قضايا

ايديولوجيات: القومية العربية – الاسلام السياسي.. التوافق والاختلاف

ali mohamadalyousifعلاقة القومية العربية كأيدولوجيا سياسية معاصرة بالإسلام السياسي لم تطرح نفسها على الساحة العربية اليوم بألحاح شديد وضرورة الا بعد أن مرت كل من العروبة كوجود بشري قومي للعرب، والإسلام كدين وسياسة بمراحل تاريخية طويلة من المزاوجة الدائمة والاندماج المستمر، يمكن في هذا المبحث حصرها وتحديدها بإطارين أو شكلين من العلاقة – السيرورة التاريخية عبر العصور بينهما:

أولاً: الإطار أو الشكل الأول من هذه العلاقة التاريخية – السياسية – الحضارية تمثلت بعلاقة " العروبة" كمعطى وجودي تاريخي، كهوية وانتماء يجمع العرب ويوحدهم، شأنهم بذلك شأن غيرهم من الأقوام والأمم والشعوب الذين عاصروهم، الأقوام السامية، الأقوام الآرية، الميديين الفرس، وهكذا، بالإسلام " كدين" سماوي توحيدي أعقب الميراث الديني التوحيدي الذي جاء به إبراهيم ومن بعده موسى وعيسى.

وتطورت علاقة العروبة كقبائل مع ظهور الإسلام بسرعة سايرت سرعة انتشار الإسلام بتشكيل أول دولة عربية إسلامية في " المدينة" تطورت الى دولة خلافة إسلامية تقوم على معطيات واشتمالات فقهية دينية، تشريع، سياسة، أجتماع، ثقافة، تاريخ، فلسفة، أدب "شعر تحديداً" وأخيراً حضارة تشمل علوماً عديدة ومجمل ما مر ذكره .

إتخدت العروبة من الإسلام حياة وانتماء ومتكأ متوارثا عبر العصور بإبعاده الثلاثة الدين، الايديولوجيا، التراث، واستمرت هذه العلاقة التاريخية لأكثر من أربع عشر قرناً تقريباً ولا تزال الى وقتنا نفس العلاقة بين العروبة والاسلام قائمة على ميراث المتراكم المفروز بدلالاته التي ذكرناها اعلاه .

استمرت علاقة العروبة مسيّسة في تبعيتها الإسلام السياسي " الخلافة" وكان الحرص التاريخي التبادلي بين العروبة والإسلام في ضرورة الحفاظ على الموروث المتوازن الذي يحكم علاقتهما الارتباطية المصيرية منذ ظهور الإسلام كدين وسلطة، حكم يحفظ للعروبة موضع الريادة والقيادة بالإسلام، والتزام العروبة هي الأخرى للإسلام على الدوام ومر العصور احتضانها المتمايز له ونشره والاستشهاد في الدفاع عنهُ ومن أجلهِ. وبقيت العروبة وحتى بعد أن انبعثت فيها الروحية العصبوية الموروثة مجدداً في التعصب القبلي الذي كان سائداً في العصر الجاهلي وظهر ثانية في قيام" دولة بني أمية في الشام" ثم في خلافة بني العباس في العراق تعيش مع الإسلام بعلاقة ارتباط ومزاوجة وتغذية قيمية متبادلة بينهما في صيغة من التكامل والتكافل المزدهر حتى نهاية القرنين الرابع والخامس الهجريين، بعد تعاظم دخول غير العرب في الإسلام، فرس، أتراك، روم وفي مراحل لاحقة زامنت الفتوحات الإسلامية للأمصار غير العربية دخلت الإسلام أقواماً أخرى مثل " البربر" في شمال افريقيا وفتح الأندلس والهنود وأقوام أخرى عند فتح شرق وشمال آسيا الوسطى وتوغل الإسلام في جهة الغرب في مراحل لاحقة متقدمة " حكم المماليك" ليصل الى أجزاء من شعوب أوربا الشرقية. ومع توقف الفتوحات الإسلامية دخل الإسلام التبشيري في كل من إفريقيا وجنوب شرق آسيا الى أن وصل اليوم اصقاع وشعوب معظم سكان العالم.

لم يكن وارداً أبدأ ان يكون للعروبة دولة بعيداً عن دولة الإسلام منفصلة عنه ولم يكن عبر التاريخ للعروبة كياناً سياسياً إلا في كنف ورعاية الولاء المطلق لسلطان الخليفة الإسلامي الحاكم ولم تكن أيضا لا الظروف الذاتية للعرب المسلمين ولا الظروف الموضوعية تسمح أو كان بالإمكان ان يكون للعروبة كياناً سياسياً مستقلاً عن دولة الإسلام.

