قضايا

تشاكل البنى المادية والبنى الثقافية

ali mohamadalyousifتناول الثلاثي ماركس وداروين و فرويد الانسان بابعاده الثلاثة فماركس اوقف تاريخ الانسان على قدميه بدلا من رأسه، وداروين انزل الانسان من علياء السماء الى ماهية الحياة على الارض، وفرويد ادخل الانسان في نفق متاهة كيف ولماذا والى اين !؟

موضوعنا مقولة وردت في غالبية ادبيات الفكر المادي الجدلي ما مغزاه ان هياكل ومرتكزات البنى التحتية المادية – الاقتصادية والاجتماعية السائدة في مجتمع ما هي التي تفرز انماط البنى الفوقية من فكر، ثقافة، ادب، وفن ... الخ . المنبثقة عن تلك البنية التحتانية المتسقة معها، المفروزة عنها .. وفي هذا المعنى تكون بداية تفسير المقولة الفلسفية – الايديولوجية الابستمولوجية (المعرفية) في تلخيص الفرق وتوضيح الاختلاف مابين الفكر المادي الجدلي من جهة والفكر المثالي – البرجماتي لاحقا- من جهة اخرى الذي تعتمده واعتمدته سابقا النظم الراسمالية  الغربية، الولايات المتحدة الامريكية، انكلترا ودول اوربا . فالفكر المادي – الجدلي كما هو معروف يؤكد اسبقية (المادة) على (الوعي) الفكر، والوعي هو نتاج المادة . في حين يذهب الفكر المثالي عكس ذلك اذ يعتبر قدم الوعي، اسبقية الفكر على (المادة) والمادة ماهي الا نتاج الوعي، وعي الانسان لذاته ولوجوده وللطبيعة والكون . واصطلاح (اللاتشاكل) الحضاري – الثقافي انما هو استنتاج وتسمية ماخوذة من سياق معاني تلك المقولة المادية ونقيضها .

فالمقصود باللاتشاكل، اللاتماثل الثقافي هو في لا تماثل البنية التحتية التي تقف على قمة هرميتها المرتكزات الاقتصادية ونوعية العلاقات الانتاجية وملكية وسائل الانتاج السائدة التي يستتبعها نوع العلاقات الاجتماعية السلوكية التي تنتظم حركة المجتمع ومايتفرع عن ذلك من (بنية فوقية) تشمل التشريع والعقائد والاداب والفنون بانواعها .

وهذه المقولة المدرحة في ادبيات الفكر المادي الكلاسيكية تطرق لها عديدون من مفكرين عربا وكتابا وادباءا نذكر من بينهم الشاعر المفكر ادونيس، (ان قانون التفاوت او التطور اللامتساوي والذي يعني ان تطور البنية التحتية لا يلازمه بالضرورة مباشرة تطور البنية الفوقية والعكس صحيح يسمح لنا،ان من الممكن ان يكون الشعر متقدما في مجتمع ذي بنية متخلفة او ان يكون متخلفا في مجتمع ذي البنية التحتية المتقدمة)(1) .وعبر عن نفس هذه المقولة الفلسفية – المعرفية ،  المفكر محمد عيتاني قائلا: (فالتناوب الجدلي احيانا بين فاعلية البنى التحتية والبناء الفوقي واهمية الفكر وسبق الابنية الفوقية، الفكر، الدين، التشريع، الثقافة الفنون احيانا المسيرة المادية للحياة)(2) .

وتناول المقولة ذاتها المفكر المصري د.فؤاد زكريا: (اذ ان الواقع قد يكون هو الاسرع تطورا من الفكر بحيث يعجز الفكر عن مواكبته، وتتمثل هذه السمة الاخيرة في العصر الحديث بوجه خاص وفي المجتمعات السريعة التطور .. ففي هذه الحالة نجد التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والتقنية التي تطرأ على البنية الاجتماعية اسرع وربما اسهل من تغير عقول الناس وقيمهم واساليب تفكيرهم وسلوكهم ونتيجة لهذا التعارض تتلاحق الازمات الثقافية وتتخذ في كل جيل شكلاً جديداً او تطرح من خلال مفاهيم جديدة، ولكنها تظل معبرة عن عجز الفكر عن ملاحقة واقع التطور)(3). وتناول الفكرة ذاتها المفكر اللبناني حسين مروة وكذلك الكاتبة د.ريتا عوض.

