قضايا

العولمة وجدل التاريخ.. الماركسية لم تمت

ali mohamadalyousifهل حقا التاريخ البشري وصل نهايته بانهيار عصر الايدولوجيات كما يذهب لذلك فرانسس فوكاياما وصموئيل هنتكتن في مقولته (حتمية صراع الحضارات) استاذ الدراسات الاستراتيجية في جامعة هارفرد، وغيرهما من مفكري ومنظري الاستراتيجيات المستقبلية الامريكان في تأكيدهم وتبنيهم مفهوم تصدير هيمنة (العولمة) عالميا والتبشير بها انها المنقذ الوحيد المعاصر للعالم من التخلف والحروب والفقر ودمج اقتصادات وثقافات وخصوصيات المجتمعات والشعوب وامم العالم بمركزية الدوران حول القطب الواحد وتساقط ثمار العولمة على الجميع!؟

لا نعتقد جرى التأكيد على تفسير ودراسة مفهوم معرفي او ظاهرة حضارية سياسية اقتصادية شاملة عالمية كما جرى مع (العولمة) سواء في وسائل الاعلام العالمية كافة او في عقد المؤتمرات والندوات والحوارات والنقاشات المختلفة الجوانب على كافة المستويات في مناقشة اهداف وتوضيح مضامين (العولمة) . كما حصل منذ بداية العقد الاخير من القرن العشرين المنصرم ولحد الان ومستقبلا ايضا .

نعم سبق قبل تبلور وبروز العولمة بسماتها الحاضرة وتطلعاتها المستقبلية ان حصل مع (عراب) السياسة الامريكية الاسبق وزير خارجية الولايات المتحدة المخضرم (هنري كسنجر) في عهد الرئيس الامريكي نيكسون  بداية السبعينيات ان اشار في اكثر من دراسة وتصريح ورسم تفاصيل استراتيجية امريكية مستقبلية تهيىء الاذهان وتسوي ارضية سياسية تخص منطقة الشرق الاوسط والادنى على وجه التحديد والتمهيد لاستقبال حتمية تاريخية قادمة تسود العالم – حتى لو تم ذلك باسلوب القوة العسكرية والتدخل المباشر- في تصدير امريكي وبدعم بريطاني واسرائيلي نوع من( الخصخصة السياسية) الامريكية لا يقتصر على الصعيد الاقتصادي – المالي فقط كمقايضة على شكل قروض مالية اعتادها العالم خاصة دول العالم الثالث – دول الجنوب- المحتاجة والفقيرة يمليها صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي بشروطهما ظاهرها حل تخديري مؤقت وباطنها تكبيل اقتصادات وموازين العجز المالي وانحلال الملكية العامة التي من خلالها فقط تضمن تلك الدول لنفسها نوعا من الاستقلالية في اتخاذ القرار السياسي . وانما (خصخصة سياسية عسكرية اقتصادية معرفية) عامة مغايرة تماما لما سبق ذكره تقوم بها الولايات المتحدة الامريكية منفردة تعمل على تهميش الاستعانة بأية مؤسسة دولية مالية اواقتصادية او تجارية واستثمارات لتشمل مناحي حياة الانسان بأكملها في الاقتصاد والتاريخ، والجغرافية، السمات الحضارية الفاعلة لبقية الامم والشعوب، الاتصالات، المعلوماتية، السياسات الاستراتيجية المستقبلية التي تهتم في تنظيم موازين القوى عالميا .... هذه الصورة او المفاهيمية المستقبلية اخذت احيانا تشكيل قوة ردع عسكري سريع لفرض واقع سياسي معين على دولة واحدة او اكثر مثال ذلك استحضار قوات عسكرية مهمتها كانت احتلال منابع النفط في دول الخليج اذا ما دعت الضرورة (مشروع بريجنسكي مستشار الامن القومي الامريكي السابق) .

ومثال اخر ما سمي (نادي السفاري) وهي هيئة تدخل سريع ايضا مسلحة انشأتها مصر والمغرب والسعودية وايران زمن الشاه وقد تدخلت في عملياتها الميدانية بمباركة امريكية في زائير والقضاء على حركة العصيان التي قام بها الجنرال الافريقي (بومبا) وتثبيت (موبوتو) على عرش زائير في بداية السبعينيات وما بعدها .