وبقيت العروبة في خدمة إسلام الخليفة وتداخلت معهُ وجوداً ومصيراً سياسيا واقتصادياً وثقافياً عبر العصور الى عصر سقوط آخر دولة خلافة إسلامية، هي خلافة بني عثمان في تركيا عام 1924 وقيام دولة تركيا العلمانية الحديثة على يد مؤسسها مصطفى كمال أتاتورك.التي لم تكن القومية العربية لها حضور في قيامها ولا في انحلالها.

ثانياً: الإطار أو الشكل الثاني جاء في علاقة الفكر السياسي القومي الحديث بعد تحول العروبة الى كيان قومي سياسي للعرب ممثلة باحزاب وتنظيمات سياسية سرية وعلنية واتجاهات فكرية ثقافية وايدولوجية متنوعة، إذ مر هذا الفكر القومي السياسي بعلاقته والى جانبه على نفس الساحة العربية الإسلام السياسي بشكله التظيمي والحزبي ايضاً بمراحل من التعاون والوقوف بخندق واحد في مقارعة الاحتلالات الاجنبية باشكالها الاستعمارية طيلة القرن التاسع عشر الميلادي، كما مرت هذه العلاقة بمراحل من القطيعة والعداء والاختلاف بينهما في التنافس للوصول الى سدة الحكم في البلدان العربية والانفراد بالسلطة السياسية خاصة بعد أن رفع الفكر القومي السياسي الحديث شعار "العلمانية" وفصل وصاية الدين عن الدولة القومية، ومحاولة الإسلام السياسي وباستمرار تكريس وضعية تبعية العروبة للإسلام السياسي كما كان سائداً في امتداده التاريخي الماضوي لاكثر من الف وأربعمائة عام وابقاء الدين الإسلامي سياسيا دين ودولة،حكم وميراث،ومعتقد ديني وثوقي مطلق.

العرب قبل اربعة عشر قرناً مع ظهور الأسلام لم يكونوا بحاجة القومية العربية في توكيد وجودهم التاريخي السياسي، فوجود العرب الى ما قبل سقوط بغداد عاصمة الخلافة العباسية 656 ه/ 1258 م كان وجوداً عفوياً متمايزاً بنفسه كهوية وانتماء بركائزه اللغة، التاريخ، الجغرافيا، الاهداف، المصير، الطموحات المشتركة، كما لم يكن الحس العصبوي العشائري القبلي ولاحقاً القومي الحديث من مهامه نفي إسلامية غير العربي،كما ان الرابطة الاسلامية لا تكفي وحدها في تحديد هوية أي قوم من الاقوام على حد تعبير المفكر محمد عابد الجابري. كان للعرب قبل مجيء وظهور الإسلام دولاً عربية في الجزيرة العربية واليمن مثل (دولة كندة) في الجزيرة العربية (وسبأ في اليمن) وغيرهما كدولة المناذرة في العراق، ودولة الغساسنة في الشام، وظهر الإسلام وسط القبائل العربية " قريش تحديداً" قبل ان يخرج وينتشر في الامصار العربية الاخرى وغير العربية خارج جزيرة العرب، وكان العرب مُسَلِّمين، منقادين الى حقيقة تاريخية ان الإسلام جاء اشمل من الوجود القبائلي المشتت في المعنى الشامل لجميع انسابهم العروبية قديماً، كذلك جاء اوسع واشمل من القومية العربية بطروحاتها السياسية المعاصرة مفاهيمياً وجغرافياً حديثاً . والنظرية القومية الحديثة بأهدافها التاريخية المعروفة لم تتبلور لتكون في صيغتها الحالية في حياة العرب الا بعد سيطرة الاستعمار الأجنبي بشكليه القديم والحديث على بلدانهم وإخضاعها لسيطرته السياسية الشاملة . وتقطيع الجغرافيا العربية الى كيانات سياسية منفصلة، وكان تزامن ظهور الصراع العربي – الإسرائيلي منتصف القرن العشرين عاملاً مركزياً مهماً في صياغة الاهداف القومية المعاصرة. قبل ان تصبح في بعض الاقطار العربية انظمة حكم .