اذن اللاتشاكل الثقافي- المعرفي يعني عدم تماثل، عدم اتساق متطابق بنية تحتية بيئية لمجتمع ما، مع بناه الفوقية، الثقافية الفكرية الجمالية المنبعثة / المنبثقة عنه المفروزة منه. فالمجتمع المتخلف اقتصاديا – اجتماعياً لايشترط به بالضرورة ان ينتج عنه بنى معرفية ثقافية وحتى حضارية متخلفة هابطة تشاكل بنيته الاقتصادية والاجتماعية ايضاً. وبالعكس فالمجتمع ذي البنية التحتية- البيئية المتقدمة لايشترط به ايضا كضرورة حتمية ان ينتج عنه بنى فوقية متقدمة من ابداع فكري ادبي، فني، جمالي، مماثلة متسقة، متناغمة مع بنيته التحتية الحديثة المتطورة.(4)

ومما لاخلاف عليه ان المستويات الاقتصادية- الاجتماعية ومراحل ودرجات التقدم الصناعي العصري والتمديني انما تمثل الركيزة الاساسية في تسمية مجتمعاتنا العربية بـ (النامية) أو دول الجنوب أو من ضمن دول العالم الثالث وهو موقع ووضع – رغم تباينات واختلافات – مجتمعاتنا العربية وبنفس الوقت فذلك يمثل خصوصيتها، أي خصوصية المجتمعات العربية.

ومن الملاحظ والواضح جداً ان معاينة وتمايز المؤسسات الارتكازية- الهيكلية، والبنى التحتية والاختلافات البيئية والجغرافية والسكانية لمجتمعاتنا العربية و(انتصار القوى الوطنية والديمقراطية واستيلائها على السلطة في العديد من دول البلدان النامية معرضة لان تحمل معها اخفاقا في جميع حقول الثقافة والفن والادب عندما يلحق بالانتصار والدول الاشتراكية الثقافية المتضررة بافدح الاضرار وموت الادب)(5).

ويؤكد ذلك ماركس : (في الفن نعرف ان بعض فترات ازدهاره المعينة لاتوجد بينها علاقة باي حال وبين التطور العام للمجتمع ولاتوجد بينها علاقة التبعية وبين القاعدة المادية أو هيكل نظام المجتمع في شكل من اشكاله.) (مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي- نقلا عن المفكر عزيز السيد جاسم .) (وبصرف النظر عن مدى واقعية هذا التقرير والاستنتاج الا ان العلاقة بين الوضع السياسي من جهة والوضع الثقافي والفني من جهة اخرى لايمر بديالكتيك الباب الواحد)(6).

بناء على ما مر ذكره يكون هذا النمط من التأسيسات بالنسبة لمجتمعاتنا العربية في بناها المادية التحتية لم يشاكل او يماثل الافراز الفكري الابداعي الثقافي- وهو طبعاً غير الفكر الايديولوجي المسيس- بخصوصياته الادبية، الفنية، الجمالية المتقدمة نسبياً وعندما نقول نسبياً انما نعني بذلك تفاوتاً ومفارقة واسعة ما بين الواقع المادي الهيكلي ومستوى علاقات الانتاج السائدة مع تلك البنى الفوقية المتقدمة (الفكر، الثقافة، الادب، الفنون) .

مثال ذلك تطور التقنية والاسلوبية الشعرية العربية، وتطور التقنية التجريبية في الفنون التشكيلية العربية (العراق، مصر، لبنان، سوريا) وكما في الرواية المصرية، اللبنانية، العراقية والسورية لحد ما.

فهذه النتاجات الابداعية المتقدمة في بعض الاقطار العربية انما انبثقت بوضوح تام جلي عن واقع معيشي – اقتصادي اجتماعي متخلف في اكثر من جانب واحد في تلك الاقطار العربية وتدني لبناها التحتية.

وفي اهمية لا يمكننا اغفالها او تجاوزها ان هذه السمات الثقافية الفكرية الفنية المتقدمة انه كان من عوامل تقدمها و انبثاقها هو عامل التلاقح الثقافي –الحضاري في التاثر بالمستورد المقتبس من معطيات دول سبقتنا في هذا المجال بمعنا اخر تاثر آدابنا وفنوننا بما هو سائد عالميا.... بالحداثة المستوردة واستهلاكنا لها كأي سلعة تحتاجها حياتنا اليومية. ان هذا ليس ابتداعا ولا انتقاصا لما حصل ويحصل الان عندنا في مجتمعاتنا العربية بدرجات متفاوته فقد حصل مثل هذا لدى غالبية من شعوب و امم العالم الثالث خاصة في امريكا اللاتينية في تشيلي، كولمبيا والبيرو، والاكوادور وكذلك بعض الدول الافريقية..... وهو ما يطلق عليه احيانا الغزو الثقافي.

