قضايا

في بعض تجليات انحطاط الذوق العربي

alhusan akhdoushيوجد بعض من أقوال الكُتّاب في كتب الأدب والتاريخ والشعر تنسب للعرب كل فضيلة جيّدة، وتنفي عنهم كل رذيلة. ومثل هذا ذكره الألوسي في "بلوغ الأرب" حين قال: " والحاصل أن العرب لما كانوا أتم الناس عقولا وأحلاما، وأطلقهم ألسنة، وأوفرهم فهما، استتبع ذلك لهم كل فضيلة، وأورتهم كل منقبة جليلة." يمثّل هذا المقطع نقطة في بحر من النصوص النثرية والشعرية التي تروّج للتفاخر بعقلية الإنسان العربي انطلاقا من وهم فضيلة أصيلة؛ ولقد وقع صاحب هذا النصّ في حكم تعميم غير نقدي.

والواقع أنّ هناك دوما من يسمعنا أحلى الكلام عن ذاته وقومه ولغته؛ وهذا ليس مقتصر على الثقافة العربية وحدها، وإنّما نجد شيئا من هذا في ثقافات شعوب أخرى. لكن ما يهمّنا الآن هو عقلية الإنسان العربي. يعتقد بعض العرب ممّن لم مثل هذه الآراء أنّ قومهم أرقى الناس بلاغة وتعقّلا وفضيلة.. الخ. يقولون بهذا الاعتقاد لأنهم يستثقلون النقد. إنهم والنقد أعداء. لذا يسود اعتقاد عند غالبية القوم بأن الإنسان العربي نزيه وشريف، ليس لأن هذا الأخير يفهم حقيقة الأشياء ويقيس بعقله؛ بل لقدرته على إضفاء كل سمات الكمال على نفسه، غير أنّه ولشدة بلاهته لا يرتاح حتى يشوه هذا الكمال المزعوم بذوقه الأعرابي الفج.

إن الاستخدام الزائد لتمجيد الذات عند بعض العرب، قديما أو حديثا، يجد ما يبرره في كون هذا الكائن يملك ذوقا فيه من الفظاظة والبداوة أكثر ممّا فيه من الاعتدال والتسامح. ويتجلى هذا الأمر كثيرا في تلك الجرائم والخيانات التي شغلت أكبر جزء في تاريخ العرب؛ فرغم أن الإنسان العربي عفوي وتلقائي، إلاّ أنّه يجمع في نفسه الشيء ونقيضه: شجاع ومستعد للخير / متوحش نَهاب سلاّب. لذا فقد كان في القدم كلّما أخضع مملكة أو قرية لنفوذه وسلطته، إلاّ وأسرع إليها الخراب كما أشار إلى ذلك ابن خلدون.   

الظاهر أنّ هذه الميزة تمثّل احد المرتكزات الأساسية للمزاج العربي على مرّ العصور. إنّه مزاج وذوق بدوي / حسي إلى ابعد الحدود؛ وهو أيضا مختلط بنوع من الخرافة الدلالية. تسمّى هذا الميزة لدى السوسيولوجي المغربي عبد الكبير الخطيبي باقتصاد الأدلة. ولعل بعض ذوي الغيرة القومية والنزعة العروبية سيتهموننا بكوننا نحطّ من قيمة هذا الذوق؛ طبعا هذا ما ننتظره من أصحاب الذوق القومي؛ فهؤلاء الشعبويين الذين يسبون ويشتمون كلّما تم وخزهم ببعض النقد وتعكير مزاجهم القومي، غالبا ما يرفضون هذا الطرح مثلما ينكر المريض النفسي مرضه ولا يعترف به.

إن الذوق العربي يحسن إتقان الدفاع عن النفس بالاقتصاد الفارغ للدليل (أضفينا المعنى السلبي على مفهوم الخطيبي لاقتصاد الدليل)، حيث يستبدلون الدليل الحي بالميت: وهذه من أشد أعراض النفاق المزمن الذي تعاني منه الثقافة العربية.

البيّن مما سلف أنّ ذوقا من هذا النوع يعدّ بحقّ أسلوبا منافقا في التقويم، وهذا ليس فقط بخصوص ما يتذوقه، بل وأساسا مع ذاته التي يعمل على تفريغها من مقوّمات الشخص المتّزن: وذلك لكونه يجهد نفسه ليقتنع بنفاقه دون أن يملّ أو يحس بتأنيب ضمير مع رغبة جامحة في سماع الإطراء والمديح الكاذب. لذلك تجد أكثر الناس استمتاعا بهذا المزاج، في أوطاننا العربية، أولائك المنافقون الأكثر كذبا. ألا ترى في هذه الأوطان كيف أنّ حسن مزاج المرء ونجاحه يكمنان في شدة نفاقه وكثرة مجاملاته؟

الحقّ يقال: إن هذا النوع من الكائنات البشرية لا تستسيغ القول الصريح، ولا الحقيقة كما هي؛ بل إن صارحته أصبحت عدوه، وكلّ ما عليك فعله معه مجاملته بالقدر الذي يحسه بالراحة والرضا كذبا ونفاقا. إنها لعبت اقتصاد المعنى في إطار من اللف والدوران. يا لها من سخرية القدر؟؟ لقد انقلب هذا الكائن المائع على نفسه، مع مرور الزمن، حتى أصبح مضرب الأمثال في تشوّه الغرائز وفساد الطبع وانحراف الثقافة، وهذا يشهد به واقع حال ثقافتنا العربية عبر التاريخ إلى اليوم.

 

ذ. الحسين أخدوش / كاتب من المغرب

 

 

في المثقف اليوم