قضايا

التجربة الصوفية لا تتم إلا بالمجاهدة

eljya ayshباحثون في الفكر الصُّوفي: "أهْلُ البَيْتِ" منبع "التَّصَوُّفِ فِي العَالَم الإسْلاَميِّ كُلّهِ

أرجعت دراسة أن ظهور التصوف في العالم الإسلامي بدأ على يد أهل البيت، وذلك انطلاقا من الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم الإمام علي سلام الله عليه، ومنه انتقل التصوف إلى ابنه الحسن، ثم الحسين بن علي، وأخذه عنه أبو جعفر محمد البدير، ثم جعفر الصادق بالمدينة المنورة سنة 200 هجرية، ثم إلى الشيخ معروف الكرفي ببغداد، ثم الإمام الجنيد سنة 221 هجرية، ومنه انتقل التصوف إلى الإمام أبو يزيد البسطامي سنة 234 هجرية، ثم الإمام الحبيب العجي وأخير الإمام الحسن البصري، والطرق الصوفية عديدة، يذكر المؤرخين الطريقة الرحمانية، الطيبية الوزانية، الطريقة العمارية، التيجانية، القادرية وغيرها..

 التصوف هو علم يُعْرَفُ به تزكية النفوس وتصفية الأخلاق وتطهير الظاهر والباطن لإدراك السعادة الأبدية، يقول ابن الجوزي في كتابه " تلبيس ابليس" أن التصوف ظهر قبل سنة مائتي (200) للهجرة، وقال الأوائل ان التصوف عندهم رياضة النفس، ومجاهدة الطبع برده عن ألخلاق الرذيلة، ولقد اجمع علماء الإسلام وفي مقدمتهم الإمام القشيري الذي هو أقرب عهدا من زمن ظهور التصوف أنه لا يعرف كيف أتت هذه التسمية ، ويؤكد القشيري في رسالته أن التصوف لا اشتقاق له من جهة العربية، ولا قياس، ولهذا يظل التصوف في الثقافة العربية الإسلامية مجهول الأصل، غير أن العلامة عبد الرحمن ابن خلدون عرفه في مقدمته الشهيرة على انه علم من علوم الشريعة الحادثة في الملّة، وأصله أن طريقة هؤلاء لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين، والانقطاع إلى الله والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، كما اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة.

و قد ورد في كتاب "نصوص غير منشورة" الذي جمعه ونشره العلامة ماسنيون، أنه لم يكن السالكون لطريق الله في العصور السالفة والقرون الأولى يعرفون التصوف، وإنما الصوفي لفظ اشتهر في القرن الثالث الهجري، والصوفي كما يقول أبو الزكات البلفيقي هو رجل عادل، تقي صالح، ولا مخل بأدب من الآداب، لا ينتصر لنفسه، ولا يفكر في غده، العلم خليله والقرآن دليله، والحق حفيظه ووكيله، نظره إلى الخلق بالرحمة، ونظره إلى نفسه بالحذر والتهمة، ويقول المتصوفة أن المبادئ الصوفية النقية هي التي تعبر عن روح القرآن وجوهر السنة النبوية، وهذي المبادئ هي التي تتلمذ أصحابها على أفعال الرسول، والتجربة الصوفية كما يقول الجنيد لا تتم إلا بالمجاهدة، والمجاهدة لا تتم إلا بالصبر على قهر إرادة الجسد، وطرح رغبات النفس المادية، والصوفي أو المتصوف رجل رقيق المشاعر نقس القلب، لا يفكر في نفسه ولا في مصلحته، ويقدم مصلحة الناس والأمة على كل شيئ، تموت بداخله كل النزعات البشرية من أنانية وجشع وحب للسلطة والتهافت على الدنيا، وعماد الصوفية هي حب الخير للناس.

فقضية الصوفية والتصوف يحتلان أهمية كبرى في الحياة الفكرية المعاصرة، كونها من القضايا الشائكة والمعقدة في التاريخ الثقافي والديني، ولطالما دار حول هذه المسألة جدال كبير وأسالت الكثير من الحبر، خاصة بعد ظهور الحركات الإسلامية والسلفية على الخصوص، فقد كان ينظر إلى المتصوف ذلك الإنسان "الزاهد" الذي طـَلـَّقَ الدنيا وتركها كلية وتعلق قلبه وعقله بالخالق وحده، مقتديا في ذلك بالرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال في حديثه "كن في الدنيا كأنكَ غريبٌ أو عابـِرَ سبيلٍ"، والداعي إلى تحرر النفس من الشهوات والملذات وتطهيرها غير آبه بما يحدث في العالم من تغير وتطور، ويجعل من التأمل الدائم في ملكوت الله مسلكه حتى يصل إلى حالة من الذهول، كل هذا بحثا عن الكمال، الذي يتمثل كما يقول أهل الاختصاص في التأمل الروحاني يوصل صاحبه إلى مستوى وجداني قد يجعله يتحد مع ربه بعدما يصفي باطنه من الرذائل ويحليها بأنواع الفضائل، ولو أن البعض ذهب إلى التفريق بين (التصوف والزهد) ونفوا وجود الزهد في الإسلام نفياً قاطعاً، واعتبروه بـِدْعَةً دخيلة على الدين.