وهذه ما يؤكده توثيقا على مدى اكثر من خمسة عقود، دارسوا تاريخ الادب والفن العربيين وعلاقتهما المتاخرة بالحداثة والتقنية والتجريب التي دخلت بلداننا العربية عن طريق التراجم والدراسات الاكاديمية المتخصصة ... فهم يجمعون عن مدى تاثر غالبية مثقفينا من ادباء وفنانين ومفكرين ايضا بالمتغيرات الاسلوبية والجمالية والشكلية التقنية التي طرأت على الابداع عامة تاثرا بالثقافات الاجنبية اذا كانت هذه الاستجابة للحداثة الاجنبية محاكاة عربية لما وجدوه ايضا بعض دول عالم الثالث لدى الغربيين والاجانب واستفادوا كثيرا من هذا التلاقح والتفاعل الثقافي ...  وكان فضل ترك هامش حرية الاجتهاد والتجريب للاديب العربي والفنان لايستهان به.  علما ان احد مفكرينا العرب يناقض الاستنتاجية التنظيرية مارة الذكر قائلا : (ان كبت الحرية ليست صيغة خاصة بالقوى الظلامية، بل ان القوى التقدمية والاشتراكية تلجا احيانا الى استخدام كبت خاص قد تكون او لاتكون مضطرة له والذي يهمنا هنا هو الكبت غير الاضطراري الذي تمارسه ضد حريات فعالة)(7) ولا نحبذ ان نصاب بالغرور عندما نربط ونقرن تقدمنا العربي ببعض من تلك الابداعات الجمالية في الشعر والفنون التشكيلية والرواية التي انتجها مثقفونا وفنانونا... انننا اصبحنا في هذا المجال، مجال المعطى في البنى الفوقية اصحاب ابداع معاصر يحمل الجودة والهوية المميزة لا يقل اهمية في مستواه التقني الجمالي واسلوبيته الفنية عما هو سائد اليوم عالميا .. وباعتزاز لا نستكثره او ننكره على انفسنا لان في طاقاتنا الابداعية العربية ما هو اكثر اعتداداً من ذلك ... وما مر ذكره استنتاج واقعي وان بدا صحيحا صائبا في ظاهرياته انما علينا ان لا تاخذنا النشوة في الغاء حقيقة اننا لازلنا في بداية طريق سليم لكن  قد يضله وهم سرابي لا يمكننا التأسيس عليه وليس من المغالطة ان من ادرك هذه الحقيقة وان جاءت متاخرة من نقاد ودارسين لا يستهان بارائهم عرفوا هذه الحقيقة ونبهوا لها... فقد وصلت الحداثة المستهلكة لدينا الى طريق مسدود.

ان الفهم التنظيري لفلسفة الفن الذي اخذنا بصوابه وصحته هو مفهوم كما مر بنا يمر ويلتقي بالمقولة المادية الجدلية التي اشرنا لها يجب ان لا يقودنا الى فهم وتطبيق خاطئين لمقولة ان المجتمعات المتقدمة او النامية، ومجتمعاتنا العربية جزء منها . يحتمل ان تنتج احيانا مظاهر ابداعية جمالية فنية متقدمة وهو ما لا يجب الركون للاخذ به (عربيا) لان لا تشاكل ولا تماثل البنية التحتية المتخلفة في اغلب جوانبها  مع البنية الفوقية الثقافية العربية المتقدمة في بعض جوانبها مقولة ناقصة ومن واجبنا ان لا نعتمدها كلية بل والافادة منها كابداعات فردية فقط، وللتوضيح:

اولا : البنية الابداعية الثقافية الفنية كافراز فوقي على افتراض انها وصلت قريبا جدا من العالمية من جهة ... ولا تتسق ولا تشاكل الوضع التحتاني المتردي اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا لدينا... فهي تكون كنتيجة طبيعية وان بدت متطورة فهي مهجنة معزولة عن تربة استنباتها الطبيعي فاقدة تماما قدرة التاثر والتاثير المباشر وغير المباشر في الوسط الاجتماعي المتلقي .. فهي تفقد صفتي (المحلية) والتاصيل (الهوية) وفي هاتين الصفتين فقط يستطيع الابداع  العربي ولوج الطريق الذي يقود الى العالمية عن جدارة واستحقاق وليس عن محاكاة واستيراد .

فالحداثة التجديدية والتقنية الاسلوبية المتطورة لا تعوض نقصان الاصالة التي يحتاجها ابداعنا العربي ولهذه الحالة استثناءات هي في صالح (المبدع) العربي قطعا .

