قضايا

عولمة الحضارة

ali mohamadalyousifان تاريخ الانسانية في جوانبه العبثية المهدورة في الحروب والمنازعات الدموية عبر الازمنة والعصور، قبل تبلور مفهوم العولمة بالقطب الامريكي الاحادي نهايات القرن العشرين، كان تاريخ صراعات وحروب وعدوانية ودماء واختلافات ومنازعات باساليب القوة الغاشمة في فرض الارادات قسراً على الآخر ومصادرة حرية اختياره وارادته في الحياة، من منطلقات عنصرية ودكتاتورية واستعمارية استهدفت الاخر عسكريا او اقتصاديا، وكان وقود جميع هذه النزعات التدميرية وضحيتها الانسان، بحياته ومعيشته وعائلته، و انسانيته وكرامته وامنه وسلامته.ويحضرنا في هذا المجال في جانب الحروب فقط حربين عالميتين راح ضحيتها قرابة عشرات الملايين بين قتيل ومعوق (1914-1918) (1939-1945)، 17 مليون قتيل و20 مليون معاق،  ثم الحرب الكورية (1950-1954) اربعة ملايين قتيل، حرب فيتنام، اربعة ملايين قتيل، حرب الجزائر مليون قتيل، الحرب العراقية الايرانية (1980-1988) مليون ونصف قتيل عدا الجرحى والمعوقين، حروب اسرائيل مع العرب منذ عام 1948 بحدود مليوني قتيل، هذه غير حروب روسيا، الصين، تركيا، افغانستان، دول البلقان، والحروب والمنازعات في اسيا، واوربا، و افريقيا، واخيراً ضحايا حروب موجات الارهاب الوحشية الدموية التي فاقت تصورات العقل البشري على مدى تاريخه في بشاعتها وهمجيتها، وضحايا التفجيرات الارهابية من الابرياء في العراق وسوريا واليمن وليبيا ومصر ولبنان والجزائر وتونس والولايات المتحدة والمانيا وفرنسا وباكستان واندونيسيا وماليزيا وبريطانيا وبلجيكا والصومال وكينيا ونيجيريا ومالي. تركنا ضحايا حروب لم تحضرنا، واعداد الاسر والنساء الارامل والاطفال اليتامى الذين عانوا مرارة فقدهم لاعزائهم من الاباء والامهات والازواج والاولاد والابناء اللذين تشردوا في الفقر والعوز لأبسط الحاجات الانسانية .ان ماقامت به القاعدة وداعش في العراق –الموصل تحديدا-من جرائم وحشية لا يصدقها عقل انسان، جعلت مزابل التاريخ اطهر وانظف من هذه المنظمات الارهابية.

اقطاب انظمة الدكتاتورية والارهاب والرجعية الظلاميين، وقوى الفوضوية والاستبداد والتعصب، قوى متوحشة متلهفة لسفك الدماء وتدمير الحياة، يأتي في آخر اهتماماتها حياة الانسان كقيمة عليا، مستبعدةً من حسابتها وتفكيرها الاجوف العقيم محاورة الاخر والوصول معه الى قناعات مشتركة باسلوب وخطاب تفاهمي حضاري . ان العولمة محطة مراجعة تاريخية نقدية في حياة البشرية واستخلاص الدروس والعبر من الماضي وكوارثه كي لاتتكرر. ومن المرجح المتوقع تغليب عوامل التحضر والحكمة والتعايش بسلام قبل التفكير بالاقدام على اية نزعة تدميرية غير محسوبة العواقب، تكون استمرارا للعودة الى الوراء في اتباع النهج اللامسؤول في حل النزاعات بين الدول والشعوب الذي تسيدته الحروب العبثية خاصة في تاريخ البشرية المعاصر . لايختلف اثنان ان الحروب هي ام كل كوارث ومصائب البشر، ونتائجها ليس على صعيد القتلى والمعوقين بل في جوانب انسانية مثل هيمنة التخلف والجوع والفقر والجهل وكل رذيلة تصيب الانسان .

ان العولمة في كل ترسيماتها الفكرية وفي خطابها السياسي الفلسفي المعلن لم تولد من فراغ تاريخي، بل ولدت من ديناميكية تطور المسيرة الانسانية التاريخية في جميع وثباتها التقدمية، وفي جميع عثراتها المعرقلة في التاريخ المعاصر . ومن غير المرجح ان تكون العولمة بمفاهيمها وخطابها عامل تغذية في بعث الموت المجاني من جديد في حصد اجيال بشرية وزيادة حجم مقابر حقب التصارع التدميري في قهر الاخر، او في صهر وتذويب المقومات النوعية والخصوصيات الهوياتية لشعوب وامم الارض في مصاهر نظام سياسي غربي واحد، كما يحلو الترويج له، لتغذية اوهام الاحتراب الدائم والصراع العقيم المستمر بلا جدوى انسانية .

بهذا المعنى يطرح (فريد مان) (انه بفضل العولمة ومن نتائجها اصبح العالم مسرحا مفتوحا امام جميع شعوب الارض واممها القادرة على الاسهام في صنع الحضارة الانسانية الواحدة.)، الحضارة التي هي حصيلة جهد وثراء الجنس البشري، وليس بمستطاع اية قوة دولية تجييرها لحسابها، او الاستئثار الانفرادي بالوصاية عليها وحرمان الآخرين من الحفاظ عليها والاضافة لها، وخلق تراث انساني موحد . كما ذهب احد الفلاسفة الفرنسيين في نفس المنحى (ان الانسانية لاتسير في الاتجاه نحو المزيد من التفاوت والتمايز، بل هي سائرة نحو تحقيق قسط اوفر من التساوي والتوافق وليس الصراع، لا كما ظن فلاسفة القرن التاسع عشر ان الصراع هو سبيل التقدم، بل الاتحاد هو المظهر الاوحد للتقدم البشري.) . لذا نعتبر التسليم بآراء صومائيل هنتكتون وفرانسيس فوكوياما في نهاية التاريخ وصدام الحضارات، وترشيح الصراع بين الحضارة الغربية والارهاب الاسلامي المتطرف، اصبح من المتعذر دحضها ووقائع الايام امامنا تؤكدها تماما .ولو كنا الى حد ما مع الرأي ان السياسات الامريكية الخاطئة كانت مساهمة بغباء في تصنيع الارهاب الاسلامي.

والاهم من كل ذلك وامام مسرح العولمة الحضاري المفتوح لا يشفع لامم وشعوب التخلف والرجعية الدينية والاحتراب الدائم العبثي، استمرارية العيش على هامش التاريخ الانساني المعاصر، والحضارة المستقبلية الواحدة في صنع تراث البشرية المشترك . وحجة اولئك تصنيع عدو وخصم ازلي، لاشباع نزعة الحروب والتدمير التي تجاوزت عصورها وازمانها شعوب البشرية المتحضرة قاطبة.وبقي ايتامها من شعوب الجهل والرجعية الدينية يرفعون لواءها ويرقصون على امجاد مقابرها الظلامية .

في عولمة الحضارة وتراث الانسانية، اي في عالميتها وكونيتها ينتهي تاريخ جميع الدكتاتوريات وانظمة الرجعية ومنظمات الارهاب بتعدد مسمياتها واشكالها وادواتها، وينتهي ايضا دورها العبثي الفوضوي في التسلط على مقدرات بعض الشعوب في منطقة الشرق الاوسط تحديدا، ومصادرة حقها الانساني بالعيش الكريم والحرية والديمقراطية والامان والسلام الدائم .

 

علي محمد اليوسف - الموصل

 

 

في المثقف اليوم