عندما نقول ان شعار "إسلامية العروبة" أو " عروبة الإسلام" لم يكن مطروحاً على العربي قبل مائة عام من الآن فمعنى ذلك ان مهمة الفكر السياسي العربي الحديث في تأطيره " القومية " وربط أهدافها بما أطلق عليه بالمشروع النهضوي المنشود للأمة مر بمراحل طويلة من السيرورة التطورية التاريخية واسباب ذلك يساهم توضيحها التالي:

أولاً: كان الاتساق العروبي مع الإسلامي في تلازم العروبة للإسلام " هوية ودين" خارج اطار تسييس العروبة، الإسلام مسّيس منذ اعلان دولته في المدينة المنورة، وكان هذا التلازم يمثل وحدة واحدة متماسكة لم يكن سهلاً التفكير بفض وفصل هذه الثنائية العضوية ما بين العروبة والإسلام ولعبت عوامل عديدة في ابقاء وديمومة هذا التماسك لمئات السنين منها منشأ الإسلام في الجزيرة العربية، حتى اصبح الحال ان العروبة بلا اسلام نفي للعروبة كما يذهب الجابري.

القرآن الكريم مكتوب بلغة عربية، الرسول الكريم محمد (ص) عربياً هذه وعوامل اخرى تاريخية تعود الى عصور ما قبل الإسلام وما تحمله من قيم اصيلة ساهمت بدورها كثيراً في زيادة لحمة وتماسك وحدة الهوية العربية الإسلامية ولم تكن هذه اللحمة العضوية مصطنعة ولا ميكانيكية فاقدة للحياة، بل كانت طبيعية عفوية مؤثرة ليس فيها ما يدعو لبروز أية إشكالية بينهما تؤثر سلباً في حياة العرب الذين خرجوا من الجاهلية الى الإسلام مما جعل مسألة التفريق والفصل بين العروبة والإسلام في تلك المراحل القديمة من وجود العرب والتطور التاريخي لهذا الوجود ان لم يكن إفتعالاً ذهنياً أو نعرة عنصرية ذات نوايا مشبوهة استهدفت الإسلام قبل العروبة توضحتْ بداياتها في أغتيال الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب ومن بعده مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان أخيراً وليس أخراً مقتل الخليفة الرابع علي بن ابي طالب. وتنامى استهداف الإسلام العروبي لعقود طويلة بوسيلة غايتها واحدة وادوات تنفيذها مختلفة في محاربة العروبة، المعلن والخفي وصل أعلى مدياته مع نهاية خلافة هارون الرشيد ومن بعده خلافة ولديه المأمون والأمين خلافاً شعوبياً وليس إسلامياً فقط بدأ في مقتل الأمين وكان ذلك بداية دخول العروبة الإسلامية في صراع دموي مثير مع الشعوبية " الإسلامية" غير العربية.

على امتداد عصور طويلة لم يكن الفصل بين العروبة والإسلام فعالية مجتمعية تفرض قبولها اويتطلبهُا / يحتاجها الوضع التاريخي الحضاري لسيرورة ومسار الدولة العربية الإسلامية كما أن العوامل الأقتصادية والتجارية التي أتسعت وتعقدت في ارجاء أمبراطورية الإسلام الأموي والعباسي لم تفعل تاثيرها السلبي المباشر في تفتيت وفك لحمة ارتباط العروبة بالإسلام وبقي للتجارة والاقتصاد توظيف جيد في تسيير واستقرار شؤون الدولة الاموية في الشام في مراحل ازدهارها والى مراحل ضمور وتدهور عطائها الحضاري واستمرار ذلك الازدهار ابان العصر العباسي قبل ان تنهار دولة العروبة الإسلامية بسقوط بغداد وتدميرها على ايدي التتار " هولاكو" سنة 656 ه - 1258 م. بمعنى شديد الأختصار عاش العربي أنتماءه القومي – الديني بايجابية ساهمت في تقدم حياته وازدهارها بكافة مناحيها رغم جميع الظروف والملابسات والتعقيدات.