ثانيا : ان المجتمعات العربية في مرتكزاتها المادية والبنية التحتانية المتخلفة انتجت – لأسباب سابقة اوضحناها – وتنتج الآن أحيانا ابداعات ادبية وفنية متقدمة تقنيا جدا اصيلة مستوفاة لمواصفات حمل ملامح المحلية وتاكيد اصالة الهوية القومية، لكنها ولعوامل سياسية او غيرها من العوامل محدودة الدور، مؤطرة التاثير في اخذ نصيبها في تغيير المجتمع والتأثير ببناه التحتية المتسمة بمظاهر التخلف والجهل والتفاوت الاجتماعي والعمل على تخليص الانسان العربي من الاستلاب الذي انفرزت منه وتمردت على عوامل عبوديتها وانثلام جزء من مهمتها في تهيئة كامل المجتمع العربي لنقلة نوعية تمدينية ... ولاسباب كما قلنا معقدة ومتشابكة منها مايعانيه المبدع الفنان من تضييق مباشر على حريته من اخذ دوره في الاسهام تنويريا –تحديثيا- اجتماعيا في مضايقته والضغط عليه في اكثر من جانب يخص حتى تفاصيل حياته المعيشية اليومية حتى يتم ايصاله الى احذ اختيارين اما الهجرة خارج بلده او الرضوخ لاساليب تدجينية للانخراط في صفوف خدمة المؤسسات الاعلامية – الثقافية الرسمية .

فيما يلي استطراد لوضع امثلة عن اللاتشاكل الابداعي الحضاري لسوابق تاريخية وشواهد حضارية ماثلة الى اليوم يصح معها الاستدلال بصحتها ام لا لنعرف مدى صحة وصواب مطابقتها مع ما ذهبنا او خطأه... نبدأ في اهرامات مصر وما تركه لنا الفراعنة من حضارة متقدمة في جوانب منها لا زالت حتى الان بعض حلقات كشوفاتها الاثارية لغزا محيرا ... ولنترك التفاصيل الخاصة بالجوانب الهندسية والاثارية، لنسال فيما له صلة بموضوعنا عن اللاتشاكل الثقافي والحضاري ... كيف انبثقت تلك الحضارة الفرعونية في ظل نظام (عبودية) وعلاقات انتاج حرفية متخلفة بمعنى ان البنية التحتية العبودية التي تقسم المجتمع المصري انذاك الى طبقة العبيد والحرفيين، وطبقة الكهنة والملوك وعلاقات انتاج متخلفة بمعنى ان البنية التحتية لذلك المجتمع لا تؤهل انسان ذلك العصر، ولا تمكنه من تاسيس نمط حضاري رائع ماثل الى يومنا هذا بتميزه و مؤهلات ابداعه. وهذا مثال اول على ان تخلف البنية التحتية يمكن ان ينفرز عنها بنى حضارية فوقية متقدمة جداً.

وقل مثال ذلك فيما تركه السومريون والبابليون والاشوريون في العراق (حضارة وادي الرافدين) وقل مثل ما فعله الفينيقيون على سواحل بلاد الشام سورية، وفي تونس ما فعله القرطاجيين من حضارة. هناك شواهد اثارية ماثلة في مناطق عديدة في العراق تبعث على الاستغراب والدهشة والحيرة الدائمة والاعجاب ... في العراق كشفت منذ زمن بعيد التقنيات الاثارية (رقم) طينية عليها كتابات رياضية وهندسية وحسابية منقوشة  على مرمر، وطين مفخور تعود الى عهد الاشوريين ...واللافت للنظر العبقرية في اكتشاف حسابات رياضية بارقام ومراتب يعتبر التوصل والتعامل والاستفادة منهاعصر ذاك من (المستحيلات) التي لا يقبلها العقل حتى المتخصص بسهولة وهذه الرقم اكتشفت في منطقة نينوى عاصمة الاشوريين الذين استوطنوا شمالي العراق والمنطقة الان تقع ضمن مدينة الموصل .

والاكثر استغرابا ان اكتشف مؤخرا بعد العثور على (رقم طيني) يعود لعصر البابليين الذين استوطنوا وسط وجنوب العراق، اكتشفوا فيه مقياس النسبة الثابتة ( 22/7 أي 3.14) في تعيينهم نسبة محيط الدائرة الى قطرها، وهذا ما هو مثبوت في علم الهندسة والرياضيات الحديثة المعاصرة  .

