قضايا

بين التجديد والتزييف

الصيحات الداعية لتجديد الدين كثيرة، منها صيحات صادقة ومخلصة، يحرص اصحابها على تقديم الصورة الحقيقية للدين، ومنها صيحات ظاهرها الاصلاح ومصلحة الامة، وباطنها التخريب والتشويه والتزييف للدين ورسالته . ولكن ماهو التجديد؟ هل هو دعوة مفتوحة منفلتة لاضوابط لها، في الاخذ بكل جديد؟ وهل كل جديد ايجابي يحقق مصالح الامة، ويلبي حاجاتها؟ وهل كل قديم سلبي، ينبغي رفضه جملة وتفصيلا؟ وهل كل قديم استنفد اغراضه، ولاحاجة لنا به؟ البعض يتحدث عن قطيعة تامة وشاملة مع التراث ومع كل قديم وكاننا امة مقطوعة الجذور، والبعض يعيش في كهوف التاريخ وزواياه المظلمة في قطيعة تامة عن العصر. هل نستطيع ان نتلمس طريقا وسطا بين هاتين النظرتين المتنافرتين؟ .

 قبل الحديث عن التجديد لابد لنا من تحديد مفهوم التجديد، لكي تتضح الامور، وتكون مسالة التجديد في نصابها الصحيح، واضحة جلية، لالبس فيها ولاغموض .

التجديد لغة

جدد الشيء في اللغة: جعله جديدا، وجدد الثوب اذا رممه، وازال النواقص التي اعترته، وارجعه الى حالته الاولى؛ فهنا التجديد: هو احياء الشيء، والعودة به الى الاصل، فالتجديد هو العودة الى الاصول لاالغاء الاصول، واختراع اشياء لاتمت الى الاصل بصلة، فاختراع الجديد "في مجال الدين والافكار، لا في مجال المخترعات المادية"، الذي لايمت الى الاصل بصلة، يسمى دينيا ابتداعا لاتجديدا . وفي هذا يقول الكميت:

هل للشباب الذي قد فات مردود ام هل لراسك بعد الشيب تجديد، وقد استخدم القران الكريم لفظة "جديد"، يقول الله تعالى: "افعيينا بالخلق الاول بل هم في لبس من خلق جديد" . ق: الاية: 15 .

وقوله تعالى: "وقالوا ائذا ضللنا في الارض ائنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون". السجدة: الاية: 10 .

ضوابط التجديد

البعض يتصور ان عملية التجديد عملية منفلتة، لاتخضع لمعايير ولالضوابط، كالسيارة التي تتحرك بسرعة جنونية بلا فرامل، فنسبة التجديد الى الدين كنسبة الفرامل الى السيارة، لانقول لك لاتقد السيارة، ولكن نقول: قد سيارة بفرامل، ولاتقد سيارة منزوعة الفرامل . وكذلك الامر مع من يقوم بمهمة تجديد الدين، وهي مهمة شاقة وجليلة، لابد له من مراعاة الضوابط والمعايير، وهو يقوم بعملية التجديد .

 البعض يتصور ان عملية تجديد الدين مهمة سهلة، وبامكان اي شخص ان يكون مجددا في الدين ولو لم يفهم مقاصده وروحه ومذاقه، واوليات معارفه . لايمكن ان نضفي لقب "المفكر الاسلامي" على كل من كتب في الاسلام، حتى لوكان موظفا في وزارة المستعمرات والتي كان معظم المستشرقين موظفين فيها يخدمون الاهداف الاستعمارية .

 المستشرقون كتبوا في مختلف جوانب الثقافة الاسلامية من عقيدة، وفقه، وتفسير، وتصوف، وعلم كلام، ولكن هل يمكننا ان نطلق على كل هذا النتاج الاستشراقي بانه فكر اسلامي؟ وهل نعتبر المستشرقين الذين معظمهم كان يكتب بدوافع ايديولوجية، مجددين ومفكرين اسلاميين؟ اهم خصيصة وصفة لازمة للفكر الاسلامي هي الربانية، التي تميزه عن افكار البشر، وهذا لايعني اننا نغالي بالفكر الاسلامي، وندعي له العصمة، فالفكر الاسلامي هو فهم بشري للنصوص الاسلامية وفق ضوابط ومعايير محددة .

 الكثير من المغتربين كتبوا في الاسلام، وانتجوا لنا فكرا غريبا بعيدا عن روح الاسلام ومقاصده، فهل نعتبر انتاجهم المعرفي فكرا اسلاميا، وتجديدا للنص الديني؟

 المفكر الاسلامي، والمجدد في التفكير الاسلامي، يجب ان يستهدي بثوابت الاسلام، ويفهم نصوص الاسلام جيدا، ليستطيع استنباط الفكرة الاسلامية، كما يستنبط الفقيه الاسلامي الحكم الشرعي من المصادر المقررة .

 ولذلك لانستطيع ان نطلق على الفرق التي تجاوزت الثوابت الاسلامية، كالبابية والبهائية والقاديانية، وانكرت ختم النبوة، التي تعتبر ثابتا اصيلا، بانها فرق اسلامية عملت على تجديد النص الديني.

 المفكر الاسلامي الذي يحمل راية التجديد ينبغي ان يلم بمجموعة من العلوم والمعارف كعلوم اللغة، والتفسير، والفقه، والحديث، وعلم الكلام، ليتمكن من فهم روح الشريعة ومقاصدها .

لايمكن لهذا المفكر ان يخترع فكرة خارج اطار الدين وثوابت الشريعة، ونطلق عليه مفكرا ومجددا اسلاميا، انما التوصيف الحقيقي له انه: "مبتدع" .

المجدد لايكون جاهلا يخوض بما لايعرف؛ لان الله تعالى يقول: "ولاتقف ماليس لك به علم ان السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤولا" . الاسراء: الاية: 36 .، ولايكون مغاليا متجاوزا للحدود، يقول الله تعالى منددا باهل الكتاب على غلوهم: "يااهل الكتاب لاتغلوا في دينكم ولاتقولوا على الله الا الحق" . النساء: الاية: 171.

 ولا يكون المجدد محرفا، يمارس عملية التحريف والتزييف: "ومن الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه" . النساء: الاية: 46 .

ولايلوي المجدد عنق النصوص لتحقيق اهوائه ورغباته ومصالحه، يقول الله تعالى:

" ليا بالسنتهم وطعنا في الدين " . النساء: الاية: 46 .

" يحرفون الكلم من بعد مواضعه " . المائدة: الاية: 41 .

 والخلاصة: ليس كل من كتب في الاسلام، يمنح لقب المفكر الاسلامي، والمجدد الاسلامي، وغيرها من النعوت، وانما هنالك ضوابط ومعايير لمنح هذه الالقاب، واعطاء هذه النعوت .

 

زعيم الخير الله

 

 

في المثقف اليوم