ثانياً: كانت درجة التطور المراحلي العروبي الذي طبع الوجود العفوي للعروبة غير المسّيسة بدءاً بالعشيرة فالقبيلة فالقومية، لم يكن من خلال تلك الحقب وجود العرب بحاجة الى تسييس انتمائه – المسّيس أصلاً بالإسلام – كهوية واثبات وجود منفصل عن الإسلام. ولم تكن وقتذاك لا العوامل السياسية ولا الاقتصادية ولا الأجتماعية تعمل باتجاه هدف استحضار واستيلاد نزعة افتعالية مجتمعية تؤكد وجوب فصل العروبة عن الإسلام ولا فصل الإسلام عن السلطة الحاكمة ايضاً وهذا كان الاصعب. بل كانت معظم مناحي الحياة بشموليتها تدعم ازدواجية العروبة بالإسلام وتداخلهما العميق الوطيد وكانت العروبة تغتذي قيم الإسلام والإسلام يتمثل الأصالة العروبية فيه باستثناء ما حدث بثورات " الزنج" و " القرامطة" وفي وقت لاحق " الصفوية " الفارسية التي سعت الى فك لحمة العروبة بالإسلام واغتيال الإسلام باسم القضاء على العروبة. شهد التاريخ الإسلامي العديد من هذه الاستهدافات للوجود العربي فكان للمماليك دول عاشت قروناً على امجاد الإسلام في تغييب العروبة وكان لكافور الأخشيدي دولة إسلامية في مصر و " تاشفين" دولة اسلامية في المغرب ناهيك عن دول الطوائف الإسلامية في الاندلس، وفي بلاد فارس ايضاً. وعلى انقاض سقوط الدولة العباسية في بغداد،وحتى قبل افول عصرها الامبراطوري نشأت دول مستقلة حقيقة، او بعضها مرتبط في نواحي شكلية بدولة الخلافة الاسلامية – العروبية،ومن هذه الدول: الدولة الصفارية،الدولة السامانية، الدولة الغزنوية،الدولة البويهية،الدولة الحمدانية،الدولة الطورانية،الدولة الاخشيدية،الدولة الفاطمية،دولة الاغالبة،دولة الادارسة،والدولة الاموية في الاندلس.(1)

في مراحل لاحقة منذ بدايات القرن التاسع عشر جميع العوامل الذاتية والموضوعية التي استهدفت الوجود العربي بضراوة ووسائل دنيئة كانت بمثابة محفزات اثارة استفزازية وضعت العرب مصيراً ووجوداً امام ضرورة تاريخية اجبرتهم اعادة النظر في ضرورة بعث هويتهم الحضارية الانسانية المميزة واخذ دورها المعاصر، فكان الوصول والاهتداء الى تأطير القومية بنظرية المشروع التاريخي للأمة التي توخت معالجة الواقع المتردي للاقطار العربية في اكثر من جانب سياسي اقتصادي ثقافي اجتماعي وكان تقسيم الوطن العربي الى كيانات سياسية جغرافية متعددة وبروز الصراع العربي الاسرائيلي عوامل رئيسية حفزت الامة ضرورة البحث عن مخرج سياسي تاريخي يتناسب مع العصر . ومع زوال وانفكاك الاتساق العروبي " القومية السياسية بإسلام الخلافة والأحزاب والتنظيمات السياسية الإسلامية لاحقاً، منذ بداية الخمسينات من القرن العشرين في تكوينهما الشخصية العربية الإسلامية المتماسكة أي حين أخذت حياة العربي تعاني من اختلال في توازن وحدة العروبي بالإسلامي، لم يجد الفكر القومي السياسي العربي غير " العلمانية" طوق نجاة للخروج من تبعية القومية وانصهارها في الإسلام السياسي المعاصر المتقاطع أيديولوجياً معها. فكان رد فعل الإسلام السياسي الحديث على مبدأ " العلمانية" المستحدثة عربياً قوياً جداً منطلقاً من خلفية أن الإسلام دين ودولة نشأ هكذا ويبقى ابدأ كذلك، وبهذا فالعلمانية جاءت خروجاً مارقاً غير مسموح به ولا مقبول في تنكره لميراث تاريخ إسلامي طويل من حكم الإسلام الأستخلافي الذي ضم وصهرً في احشائه وأمبراطوريته العربي، الفارسي، التركي، البربري،، الرومي، الهندي، الصيني... الخ وبدون استثناء محكوم بما ورد في الآية الكريمة " أن أكرمكم عند الله أتقاكم" وتحت التطبيق الطوعي لهذا الضم جاءت معظم الفتوحات الإسلامية للبلدان غير العربية على ايدي قادة مسلمين من غير العرب مثل البربر " فتح الاندلس " و " الاتراك" في فتحهم وايصال الإسلام الى بعض اقطار اوربا الشرقية.