مثال اخر حيث ابرزت  التقنيات والاستكشافات الاثارية لعلماء (الاركيولوجيا) علم دراسة فنون وحضارات عصر ما قبل التاريخ عن وجود بقايا حضارة قبائل (الانكا) ممثلة بتماثيل كبيرةجدا في (بيرو) مصنوعة من قطع حجرية زنة الواحدة منها كذا مائة طن، بلغت ضخامتها وثقلها، انه بالكاد الان بعض الرافعات تستطيع حملها ورفعها ووضعها على ارتفاع كبير في اماكنها ...

اضف لذلك كيف يمكننا تعليلا علميا في وجود مثل هذه  الحضارة وانبثاقها في زمن ومرحلة من التاريخ البدائي البشري لتلك القبائل المتخلفة، محصلة الجهد الفكري والابداعي الفني لانسان تلك القبائل في حينها، لاتسعفه مخيلته ولا يمكنه ذكاؤه السطحي من صنع تماثيل بحجم لعب اطفال .!؟ وامام اللاتشاكل الحضاري الغريب في اماكن اخرى من العالم بدا البحث الاثاري العلمي ايجاد اجابات مقنعة . فكيف يمكن تعليل ازدهار ارقى حضارة –فلسفية في اليونان وعلى قمة ازدهار هذه الحضارة ازدهار الفلسفة وعلوم الرياضيات في ظل نظام كان يعتبر (العبودية) التي تسودها طبقة النبلاء من فلاسفة ومفكرين، دستورا وتشريعا (مقدسا) لا يمكن المساس به حتى في تفاصيل الحياة اليومية وتقسيم العمل وعلاقات الانتاج اللاانسانية ومثل ذلك حصل في الحضارات الشرقية في الصين والهند و بلاد فارس. وكانت اول نواة للالعاب الاولمبية هو عند الاغريق واول نواة للديمقراطية عند الرومان ممثلا في مجلس الشيوخ الذي كان له حق محاسبة يوليوس قيصر نفسه.

ان (توينبي) الفيلسوف المؤرخ الانجليزي يذهب الى ان العبقرية الحضارية للامم و الشعوب تنتجها عقول النخبة او الصفوة في المجتمع ... اما افراد المجتمع حسب تعبير (غوردييف)  انما هم نماذج للادوار فقط ... اذن حسب اراء اولئك ليس هناك علاقة ارتباط جدلي بين العامة والخاصة في انتاج العبقرية الحضارية.

واليكم هذه المعلومة الغريبة نقلا عن الاستاذ الدكتور احمد ابو زيد في معرض ترجمته عن بعض الاستكشافات العلمية (الاركيولوجيا) أي دراسة اثار ماقبل التاريخ، العصور الحجرية . يقول الاستاذ الدكتور ابو زيد :

في عام 1875م خرج احد الباحثين الاركيولوجيين الاسبان ويدعى (مارشيلوساوتولا) يتجول متنزها بصحبة كلبه ... وبعد مدة افتقد كلبه فناداه بصفارته ...فلم يلب الكلب نداء صاحبه ولم يعد فاستغرب الامر وقام بالبحث عنه حتى وجده داخل ممر طويل يفضي الى مغارة اوصلته الى كهف مطمور تحت الارض قديم جدا، يرجع تارخه الى العصور الحجرية ... بعد ذلك باشر الرجل عمله واذا به يكتشف كهفا يعود الى العصر الحجري ويدعى الكهف الان (التاميرا) فادهشه روعة الفن وجمالية الرسوم على جدران الكهف الذي مضى عليه الاف السنين واشد ما ادهشه محافظة الالوان الاصفر، والاسود، والاحمر، والابيض على بريقها وجمالها...واستقدم العشرات من المعنيين من متخصصين وحكوميين ليطلعهم على استكشافه فدهشوا جميعا، ولم يصدق واحد منهم ولا كان مقبولا ان يصدق احد قبل مائة عام من الان ان انسان ما قبل التاريخ كان يتمتع بمثل هذه القدرات الفنية العالية الجودة و الاتقان ... واسوأ مافي الامر هو اتهام معظم المتخصصين بعلوم الاثار لـ(مارشيلو ساوتولا) بالتلفيق والكذب سعيا وراء الشهرة وكسب المال وانه هو الذي قام بتزوير تلك الرسومات والصور على جدران الكهف ونسبتها الى ابداع انسان ماقبل التاريخ وبقيت هذه التهمة الملفقة ثابتة على الرجل حتى وفاته … ولم يصدقه سوى صديق واحد له فقط … وبعد مضي عشرات من السنين وبعد ان قامت الحكومة الاسبانية والجهات المعنية باستغلال الكهف ورسوماته سياحيا ثم اغلاقه باوقات معينة من الاسبوع . من باب الصيانة والحرص على رسومات الكهف ... تاكدوا بعد فوات الاوان صدق (مارشيلو ساوتولا) وان الرجل لم يكن كذابا ولا هاويا باللعب واستغفال الناس وراء الكسب المادي والشهرة ورد له اعتباره احد ابرز المتخصصين في علم الاركيولوجيا لياكده اخرون من العلماء والاثاريين المتخصصين ... ومما يخفف من وطاة الخطأ الفادح وظلم الرجل انه كان من السائد منذ قرن مضى هو ان انسان ماقبل التاريخ لا يرتفع مستوى ذكائه عن مستوى ذكاء القردة العليا وهو مستوى لا يسمح بانتاج هذا الفن الرائع، وساعد على تكريس هذا الاعتقاد الخاطئ والشك في امكان تصديق رجوع ذلك الفن الى تلك الفترة السحيقة  شدة التباين بين هذه  النقوش والصور وبقية المخلفات المادية التي تم العثور عليها في منطقة الكهف مثل الادوات التي كان يستعملها والاسلحة الحجرية اذ كانت جميعها على درجة كبيرة من البداءة والفجاجة (انتهت شهادة الاستاذ ابو زيد مع التصرف بعض الشئ بها).

