قضايا

علم النفس الاجتماعي.. مقاربات تجريبية ونقدية (2)

hamza alshafiيهدف القسم الأول من  الفصل الثاني المعنون ب "الأنموذجين الخاصين بعلم النفس الاجتماعي"  إلى الحديث عن الأطر المرجعية الابستمولوجية   والأنثروبولوجية  لعلم النفس الاجتماعي التجريبي. ويميز بين الاستنباطdeduction  والاستقراء induction  كمنطقين للبحث والتحقق. ويقصد بالاستقراء عملية استخراج الاستنتاجات والاستدلالات من الملاحظات بغية تشكيل تعميمات  generalizations تخضع بدورها لمزيد من القياس والتقييم عن طريق ملاحظة الحقائق. أما الاستنباط، فيقصد به عملية إخضاع قاعدة أو نظرية للقياس من أجل تبيان مدى مصداقيتها أو خطأها لتطويرها أو استبعادها. بينما يصف القسم الثاني الأطر المرجعية الابستمولوجية  والأنثروبولوجية لعلم النفس الاجتماعي النقدي، الذي ينطلق  من "نظرية البنائية الاجتماعية" كمصدر لتحصيل المعرفة. كما يقارن هذا القسم المقاربات النقدية الواقعية والمقاربات النقدية النسبية، ويركز على الاستنتاج كمنطق للاستدلال. وينتهي الفصل بملخص عام للاختلافات الكبرى بين الأنموذجين التجريبي والنقدي.

ينبني علم النفس الاجتماعي التجريبي  عموما على موقف ابستمولوجي يسمى ب"الوضعية" التي ترى أن هناك علاقة مباشرة بين الأشياء والأحداث في العالم الخارجي  ومعرفة الناس لها. لهذا، فغاية علم النفس الاجتماعي التجريبي هي اكتشاف معرفة  موثوقة ومبنية على الحقائق الواقعية حول العالم الاجتماعيsocial world ، بواسطة المنهج العلمي  scientific methodالمبنية على الجمع والتحليل المنهجيين للأشياء الممكن ملاحظتها مباشرةً.

يبحث القسم الثاني لهذا الفصل في موضوع أنطولوجيا وابستيولوجيا علم النفس الاجتماعي النقدي. وحسب Wendy Stainton Rogers، فإن علم النفس الاجتماعي النقدي ينبني على أنطولجياontology  لا تؤمن بوجود العالم الاجتماعي خارج الطبيعة. أي أن العالم الخارجي يبنى بواسطة أفعال الناس وجهودهم لإعطائها معنى، والإبحار والتأمل في ذواتهم وحياتهم داخل هذا العالم الاجتماعي. وتسمى هده المقاربة  ب"البنائية الاجتماعية"، وتجد منطلقها ومرجعيتها في  نظرية  "ما بعد الحداثة" وتطبيقاتها في العلوم الإنسانية، خاصةً علم الاجتماع وعلم النفس النقدي. وقد نبعت مقاربة "البنائية الاجتماعية" من نظرية تسمى سوسيولوجيا المعرفة، خاصةً  عند صدور كتاب البناء الاجتماعي للواقع سنة 1976 لكل من  Luckmannو Berger اللذان يعتبران أن الواقع الاجتماعي يبنى من خلال ثلاث مراحل وهي التخريجExternalization ، والتشييء Objectification/thingification ، والاستيعاب/الإدخال .Internalization

ويهتم القسم الثالث والأخير بمقارنة الأنموذجين التجريبي والنقدي بتوظيف كل من المقاربة النقدية الواقعية والمقاربة النقدية النسبية. يقصد بالمقاربة النقدية الواقعية  في هذا السياق "الواقعية النقدية" التي نجدها في نظرية ما بعد الحداثة؛ وهي تحيل إلى الواقع الاجتماعي، وليس إلى الواقع الطبيعي. وتعمل الواقعية النقدية الابستمولوجية على ملاحظة كيف يتصرف  الناس في إطار عالمهم الاجتماعي لإعطائه المعنى. وانطلاقاً من تحليل هذه الملاحظات، يتم بناء نماذج من فرضيات تفسر ما يجري حولنا. فالأفعال والظواهر حسب البحث النقدي الواقعي نتاج بنى اجتماعية (كاللامساواة البنيوية) وميكانيزمات متنوعة (مثل المجتمع الأبوي).