ولم يكن عداء الفكر الإسلامي السياسي لشعار الاشتراكية " باقل معاداة " "تحريمية" لها من معاداته للعلمانية، حوربت الاشتراكية العربية بضراوة تكفيرية في اعتبارها سلعة مستوردة من الميراث الاوربي في القرنين الثامن والتاسع عشر وسلعة مستوردة من الموروث الالحادي للشيوعية العالمية، والأشتراكية التي تريد قسراً وبالقوة الغاء التمايز الطبقي الاجتماعي بقوانين وضعية تناقض الشريعة الإسلامية في اعتبارها الإسلام دين وسلطة تعمل على تخفيف التمايز الطبقي الصارخ بقانون ألهي" الزكاة" تليها " الصدقات " وبغير هذين الاسلوبين يكون الغاء التمايز الطبقي من " المحرمات " فالإسلام ساوى بين المسلمين روحياً فقط، ولم يساو بينهم طبقيا واجتماعيا.

لا جدال ان الوضع العربي المتدهور في اكثر من جانب سياسي اقتصادي ثقافي اجتماعي وتقسيم الوطن العربي الى كيانات سياسية جغرافية متعددة وبروز الصراع العربي الاسرائيلي من العوامل الرئيسة في تحفيز الامة العربية البحث عن مخرج سياسي تاريخي يتناسب مع العصر وكانت النظرية القومية.

عود على بدء في طرح شعار " إسلامية العروبة" او " عروبة الإسلام" سياسياً لم تكن مهمة عابرة لا تشغل التفكير العربي والإسلامي على حد سواء . في نهاية القرن التاسع عشر والنصف الاول من القرن العشرين وهذا الشعار المطروح اليوم بشكل جاد، يمثل منعطفاً تاريخياً حضارياً مهماً عمره السياسي أكثر من قرن، اخذ بالتنامي والتبلور على أمتداد الاعوام الى أن بلغ ذروة بروزه في الحضور على الساحة العربية مع ظهور التيارات الاصولية الإسلامية المتطرفة وسياسة العنف والتكفير التي تمارسها السائدة حالياً عربياً ودولياً.

كنا المحنا سابقاً أن الفكر السياسي الإيديولوجي العربي في بلورته النظرية القومية في تحديد ملامح ما اطلق عليه بالمشروع النهضوي الحضاري العربي وجد مخرجه ومأزقه التعبوي الشعبي للخروج من اشكالية ارتباط القومي السياسي بالإسلامي " دين ودولة" هو في رفع وربط شعار " العلمانية" بالأهداف القومية السياسية تنظيراً وتطبيقاً، وبذلك استطاع اقصاء هيمنة الإسلام السياسي الحديث الذي يقدم نفسه بلبوسات إيديولوجية تنظيمية سياسية جديدة في سعيه الدائب استعادة ماضي اسلام الخلافة، فكان الانفصال بين القومي السياسي والإسلامي السياسي المعاصر حتمية سياسية – تاريخية. وصراع سياسي دامي بين الاحزاب السياسية العربية .

وبعد مرور اكثر من خمسة عقود " النصف الثاني من القرن العشرين" على هذا الطلاق والأنفصال بين القومية العربية والاسلام، دخل الإسلام السياسي مرحلة سبات سياسي هامشي ولم يستعد حضوره الفوضوي الارهابي إلا بعد تفجيرات 11 ايلول 2001 في امريكا وارجاء عديدة اخرى من العالم، فاجبر العديد من الاحزاب والتيارات السياسية العربية والإسلامية على اعادة حساباتها مجدداً.

لم يتمكن الإسلام السياسي المتطرف ذو الجذور العميقة في كل من مصر والجزائر قبل انتشاره من استلام الحكم في أي بلد عربي أو إسلامي باستثناء مدة حكم نظام طالبان في افغانستان.وفترة حكم الاخوان في مصر،وقبلهما نظام آل سعود في نجد والحجاز، وحتى بعد دخول الفكر السياسي القومي مرحلة العقم التطبيقي الفاشل للأيديولوجيا والاهداف القومية التاريخية، لم يتمكن الاسلام السياسي المتطرف استلام السلطة في أي قطر عربي بخلاف الفكر القومي الذي وصل الحكم في أكثر من قطر عربي واحد وحكم عقودا طويلة.