قبل غلق نماذج هذه الاستشهادات الحضارية الفنية الجمالية لابد من التذكير بانه صدر كتاب لمؤلف ألماني، (عالم اثار ودراسة نشوء الحضارات)، بعد نزول اول انسان على القمر (ارمسترونغ) في تموز عام 1969 ، وظهرت طبعة الكتاب الاولى في بداية السبعينيات، ترجم الكتاب الى (32) لغة اجنبية – طبعا ليس العربية من بينها- وبيع منه ملايين النسخ  وقد استعرض الكتاب بعد صدوره في السبعينيات الاستاذ ذو النون ايوب على صفحات مجلة الآداب الذي توفي في النمسا وترجم عنوان الكتاب باسم (عربات الآلهة) والكتاب مليء بالشواهد التي مررنا ببعضها.. وينطلق الكتاب في تحليله لهذه الشواهد الحضارية الراقية جداً، بمنطق من الخيال العلمي وفرضية لا يقبلها العلم الحديث، ودحض عدم صحتها بعض الاختصاصين وكان من بينهم امريكياً اصدر كتابا يدحض ما جاء به عالم الاثار الالماني حسب اعتقاده- وهذه الحجة ساقها العالم الالماني ربما للاثارة في بيع الكتاب اكثر منها كحقيقة علمية يمكن قبولها – بان بقايا تلك الحضارات القديمة الموجود بعضها على كوكب الارض هي ليست من صنع وابداعات انسان الارض وانما جاءتنا من كواكب اخرى تسبقنا جداً في التفوق الحضاري غزت في مراحل سحيقة من القدم كوكب الارض وأقامت عليها هذه الشواهد!!

الان نعود الى الاصل لمحاولة الوقوف على تعليل علمي لحصول مثل هذه المفارقات الحضارية العجيبة عن انسان بدائي وانظمة مشاعية متخلفة جداً ... وذكاء متدن ويمكن الاستدلال بشواهد من هذا النوع بما لا حصر له.... ولا حصر لتأمله...

ومن مجموعة الامثلة التي استطردنا في سوقها يتأكد صحة ان تكون احيانا- في ظروف ذاتية وموضوعية خاصة – البنية المادية والاقتصادية والاجتماعية لمجتمع متقدم ما او اكثر من مجتمع واحد، لا يشترط بالضرورة ان تفرز فكرا وأدباُ او فنونا او أي نمط ابداعي اخر، متقدماً ايضاً يشاكل ويماثل البنية التحتية- المادية المتقدمة – وابعد من ذلك حتى في حالة حضور عوامل مساعدة تطابق اشتراطاتها موجات من المدنية والتحضر المادي على صعيد تطور المجتمع ورفاهيته، تطابق اشتراطاتها المادية التحتية المتقدمة والمتطورة فالفنون والاداب في هذه المجتمعات المتقدمة احتمال كبير ان تظل متخلفة.