فيما يتعلق بالمقاربة  النقدية النسبية، ترى Stainton Rogers   (1995) Wendy أن النسبية النقدية critical relativism هي ما يصطلح عليه ب" التأويلية interpretativism ".  وتحاول العلوم الاجتماعية التأويلية فهم ما يقدم الناس على فعله عن طريق كشف المعرفة البينية المضمرة، والمعاني  الرمزية، والحوافز والقواعد التي توجه أفعالهم أتناء ممارساتهم وتفاعلاتهم في الحياة اليومية 2000:115) (Blaikie. والبحث المبني على النسبية النقدية لا يسعى إلى اكتشاف حقائق الحياة الاجتماعية وسيروراتها وظواهرها لأنها تبقى بعيدة المنال، ولأنها ببساطة "نسبية".

يقدم الفصل الثالث "طرق وتحليلات" مجموعة من الطرق والتحليلات التي تعتمد عليها الأبحاث في علم النفس الاجتماعي. ويتحدث القسم الأول من هذا الفصل عن الأبحاث الوصفية المعتمدة من طرف علماء النفس الاجتماعي النقدي والتجريبي. أما بقية أقسام هذا الفصل فقد خصصت للمقاربات الخاصة الأنموذجين التجريبي والنقدي.

يتم إتباع البحث الوصفي في كلا الأنموذجين التجريبي والنقدي لتمكين علماء النفس الاجتماعي من الوصف الدقيق للظواهر المدروسة. وتعد دراسة الخضوع/الطاعة بواسطة Milgram مثالا للبحث الوصفي وفقا للأنموذج التجريبي العلمي. تبين هذه الدراسة أن الناس العاديين يمكن استمالتهم للتصرف بقسوة وبرودة إذا تم الضغط عليهم لطاعة وجه سلطوي. وتحاول إثبات وجود الطاعة/الخضوع دون شرح لماذا وكيف يتم الحث على الطاعة والخضوع.  بينما يعتبر استعمال   Hollway للتحاور الوصفي مثالا للبحث الوصفي في الأنموذج الاجتماعي البنائي. والغاية من ذلك، هي إشهار وإسماع أنماط فهم الناس لتجاربهم وأرائهم. أي أن  البحث الوصفي وفق الأنموذج النقدي لا يركز على الجانب المنهجي بقدر ما يسعى إلى فهم واستبصار الطرق الخاصة التي من خلالها يتم فهم موضوع أو قضية معينة من طرف المستجوب.

أما القسم الثاني، فيدرس طرق وتحليلات في علم النفس التجريبي، إذ أنه يستعرض المنهج التجريبي ومنطلقاته النظرية والمقاربات الموظفة في هذا المنهج. على غرار العلوم الطبيعية (علوم الأرض مثلا)،  فعلماء النفس الاجتماعي يقومون كذلك بتجارب ميدانية شريطة إمكانية خلق ظروف تجريبية مواتية. علاوة على التجريب الميداني، يتم كذلك إنجاز تجارب مخبرية في غرفة عادية معزولة عن العالم الخارجي لعزل الناس عن التأثيرات الخارجية  ما أمكن.  ويتم الاعتماد على عدة تقنيات لجمع المعطيات وتصنف إلى:

- تدابير المراقبةObservational measures ، وتأخذ من الملاحظة المباشرة لسلوك الأفراد المعنيين بسؤال البحث.

- تدابير التقرير الذاتيself-report measures ، وتتم عن طريق تقديم أجوبة لاستمارة أو سلم/جدول أسئلة، أو مقابلة/استجواب للتعرف على أراء ومواقف والإدراك الاجتماعي للناس.

- التدابير الضمنية implicit measures، وتهدف إلى التغلغل إلى الفكر اللاشعوري للفرد بطريقة غير مباشرة.

- البحث النوعيqualitative research ، ويتميز بخاصية القياس غير المباشر وإدخال المعطيات غير الرقمية في عملية البحث.

علاوة على استراتيجيات البحث التالية:

-  التمثيلية representativeness ، وتعني ضرورة التأكد من أن الناس المعنيين بالدراسة   (أو الذوات التجريبيةexperimental subjects ) يمثلون الناس الذين ينطبق عليهم  سؤال البحث  أو النظرية.