ولتوضيح العقم السياسي للفكر القومي ووصوله الى الطريق السياسي – التاريخي المسدود نمر سريعاً في تسليط الضوء على التراجع وقلة الاهتمام وتدني الالتزام الشعبوي التعبوي عربياً بالشعارات والأهداف القومية التي لم تتمكن من انتزاع رصيد منجز ثابت في حياة الشعوب العربية وطموحاتها التقدمية والاخفاق في معالجة قضايا العرب المصيرية ولا معاناتهم الاقتصادية ومآسيهم الاجتماعية والثقافية التي لا يمكن حصرها، فبدأت الشعارات القومية السياسية تخبو جذوتها وينعدم تاثيرها إلا في وسائل الاعلام الحكومية فقط، وتراجع الوثوق الجماهيري التعبوي بها ووصل الى حافات القناعات اليائسة ونفضت الجماهير العربية اياديها من سراب الركض وراء الشعارات التي لم تمتلك في الماضي وليس بمقدورها في الحاضر تحقيق الحد الأدنى من التطبيق الناجح في أعقاب ثبوت التالي:

1. التطبيق الفاشل المسخ للافكار المتداولة في طروحات وادبيات النظرية القومية ومشروع الامة النهضوي، سياسياً، اقتصادياً، ثقافياً، اجتماعياً.

2. بروز زعامات الدولة القطرية العربية الواحدة منذ بداية عقد الخمسينات والى يومنا هذا، في أكثر من بلد عربي واحد، في سعيها القطري الزعامي على العرب وفي اختزال تضحيات وطموحات ونضالات الشعوب العربية وتجبييرها لحسابها السياسي القطري على حساب مصالح بقية الاقطار العربية فما أن انتهت الزعامة المصرية بوفاة جمال عبد الناصر، لم تلبث أن برزت الزعامات القطرية في السعودية و العراق، سوريا، ليبيا، الى آخر القائمة في نزعة المتاجرة بالشعارات القومية ومحاولات الاستحواذ على مقدرات الأمة والوصاية على مصيرها ومستقبلها وجميع هذه التوجهات القطرية المفضوحة تغذيها وتشجع عليها أكثر من دولة أسلامية غير عربية مجاورة للوطن العربي لها أجندتها السياسية الخاصة بها والمشبوهة في محالفة بعض العرب ضد البعض الآخر والسعي لتدمير هذا البلد العربي وتركيع واذلال ذاك وقطع الطريق أمامه ومنعه من تحقيق طموحاته الوطنية المشروعة وبناء مشروعه الديمقراطي.

3. بروز المصالح والتكتلات الاقليمية لدى مجموعة من الدول العربية المتجانسة سياسياً المتصلة المجاورة لبعضها البعض جغرافياً، المكملة المترابطة في الاقتصاد والتجارة البينية والقريبة من بعضها ثقافياً وتشاركها في الهوية العروبية المميزة لها، فهذه الدول لاتأمن الاخ العربي الطامع في تزعمها والوصاية عليها مما يضطرها الاستقواء بالأجنبي في المساعدة وتحقيق التنمية لبلدانها وهي طموحات بديلة مشروعة شرط عدم أجتزائها في مسعاها مجاوزة محوريتها الاقليمية، والانفتاح على مصالح كل العرب.والاهم فك الارتباط بالاجنبي وتنفيذ سياساته بالضد من مصالح الشعوب العربية وتدميرها.

4. تنامي المد الاصولي الإسلامي المتطرف على أمتداد الوطن العربي والعديد من دول العالم الإسلامي وغير الإسلامية وفي طروحاته السياسية والأيديولوجية على أنه يمثل البديل الوحيد لاخفاق الفكر القومي ويمثل اختيار واحد لا غيره في الهيمنة على قبادة الشارع العربي والراي الشعبي العام للأمة.متوجا هذا بظهور الارهاب بكل جرائمه ووحشيته.

5. قيام ثورات الشباب العربي على أنظمتها الفردية بدءاً بتونس، مصر، ليبيا،اليمن، الجزائر الى أخره عام 2011.ومحولات الالتفاف عليها وتفريغها من محتواها الاصلاحي.

هذه الأسباب الخمسة الواردة أعلاه وغيرها ابعدت أن يبقى شعار وهدف الوحدة العربية يمتلك الحضور السياسي الفاعل على الساحة العربية سلطوياً وجماهيرياً معاً،اصبح شعار الوحدة العربية اليوم لا يمثل طموحاً تاريخياً ولا هدفاً استراتيجياً قابلاً للحياة يمتلك مقومات ووسائل تحققه.