بل احيانا يحدث العكس تماما وهو الصحيح، فقد نجد ادابا وفنونا متقدمة اسلوبيا وابداعيا نشأتها في الاصل واقعا اجتماعياً وعلاقات اقتصادية متخلفة لاتواكبه، ووعي ثقافي جمعي متدنٍ تعكسه طبيعة العلاقات والممارسات السائدة في ذلك المجتمع... وهذا مايؤكد بروز عمالقة في شتى ضروب الابداع الادبي والفني والجمالي والفلسفي من ذوي الشهرة العالمية من انتاج ابداعي لا يماثل ولا ينسجم مع تخلف المرتكزات المادية للمجتمع من جهة ولا يتسق مع طبيعة العلاقات البيئية المجتمعية لبلدانهم مثلما حصل هذا ابان روسيا القيصرية بظهور تولستوي، دوستوفسكي، غوركي، بوشكين...الخ وحصل في المانيا وبروسيا سابقا، هيجل كيركارد، نيتشه، وحدث في اسبانيا ابان الحرب الاهلية من امثال لوركا وفي دول امريكا اللاتينية بابلونيرودا، مارسيل غارثيا ماركيز وهكذا.

ولو لم يكن الامر كذلك في عدم تشاكلهم مع طبيعة بنى مجتمعاتهم المادية والسياسية المتخلفة، لما كانت لابداعاتهم تلك الروعة والاصالة المتقادمة زمنياً بما منحها خلودا ومجايلة لاحقاب زمنية طويلة، والشيء نفسه حدث مع ابداعات نجيب محفوظ ويوسف ادريس وجيل من عمالقة الادب الروائي والمسرحي في مصر. وتكرر الشيء ذاته مع عمالقة الثورة الفرنسية98(فكتور هيجو وآخرين).

نعم للموهبة الفردية خصوصيتها العبقرية في هذا المجال لكن تأثير البيئة الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية لايمكننا فصلها عن تنامي الموهبة الفردية ولا نعنى بذلك مؤاتاتها وتسايرها مع الموهبة الفردية وانما قد تظهر العبقرية مع عنفوان علاقتها الرأسية المتقاطعة بكل ما يحيط بها من بنى اقتصادية واجتماعية عامة.

ابعدنا هذا الاستطراد قليلاً حول اللاتشاكل الحضاري – الابداعي عن جوهر ما يهمنا من الموضوع (عربياً) في تأكيد ان مجتمعاتنا العربية حصل فيها نوع من اللاتشاكل الثقافي الحضاري الجزئي الموتور ....حصل مثلاً الابداع التجديدي الحداثي في الشعرية العربية والرواية والفنون التشكيلية ما شكل ابداعا متمايزا يقارب في جودته واهميته بالقياسات الفنية والمعيارية الجمالية البحتة الصرفة (العالمية) مع ان البنية التحتة وتشكيلاتها المادية (والاقتصادية الاجتماعية) لمجتمعاتنا العربية لاخلاف انها كانت رغم تباينها يبدو ملحوظاً جداً انها بنى متخلفة بكل المعايير ...

ومن المهم ان نؤشر هنا ان التقدم الابداعي في تلك المجالات الثقافية في الشعر والرسم والرواية، لم يكن بروزه الاساس ردة الفعل على عدم التماثل والتشاكل مع الواقع العربي المتخلف وحسب وانما من عوامل بواعثه الحداثوية – التجديدية في تأثر تلك الانماط من الثقافة العربية الجمالية، بالحداثة الاجنبية المقلدة المتفاعلة المقتبسة، في متابعات مثقفينا وملاحقة فنانينا لقطار المعاصرة العالمية والافادة منها على صعيد اغناء نزعة التجريب الفني الذي اخذ بصيغ التجريب الشكلي واعتماد اساليب التقنية الحديثة.

لكنما القصور او الاستغفال الذي تم بصيغ الاستيرادات في وسائل التقنية والتجريب التي اعتمدت ووظفت فنياً هو ادراكنا بعد مضي سنوات طويلة من الركض اللاهث وراء الحداثة الاجنبية اننا وجدنا انفسنا بأن تطور بنية المجتمع العربي المادية التحتية المجتمعية رغم مرور عقود على سيرورة تقدمها البطيء والتركيبة التي اثرت على مسيرتها بمكوناتها السياسية والاقتصادية وحتى الثقافية الاعلامية بغالبيتها مجتمعة كلها لم تستطع او تتمكن من انتاج فعالية من الموجات والمدارس والاتجاهات الابداعية والفكرية من ثقافة جمالية فنية متنافسة احيانا او متقاربة الاتجاه والهدف احيانا اخرى على صعيد تشكيل بنى فوقية متقدمة منبثقة ومتخلقة عن بناها التحتية والمرتطبة معها بنسغها الصاعد والنازل معها...

لذا وجدنا بقاء الحداثة الشعرية وشكل القصيدة الجديدة لمضامينها وان توفرت لها صفة المعاصرة بلا قارئ... وظلت اللوحة التشكيلية بعيدا عن ضوء التنوير الانساني تستجير بظلال جدران المعارض التي لا يرتادها اكثر من المهتمين او المتلاقين في المرفق الوظيفي الثقافي والاعلامي والواحد...