إخوان الصفاء وظهور الحركة الصوفية

 يفرق الباحثون بين الطرق الصوفية والمرابطين، وعلى حد قولهم فقد تعايش رجال الطرق الصوفية في بداية أمرهم مع المرابطين مظهرين احترامهم لما اكتسبوه من نفوذ ثم أخذوا يحلون محلهم حتى أدمجوا فيهم كلية، ولأن الصوفية مشتقة من الصفاء فلعل أول فرقة نشأت هي فرقة "إخوان الصفاء" كمذهب فلسفي في حوالي القرن الرابع الهجري بعد ظهور الحركة الصوفية، وكما قال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: إن عصرنا هذا عصر حضارة ذكية الفكر عارمة الهوى وليس يجدي في تقويمها إلا أصحاب بصائر نيّرة وقلوب عامرة لهم من رحابة ألإطلاع والأفق ما يسدد حُكـْمَهُمْ ويـُقـْنِعُ خُصُومَهُم " وقبل هذا أشار الشيخ محمد الغزالي إلى أصناف الناس وكان ما يُشْعِرُهُ بالضيق صنفان من الناس: (صنف حار العاطفة قليل الدراية، وصنف ظاهر الجحود لا يدري شيئا أو يدري الأمور على نحو بعيد من الحقيقة)، كما أن معظم الكتابات التي نوقشت في هذا المجال (الفكر الصوفي والطرق الصوفية والزوايا) تعود إلى المستشرقين، وقام باحثون بترجمتها والتحقيق فيها، لاسيما والكتابات حول الطرق الصوفية ما زال يلفها الغموض لاختلاف الأفكار والميول والمذاهب، ووقع الباحثون في تضارب وتناقضٍ انقسموا إلى مُؤيد ومُعارضٍ، وقد عرّف الدكتور محمود العقيل من سوريا باحث في الدراسات القرآنية والإسلامية وخبير في الأعشاب الصوفية بأنها انعتاق روحاني متجليا في الجماليات الكمالية مسترشدا في ذلك بكلام معروف الكرفي أحد علماء الصوفية في الشرق في شرحه معنى الإنعتاق الروحي بالقول: " من عرف أحدًا لم يعرف الله".

أما الدراسة التي أجراها الدكتور عبد الله حمادي بينت وجود مدرستان صوفيتان في الحضارة العربية الإسلامية اعتصمتا بالكتاب والسنة، واتخذتا من سيد المرسلين إمام وقدوة، وجعلتا من أشواق الحب الإلهي، ومن إلهامات الروح القرآني منهجا في المعرفة الربانية، وتنسب المدرسة الصوفية الأولى إلى مؤسسها الأول الإمام محمد القاسم الجنيدي ببغداد، اتخذت من المساجد منبرا لنشر دعوتها، وجعلت من حلقات الذكر والتبتل معاهد لتخريج العلماء الذين تزخر بذكرهم كتب الأصول الصوفية، وهي مدرسة سنية انتشرت بكثرة في رقعة العالم الإسلامي عبر التاريخ، وزادت توسعا مع الفيلسوف ابن مسرّة ، وأنجبت كبار الصوفية وهو علي بن عبد الله النميري السشتري اللوشي عام 668 هجرية الموافق لـ: 1212 للميلاد، ثم الصوفي الكبير ابن عباد الزندي المشهور برسائله الصوفية المتوفي عام 1388 ميلادي، والإمام الشاذلي صاحب الطريق الشاذلية التي ترجع في أصولها إلى مدرسة الجنيد، ثم الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي الذي يتوسط مغالاة الاباضية وتعصب الظاهرية، وقد صارت طريق ابن عربي تعرف بالطريقة الأكبرية، بعدما بلغ صاحبها ( ابن عربي ) منزلة قطب الأقطاب، وهو اول من استعمل التوشيح في التصوف.

