية والنيولبرالية، فان كل هذه العصور الانسانية وتنوعها التاريخي المظغوط المكبوس في (حامل) واحد يمثلها بمجموعها ويصهرها في بودقة التاريخ (البدائي – البدئي) للانسان قياسا لمعطيات التاريخ والحضارة والتقدم التقني العلمي والتكنلوجي والفضائي وتطور الاتصالات وتقدم المعلوماتية بشتى اشكالها بما يميز الان تاريخ وحضارة بداية القرن الواحد والعشرين . وبروز عصر العولمة الذي يرسم حاضر ومستقبل العالم .

 

علي محمد اليوسف

 

في المثقف اليوم