وكذا الحال أصبح مع شعار " الحرية" الذي كان يراود أماني ومخيلات الشعوب العربية الواسعة في أبسط مضامينه والى ماض قريب جداً – لا أكثر من نصف قرن – بعد ان يتحقق الخلاص الناجز من أية وصاية أو تبعية اجنبية في وجوب تحرير الأنسان داخلياً بأقامة النظم الديمقراطية الدستورية البرلمانية والمساواة أمام القانون وبناء مؤسسات المجتمع المدني وحقوق الأنسان والمرأة هذا النوع من الطموح العربي في اقامة دولة الحرية مُسخت وشوهت حين تم استبدال العبودية والتبعية للأجنبي الخارجي بعبودية الداخل في الوطن عبودية الأنسان للسلطة الدكتارتورية الغاشمة، الأكثر إيلاماً واسوأ بشاعة في الرضوخ والاستكانة وامتهان حقوق وكرامة الفرد والمجتمع وزراعة الخوف الدائم في الدواخل والنفسية والسلوك تحسباً من بطش أنظمة القمع والاستبداد المتاجرة بالخطابات السياسية والزعيق والصراخ الاعلامي المسخر من أجل الحفاظ على كراسي الحكم مدى الحياة ومن ثم توريثها للأبناء من بعدهم في حصر السلطة والامتيازات بمريديها وازلامها المتسلطين على رقاب الناس. وفي نفس المنحى جاء تبشيع الناس بالأشتراكية بعد التطبيل الأجوف لها والتطبيق الأبتذالي الفج المفرغ بأسمها، ولم ينقذ اشتراكية العرب العتيدة استبدال تسميتها بتحسين بلاغي لغوي حين جرت تسميتها " العدالة الاجتماعية" وهي الصورة الشوهاء الهجينة الضبابية الغائمة الفارغة العاجزة عن محاولة معالجة التفاوت الأجتماعي والاقتصادي في المجتمعات العربية وانعدام وسائل تحقيق مثل هذه التنظيرات الشعارية . واصبحت الأشتراكية العربية والعدالة الأجتماعية خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي القديم 1991 حبراً على ورق بعد أن جرت المتاجرة بهما عقوداً طويلة وعاشتهما الناس حلماً يحقق معيشة أنسانية لائقة للشرائح الفقيرة في المجتمع.

ثمة سؤال يحضر في هذا المجال لماذا لم تكن الحاجة ملحة للنظر في معالجة إسلامية العروبة السياسية في خمسينات القرن العشرين كما هو الحال اليوم!؟

آنذاك والى نهاية عقد الستينات عنفوان المد القومي العربي السياسي لم يكن مطروحاً سائداً لا في النظرية ولا في التطبيق أن يلعب الإسلام السياسي المعاصر دوراً تقدمياً في نضال العرب، فالوحدة التي تمت بين مصر وسوريا عام 1958 لم يكن الإسلام السياسي المنظمّ ولا الشعبي المؤيد لهُ أي دور يذكر أو اقل جهد في الإسهام بقيامها والحفاظ عليها بل العكس حصل تماماً كان دور الإسلام السياسي واضحاً متقدماً في محاربة الوحدة العربية والاجهاز عليها واسقاطها في المشاركة بانفصال عام 1961 . والى يومنا هذا نجد الإسلام السياسي المتطرف بمذهبيه السنيّ والشيعي يقاطع التوجهات القومية الحضارية بلا هوادة ويحاربها، لذا يكون شعار لا عروبة بدون إسلام أو لا إسلام بلا عروبة على الصعيد السياسي لا يكتب له النجاح ولا يستطيع وليس بمقدوره أخذ نصيب يسير من التطبيق العملاني الواقعي في الاسهام بتقدم الأمة على مختلف الصعد في حاضر ومستقبل العرب ليس فقط بسبب التمايز والاختلاف الأيديولوجي الكبير ما بين القومي السياسي والإسلامي السياسي بل الاهم العداء الأستراتيجي المستحكم بينهما ولا تحل هذه الأشكالية إلا بتعميم الديمقراطية واشاعة الحريات وقبول الآخر وتأكيد حقوق الأنسان والمرأة الاساسية والاهم من كل ذلك هو في تأكيد " علمانية " العمل السياسي العربي بمجمل احزابه وتياراته الفاعلة. وهو ما بدء بانتفاضات الشباب عام 2011 كما اشرنا لذلك.