ثم نجد الشيخ عبد الرحمان الجيلالي أو الجيلاني المولود ببلدة جيلان من بلاد فارس عام 470 هجرية الموافق لـ: 1077 للميلاد، ثم انتقل إلى بغداد، وهناك أخذ العلوم وأسس الطريقة القادرية، قال عنه المؤرخ ابن كثير أن الجيلالي كان يعظ الخلفاء والسلاطين والوزراء والقضاة والخاصة والعامة ولا تأخذه في الله لومة لائم، وعرفت طريقته انتشارا في مختلف أرجاء العالم، وقد دخلت الطريقة القادرية مبكرا إلى الجزائر، ويعود الفضل إلى الغوث أبي مدين شعيب دفين العباد بتلمسان، الذي تتلمذ على يد الشيخ الجيلالي الذي أخذ عنه الطريقة وألبسه الخِرقة، وهي بمثابة الإجازة العلمية والروحية التي يتوج بها النجباء من المريدين، وآخر هذه الطريقة الصوفية هو الشيخ عبد الكريم الجيلي المتوفي ببغداد عام 1428 م ، والمدرسة الصوفية الثانية أسسها الإمام أبو نصر السراج الطوسي بنيسابور، وقد اقتدى اثر الطوسي صاحب كتاب " اللمّع" الهجويري في كتابه " كشف المحجوب"، تتلمذ عليه أبو عبد الرحمن السلمي صاحب الطبقات.

القراءة البرزنجية

وعن طريق الرحلات انتشرت الصوفي في أقطار العالم الإسلامي، حيث شهدت الجزائر انتعاشا كبيرا للفكر الصوفي على أيدي متصوفة وطريقتهم منتشرة ولها اتباع كثيرون، ففي قسنطينة مثلا نقرأ عن الشيخ عبد المجيد الفاطمي وهو من كبار المتصوفين في مدينة قسنطينة، ولد الشيخ عبد المجيد الفاطمي في 13 أكتوبر 1901 م بحي الجزارين بمدينة قسنطينة وتوفي في 07 أكتوبر 1985م ، نشا في وسط عائلة محافظة وتربى يتيم ألأم، فاحتضنته عمته والدة الشيخ حسونة علي خوجة، تعلم الشيخ عبد المجيد الفاطمي القرآن على يد أبيه سي الطاهر إمام مسجد سيدي لخضر ، وكان تلميذا للعلامة عبد الحميد ابن باديس، حيث تميز بصوتهو مَلَكة الحفظ الفائقة ، مما أهله لنيل الشهادة العلمية بامتياز في حفظ القرآن وقراءة البرزنجي في الفترة ما بين 1914 – 1915 للميلاد بمسابقة مغاربية نظمت بتونس، كما شارك في تظاهرة ثقافية بمدينة سكيكدة constantine et philippeville ما بين 1925-1926م حيث برز بصوته الفريد المؤدي للسماع الروحي، ويعتبر الشيخ عبد المجيد الفاطمي من كبار القراء، أمضى حياته وهو يتعلم ويعلم القرآن وقراءة البرزنجي بجامع سيدي الكتاني، ومسجد سيدي لخضر، وزاوية عبد الرحمن باشتارزي، وبأحياء وأماكن مختلفة بمدينة قسنطينة ، منها منزل سي حسونة علي خوجة، وتتاكثف هذه القراءات خاصة في ليلة الـ: 27 من شهر رمضان الكريم، ويوم المولد النبوي الشريف، حتى اليوم السابع، وفي صلاة التراويح بين الركعتين، يقوم سي عبد المجيد الفاطمي بمعية رفقاء دربه بالقراءات الملحنة.

و نقرأ للشيخ عباس بن الملود اليعلاوي ، الذي ينسب إلى فريق بني يعلى وهم سكان الجهة الشرقية من بلاد القبائل الصغرى، ولهذا كان أهل قسنطينة يعرفونه باسم الشيخ عباس اليعلاوي، كان الشيخ عباس مدرسا بزاوية سيدي عبد المومن، ثم الزاوية التيجانية السفلى، ليستقرّ بالزاوية التيجانية بحي الخرازين، كما كان يقرأ البرزنجي في ليلة المولد النبوي الشريف، وكان لا يرجو من الناس جاها ولا شكورا ولسان حاله يردد: " إن أجري إلا على الله"، وكان في أقواله وأعماله وأحواله يحكي سيرة السلف الصالح، وظل على هذه الحال إلى أن توفي بالجزائر العاصمة سنة 1973 م ، وترجع القراءة البرزنجية نسبة إلى مفتي الشافعية الإمام جعفر بن إسماعيل البرزنجي، وهو جعفر بن إسماعيل بن زين العابدين بن محمد الهادي ، بن زين العابدين بن حسن بن عبد الكريم بن محمد بن رسول البرزنجي الموسوي الحسيني، يمتد نسبه الشريف للسيد إسماعيل بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين، والبرزنجي نسبة لقرية برزنج من بلاد الكرد عمرها جده عيسى بن علي بن يوسف الموسوي، وفي هذه القرية ولد جعفر البرزنجي عام 1250 هجرية، وكان أباه قد سافر إليها ومكث فيها أكثر من أربعين سنة قبل أن يرجع إلى المدينة عام 1271 للهجرة، وتولى إفتاء الشوافع، ثم تولى إفتاء الشافية ابنه جعفر موضوع الحديث.

 

علجية عيش

 

 

في المثقف اليوم