بالتاكيد انتجت التركيبة التحتانية المتخلفة للمجتمعات العربية بالقياس لثقافة ووعي المبدع ادبا ونقدا ونتاجات شعرية وقصصية على صعيد التداول النخبوي المحدود والمعزول اجتماعيا مسوقة بهيمنة الحداثة ولافتة او اعلان التجريب الفني الاجنبية المقطوعة الجذور المنبتة عن عجزها من انتاج وعي ثقافي عصري متكامل مع شروط تقدم الحياة الى امام يحملها عامل الزمن المعاصر بالتغير المستمر نحو الافضل ... الاكثر انسانية واثراءاً لمجمل مناحي الحياة العملية...

وبهذا بقي المنجز المتحقق ابداعيا ادبيا وفنيا بما يحمله من تقنية اسلوبية وجمالية فنية او ذا فواصل زمنية بعيدة جداً عن المتلقي غير المتخصص .. او غير النخبوي.

بمعنى ان هذا الابداع لم يجيء ولم يعش ويعايش الحياة بتفاصيلها وعوامل حركتها التي هي تركيبة المجتمع التحتية... ولم يتمكن الابداع الثقافي والفني لهذا السبب من التأثير بالتركيبة الاجتماعية لشرائح المجتمعات العربية لانعدام روابط الاتصال ووسائط التواصل بالتاثر والتاثير... وفقد الغالب الاعم- المتوفر على قدر معقول من العالمية- على مدى عقود من الزمن من الابداع الادبي والفني من امكانية الحصول على مقعد دائم له في دوائر وصالونات الثقافة والفنون الاجنبية التي لاتهدأ منافستهم في المستورد من الأجنبي... والسبب هو طموح النتاج العربي للوصول الى العالمية كان فاقداً لميزاته البنيوية والاجتماعية العربية بما يستكمل الاصالة في تحقيق (المحلية) وتحقيق (الهوية) المميزة لكل شعب او امة. وما تحقق كأمثلة من ضروب الادب والفن المتطور تقنياً، وان تجاوزت في لغتها الفنية واسلوبيتها وجماليتها تركيبة الواقع العربي في بناه التحتية المتخلفة لمراحل طويلة...فهو بحق كان ابداعا ارقى ويعلوا على العوامل المادية والاجتماعية المفروز منها والمنفصل عنها ايضا.. اغلب شرائح مجتمعاتنا العربية للسبب المذكور انفاً التي تطبعها عوامل من الجهل والتخلف والامية، والانسانية المستلبة والمغيبة في المحصلة النهائية لم تستوعب هضم الابداع المتفوق على تركيبتها في مجمل نواحي حياتها... عليه بقى الابداع المتمسك بصيغ المعاصرة من حداثة وتجريب فني سائد يمثل في اكثر الامور قياسا ايجابيا (امتيازات) منفردة لمواهب متناثرة تظهر في هذا القطر العربي لتختفي في ذاك وهي ان استطاعت وفعلا حصل ذلك متوفرا لها ان تقتطع من الحاضر المحلي او الاقليمي تاريخا لها... ولم يكن بمقدورها ان تضمن او ان تؤمن ان لايكون المستقبل القريب تجاوزا تاما لها واهمالا مقصودا او غير مقصود .ان الحداثة الاجنبية التي لبست الواقع العربي المتردي حتى في تركيبته الثقافية ومحصلة الوعي للانسان العربي ثقافيا انما كان بجانب منها عملية تهجين مصطنع ومصنع من قبلنا اصبح معه لكل جديد قيمة زائفة وان بدت الكثير من الاعتبارت غير صادقة مع النفس والاخرين بالتمسك باصالتها... وحكم الزمن هو الفصل حتماً.

 

علي محمد اليوسف-الموصل

...................

الهوامش:

(1) مجلة الآداب – بيروت – ع3-1973م، ادونيس – مشكلات التعبير العربي الشعري.

(2) القرءان في ضوء التفسير المادي الجدلي- بيروت- 1974م د.محمد عتياني ص102.

(3) مجلة الفكر المعاصر -10ايار – حزيران 1975م، ملف خاص بعنوان: (الاستقصاءات النظرية عن طبقية الفن) .المفكر العراقي عزيز السيد جاسم ص127-293.

(4)  نفس المصدر السابق نفس الصفحات.

(5)  نفس المصدر السابق نفس الصفحات.

(6)  نفس المصدر السابق نفس الصفحات.

(7)  نفس المصدر السابق نفس الصفحات.

 

في المثقف اليوم