ومثال ثالث تدخل الولايات المتحدة الامريكية بواسطة وكالة المخابرات المركزية CIA   في تدبير انقلاب عسكري اطاح بالرئيس التشيلي المنتخب ديمقراطيا (سلفادور الليندي) في السبعينيات ايضا وتنصيب بدلا منه الدكتاتور العسكري التشيلي (اوجست بينوشيه) وحصل مثل ذلك ايضا في اجهاض المقاومة الوطنية التحريرية في بوليفيا واعدام الثائر الرمز لحركات التحرر الوطني في العالم ( جيفارا) من قبل المخابرات الامريكية، امثلة كثيرة تصرفنا عن التركيز حدثت في السابق عما هو اهم في عالمنا اليوم . لكن من المهم جدا الانتباه الى ان امريكا اليوم التي ترفع شعار العولمة واجتثاث الارهاب وان تدخلت عسكريا في افغانستان واسقطت نظام التخلف والارهاب لطالبان وكذلك فعلت في اسقاط نظام استبداد صدام في العراق فهي في بداية القرن الحادي والعشرين هي غير امريكا في مرحلة النصف الثاني من القرن العشرين المنصرم .

في تقصي جذور ما يسمى بالعولمة هناك برزت جوانب رصد عديدة اخرى اعتبرت لاحقا ناقصة تصب في نفس الاتجاه والتيار الذي اعلن عنه كيسنجر ربما بوقت مبكر على اقرانه من المفكرين والاستراتيجيين الامريكيين والاوربيين الذين جاؤا من بعده. قبل ان تتضح وتتبلور العولمة مع مرور الوقت على وفق ثوابت تنظيرية سياسية اقتصادية اجتماعية ثقافية انما كانت تأخذ صورة هيمنة من نوع (الخصخصة) الأمريكية الجديدة .التي تروم امركة حياة ومعيشة معظم شعوب الارض على طريقتها .

ولم يطلق على هذا النوع من التوجه السياسي، الاقتصادي، المفاهيمي تسمية (العولمة) الا بعد انهيار وتفكك الاتحاد السوفيتي القديم عام 1991 وهذا تأكيد قول الاب الروحي للبراجماتية وليم جيمس حين يقول البراجماتية اسم جديد لافكار قديمة. لتبرز اسماء كبار من مفكرين وفلاسفة وعلماء اقتصاد امريكان يتبنون هذا المفهوم الجديد لعل ابرزهم كما ذكرنا سابقا فرانسس فوكوياما في نظريته نهاية التاريخ وموت عصر الايدولوجيات،وصموئيل هنتكتون الذي اكد على اهم واخطر سمة من سمات العولمة في تبنيه حتمية صراع الحضارات والتصادم بين الحضارات المختلفة وربط ذلك بعدئذ بالظاهرة التي استحدثت نفسها تاريخيا وعالميا فيما سمي مكافحة واجتثاث الارهاب...

كذلك فعل الباحث جون لويس غاديس حين تحدث عن وجود استراتيجية امريكية كبرى لتغيير الشرق الاوسط الاسلامي بأكمله وادخاله قسرا في قطار الحداثة العالمية... ومارتن اندك اكد من جانبه ضرورة ادخال اصلاحات كاسحة تطال الدول العربية والاسلامية وتنشيط وتقوية انظمة الاتجاهات الاسلامية المعتدلة التي يمكن التعايش معها.

لايسود اعتقاد حاليا لدى معظم الانظمة العربية والاسلامية مثل ايران، سوريا، السعودية، مصر، ليبيا، باكستان، تركيا، ان هذه الطروحات الامريكية لاتخيفها جدا الآن بل تفرض عليها التحسب لاخطار المواجهة او التعامل معها سياسيا حيث ان هذه الدول مجبرة على السير في المحصلة النهائية امام احتمالات استهدافها على ادخال اصلاحات عميقة وجذرية في مجالات الحريات السياسية والتأسيس للديمقراطية وحقوق الانسان والتعددية وتحجيم النزعات الفردية الاستئثارية بالحكم لفترات طويلة جدا،لكن ليس بالضرورة ان تشهد المنطقة العربية طبعات متعددة يجري تنفيذها كما جرى في افغانستان وفي العراق وسوريا وتبديل انظمة الحكم الا في حالات الضرورة القصوى المحتملة ... من المرجح ان النزعة العسكرية الامريكية التي تشنها في ملاحقة الارهاب ستخبو تدريجيا اذا تعلق الامر بتبديل انظمة الحكم بعد ان ضربت لها امثلة في بلدان شرق اوسطية .من الواضح جدا ان هذا الاستنتاج المار ذكره جاء سابقا على ثورات الربيع العربي , في تونس ,مصر ,ليبيا ,اليمن ,سوريا .وسابقا ايضا لاستفحال ظاهرة الارهاب...الخ .