- الواقعيةrealism ، وتهتم بدرجة تطابق أو تقارب فضاء  ومحيط التجربة مع شروط  الحياة الحقيقية/ الواقعيةreal-life .

- المراقبة control، وتهدف إلى عزل المتغيرات الخارجية extraneous variables، ومراقبة استعمال المتغيرات المستقلة independent variables، وقياس المتغيرات المشروطة بدقةdependent variables .

يقدم القسم الأخير من الفصل الثالث مجموعة من الطرق والتحليلات في علم النفس النقدي.  ويؤكد أن علم النفس النقدي تبنى البنائية  الاجتماعية  كإطار نظري للبحث. وتهتم البنائية الاجتماعية بالوسائل المتنوعة لبناء الواقع الاجتماعي الموجود في الثقافة، لمعرفة وفهم ظروف استعمالها وتتبع تأثيرها على التجربة الإنسانية والفعل الاجتماعي. وتختلف عن الأنموذج التجريبي في عدم إدعاء الموضوعية والتمثلية والواقعية والمراقبة والتقييم. وتعتمد على جمع المعطيات عن طريق تقنيات جمع النصوص المكتوبة، المحادثات، الحوارات، المناقشات، الاستمارات والصور. كما يعتبر تحليل الخطاب مقاربة مهمة في البحث الاجتماعي البنائي.

وقد طور علماء النفس الاجتماعي النقدي فروعاً من تحليل الخطاب مثل تحليل الممارسات الخطابية وتحليل الموارد الخطابية. ويعد تحليل الممارسات الخطابية نوعا من تحليل الخطاب الذي يهتم بكيفية استعمال الناس للموارد والإمكانيات الخطابية لبلوغ غايات متبادلة في التفاعل الاجتماعي. ومن أمتله ذلك: اللغة المستعملة أو الخزانات اللغوية (أي الحديث الطبيعي  أو المألوف). أما تحليل الموارد الخطابية،  فهو نوع من تحليل الخطاب لا يهتم بالاستعمال الاستراتيجي  والمدروس للخطاب في نص معين، وإنما كيفية عمل واشتغال الخطاب في وضعيات عامة كالسياق الاجتماعي والثقافي للخطاب، وكيفية إنتاجه واستمراريته وتطوره  في تلك السياقات.

يحمل الجزء الثاني من هذا الكتاب اسم "موضوعات في علم النفس الاجتماعي"، ويشتمل على سبعة فصول تتطرق لأهم القضايا والأسئلة والإشكاليات التي تشد انتباه علماء النفس الاجتماعي، كما تأرق بالهم في الوقت نفسه. يدرس الفصل الرابع "التوصل واللغة" مختلف الطرق التي يوظفها علم النفس الاجتماعي لمعرفة كيف يتواصل الناس فيما بينهم. ويركز أساساً على الوسيلة الأكثر أهميةً في التواصل وهي "اللغة". وتكمن أهمية "اللغة" في كونها تقع في قلب مهمة واهتمام علم النفس الاجتماعي النقدي لارتباطها الوثيق بفهم مواقف الناس وعالمهم الاجتماعي. كما يهتم علم النفس الاجتماعي التجريبي بدراسة اللغويات الاجتماعية. هده الأخيرة، ترتكز على اللسانيات وعلم اللغة النفسي لدراسة كيفية استعمال وتوظيف اللغة في الوضعيات والسياقات الاجتماعية في إطار نظرية التواصل. بموجب هذه النظرية، فالتواصل الإنساني يتميز عن التواصل الآلي بكونه نشيطاً وذو معنى ودينامكي واجتماعي. تنبني نظرية التواصل على عدة مفاهيمية أساسية لفهم التواصل الإنساني. وتضم ستة عناصر: مصدر المعلومة والمرسل والرسالة والقناة والمستقبل والوجهة.

في هذا الفصل كذلك، تم التحدث عن التواصل غير الكلامي أو غير اللفظي أو غير الملفوظ، هذا النوع من التواصل يرافق نظيره الملفوظ أو الكلامي، ويلعب دور المدعم له لأنه يعطي المعلومات عن الأحاسيس والمشاعر والانفعالات، كما يمكن أن يعوضه كما نجد في حركة اليدين المعبرة عن الرفض مثلا. ويدخل ضمن هذا النوع من التواصل: تعابير الوجه، التفرس أو الحذق، التواصل بالعين، وضعية الجسد وحركاته، المسافة بين الأشخاص، اللمس، الرائحة الخ.