الإسلام السياسي المتطرف اليوم لا يخفي في جميع طروحاته وسياساته المعلنة والباطنية استهجانه الشديد للتطلعات القومية واهدافها خاصة بعد أن وجدها اصطدمت بجدار التطبيق القاصر الفاشل واستفراده بالساحة.

الإسلام السياسي المعتدل و المتطرف يتعامل اليوم مع الاهداف القومية على انها أصبحت إرثا من الماضي السياسي للعرب بل واكثر من ذلك يطرح اليوم نفسه على أنه الأيديولوجيا السياسية الوحيدة التي ينتظرها مستقبل ملء الفراغ السياسي الذي تركته القومية السياسية وعجزت من تحقيق أي من أهدافها التاريخية على مدى نصف قرن.

نجد هنا مهماً التذكير أن المنطلقات العروبية السياسية في وضعها شعار العلمانية بوجه أي لقاء وتعاون مع الإسلام السياسي لم تنجح لوحدها من تقديم منجز تاريخي مصيري للأمة ولا يعني هذا الفشل سببه تبني الفكر القومي للعلمانية بل لاسباب أخرى ذاتية موضوعية غيرها. كما نجد في نشوة وانتعاش الشارع العربي الإسلامي بطروحات الاصولية المتطرفة(الارهاب) التي وجدت مرتعها الخصب وسط قطاعات الشباب العاطل عن العمل هو الآخر لم يستطع ولن يستطيع تحقيق منجز سياسي يؤسس لمستقبل حضاري للامة، بل العكس أنجب ظاهرة " الارهاب " والعنف البعيد عن أي نزعة أنسانية تقدمية تخدم حاضر ومستقبل المجتمعات العربية مهما استترت بلبوس الدين، كما يجري على الساحة العربية اليوم تذييل الفكر القومي الحاكم وغير الحاكم في وجوب السير خلف تبعية الأسلام المتطرف الرجعي بنهجه الفوضوي الدموي الماثل للعيان يومياً في العراق والجزائر ولبنان والصومال واليمن وبعض اقطار المغرب العربي والسودان وفي دول غير عربية عديدة كافغنستان وباكستان ودول افريقية ايضاً وفي بعض دول جنوب شرق آسياً ...الخ.

الفكر القومي أمام الاسلام المتطرف الذي يلغي الآخر ويغذي الارهاب معادياً لكل ما هو غير إسلامي في الحياة العربية، لا يوجد خيار أمامه سوى التأكيد على مبدئي الديمقراطية والعلمانية وهما طريقا الانفتاح على معطيات العصر.

في الختام لا بد من الاشارة أن هذه الدراسة السريعة لم تهدف إقحام نفسها باعطاء تصور منهجي قابل للحياة والتطبيق يساهم في نهضة الامة وتقدمها فهذا ما ليس بمقدورها الاضطلاع به . بل نجد اصبح واجب علينا طرح التساؤل هل بات نجاح المشروع القومي النهضوي بحاجة ماسة الى مراجعة نقدية واضحة شفافة كما قام واسهم به المفكر العربي د. محمد عابد الجابري وآخرون غيره!؟ هل اصبح لزاماً يمليه العصر تبديل وتغيير الاهداف السياسية التاريخية للعرب بعد ثبوت استحالة التطبيق الناجح لمثلث الاهداف للنظرية القومية!؟

وهل أصبحت المجتمعات العربية مهيأة اليوم الى التراجع واعتماد ما كفرت به سابقاً بدلاً عن التفكير المنطقي العقلاني في ضرورة استيعاب متغيرات عصر اليوم!؟ وان العرب اصبحوا امام حتمية استحداث طموحات واهداف سياسية تاريخية قابلة للحياة ومطاولة العصر!؟ واين يكون موقع المشروع الاسلاموي المتطرف المطروح اليوم على الساحة العربية كبديل وحيد في وجوب وحتمية انتقال المجتمعات العربية من مرحلة " القومنة التاريخية " الى مرحلة " الاسلاموية الاصولية المتطرفة!؟ هذه الأسئلة وغيرها الكثير مطروحة بالحاح امام المعنيين بشأن المستقبل العربي واجياله.

 

علي محمد اليوسف

....................

هامش (1): د.محمد عابد الجابري، اوراق عربية ع 1، مركز دراسات الوحدة العربية ص 20 .

 

 

في المثقف اليوم