اذا افترضنا – وهو افتراض ليس وهمياً خاطئاً وانما صحيح تماما الى ما قبل انهيار الكتلة الشيوعية – ان التفسير المادي الجدلي للتاريخ هو منهج اكثر قبولا والأرجح عقلانية في محاولة استقرائنا للتطور التاريخي البشري وربما يكون افضل واصلب النظريات في تفسير التاريخ انثروبولوجيا التي تبلورت تماما نظريا وتطبيقيا في القرن العشرين بما عرف بالنظرية الماركسية – اللينينية بعد نجاح الثورة البلشفية على الحكم القيصري عام 1917... نتساءل كي ننسجم مع ما ذهبنا له في الاسطر السابقة هل حقا بعد ان ودعنا القرن العشرين ودخلنا بداية الالفية الثالثة اصبح التاريخ الانساني محكوما بتطور (المسار الواحد) المستقيم المرسوم سلفا الذي لايمكن للعالم الحياد عنه او اختيار مفترق طرق اخر غيره!؟ في الوصول نحو هدفه وانطلاقته الى امام بحكم الحتمية التاريخية وضرورة سيرورة الاستقراء العلمي على اعتبار ان التاريخ محكوم شأنه شأن جميع الظواهر المادية والعلمية في عدم امكانية الثبات المرحلي الطويل الذي يسبق الطفرة النوعية الممهدة لاستقبال عصر تاريخي جديد والدخول بديالكتيك (الباب الواحد) المفضي الوصول لنهايته وهنا المقصود ليس نهاية التاريخ ماركسيا بل نهاية التاريخ امريكيا !! والاصح من ذلك نهاية التاريخ المراد له ان ينتهي عالميا بتتويج (العولمة) لنهاية التاريخ . خاصة بعد التوقف المرحلي الذي يسبق توالي العصور وبطء مسار التاريخ بعد انهيار الكتلة الشيوعية واستفراد القطب العالمي الواحد بتوجيه المسار البشري تاريخيا وحضاريا مفاهيميا وفلسفيا سياسيا واقتصاديا باسم (العولمة) التي يساق العالم بأسره تحت شعاراتها وتطبيق استراتيجيتها على كافة الاتجاهات ومختلف الصعد في كافة مناحي الحياة المعاصرة .هنا (العولمة) اذا ركزت اهتمامها على ايقاف قطار التاريخ فتحصيل حاصل تكون مفاهيم (العولمة) سياسيا واقتصاديا وهيمنة المعلوماتية وثورة الاتصالات تكون الغت حاجز الجغرافيا من على خارطة الكرة الارضية من دون الحاجة الى استعمال وسائل القسر والاكراه ايا كان نوعها. واذا لم يتم الغاء عامل الجغرافيا ضمن تصدير مفاهيمي للعولمة فان عاملي تطور الاتصالات والمعلوماتية العابرة للقارات في لحظات ومرحلة تقانة مابعد المعلوماتية اللذان لايعرف لهما حدود كفيلان لوحدهما الغاء العامل الجغرافيا من على الكرة الارضية – طبيعي لا نقصد هنا الحدود الجغرافية التي تحدد وتعين كيان كل دولة من دول العالم – كحاجز حقيقي له تأثير في امتلاك اي نوع من الحصانة في التاثر والتاثير المتبادل مع الغير والاخر بانفتاح كامل ويتعزز هذا الانفتاح بسيادة تعاليم (العولمة) التي في طريقها تلغي خصوصيات الهوية واتصالات اقتصادات العالم على شكل كارتلات كبيرة الحجم جدا فيصبح من تحصيل حاصل من نتائج (العولمة) انتفاء حاجز الجغرافية كناتج عرضي عديم القدرة في التحكم بمسار التاريخ سياسيا واقتصاديا وثقافيا .اثبت الاستقراء الاركيولوجي – الانثروبولوجي المعتمد في علم الاثار والاجناس في صيرورة التاريخ البشري ان حركة التاريخ التطورية الارتقائية المحكومة بقانون الجدل الديالكتيكي كما في المادة ايضا وجميع قوانين وظواهر الطبيعة اذ يتم التطور في توالي العصور  بشكل دائري حلزوني صاعد نحو الاعلى في تقدمه الى امام. ذروة هذا الاستقصاء تم على يد ماركس وانجلز نظريا لياخذ التطبيق السياسي والاقتصادي  والاجتماعي على وفق النظرية الماركسية – اللينينية في تطبيق المنهج المادي الجدلي الاشتراكي وصولا للشيوعية. صحة وصواب هذه النظرية العلمية المادية في دراسة وتفسير التاريخ البشري اصابها (التعثر) والوقوف والثبات المؤقت وليس (الالغاء) النهائي .

 

علي محمد اليوسف

 

في المثقف اليوم