يتكون  الفصل الخامس الموسوم ب "فهم العالم الاجتماعي" من خمسة أقسام. فالقسم الأول، يهتم بطرق معالجة المعلومات من طرف الناس قصد فهم العالم الاجتماعي مثل تشكيل الانطباعimpression formation، المفعول/ الأثر الأولي أثناء الحديثprimacy and recency effect ، الانحياز السلبي والإيجابي negative and positive bias . أما القسم الثاني، فينظر إلى أنموذج المعرفة الاجتماعية  social cognition method  للنظر في أصولها ومنطلقاتها، ولتبيان كيفية بحثها في طرق فهم الناس للسيرورات والبنيات الاجتماعية. وتتمثل منطلقات وأصول المعرفة الاجتماعية على وجه التحديد في نظرية المعرفة النفسية العامة general psychological cognition ، والتي أسسها Neisser Ultric (1966)  انطلاقا من أعمال Bartlett  (1932) . وتقوم نظرية المعرفة الاجتماعية بربط المعرفة بالظواهر والوضعيات والسيرورات الاجتماعية بناء على إستراتيجية المعالجة processing strategies ، مثل التصنيف categorization ، والتنميط streotyping ، وترميز الأصناف encoding of categories ، وخلق الشبكات الترابطية associative networks، والخطاطةschema .

أما القسم الثالث فيدرس نظرية الإسنادattribution theory  من وجهة نظر علم النفس الاجتماعي باعتبارها موضوعا خصبا وصعبا في الآن نفسه. وتقوم هذه النظرية على أعمال  Heider   الذي    فصل بين "الإسناد الشخصي"  personal attributionو"الإسناد غير الشخصي" أو "الوضعياتي" impersonal /situational attribution . ويقترح ما أسماه "الاستدلال المطابق''   correspendent inference، وهي الاستدلالات أو الاستنتاجات التي يقوم بها الناس حول ما إذا كانوا يتصرفون بالتطابق مع أدوارهم الاجتماعية أو من خلال رغباتهم الفردية.

ويتناول القسم الرابع التطورات النظرية الأخيرة لميدان المعرفة الاجتماعية متمثلة في نماذج المعالجة العميقة للمعرفة الاجتماعية   processing-depth methodsالتي طورها علماء النفس الاجتماعي الأوروبيون. هذه النماذج تركز على دور كل من اللغة والسياق الفعلي في نقل وأجرأة وتشغيل المعرفة الاجتماعية التي تصبح معقدة ومركبة في الوضعيات الحياتية الفعلية أو الحقيقية، إضافة إلى قابليتها على أن تكون محفزة أو محركة/معبئة. وتنقسم هذه الأجرأة إلى نوعين مختلفين من حيث طريقة المعالجات: المعالجة السطحية  والمعالجة الآلية.

أما القسم الأخير من هذا الفصل، فيتطرق إلى أنموذج مخالف والمتمثل في نظرية البناء الشخصي  personal construct theory ، وحسب هذا الأنموذج الذي ابتكره George Kelly فالسيرورات والظواهر النفسية شخصية/ ذاتية في المقام الأول؛ أي أنها تقع في ذهن الشخص. فالناس من هذا المنظور، علماء سذج/بسطاء  naive scientistsيقاربون الحياة عن طريق بناء مجموعة من الفرضيات الفعلية قصد التصرف. وكل حدث جديد يتم فهمه عن طريق البناء الشخصي الذي يستمد من التجربة الفردية. وكل مجموعة من الأشخاص الذين لديهم نفس البناء الشخصي تكون لديهم نفس التنشئة الاجتماعية.

 

حمزة الشافعي

ماجستير في الدراسات المقارنة (تخصص لغة انجليزية)

.........................

ترجمة مختصرة لكتاب:

علم النفس الاجتماعي: مقاربات تجريبية ونقدية

Social Psychology

Experimental and Critical Approaches

(Wendy Stainton Rogers, 2003)

 

في المثقف اليوم