قضايا

سيرورة التاريخ وصراع الايديولوجيات

ali mohamadalyousifلا نعرف مدى تطابق وانسجام مفهوم السيرورة التاريخية والتطور البشري الحضاري لدى المفكر د. مطاع صفدي حين يقول "التاريخ لا يزحف ولا ينمو ولكنه يقفز قفزاته التي تعطي مجراه المتجانس صفة الللاتجانس فتبرز العصور ." لا تختلف هذه الرؤية وهذا التفسير في شىء عن المنهج الديالكتيكي الجدلي في تفسير التاريخ كثيراً .

لكن نعتقد ان مفهوم المفكر مطاع صفدي يبدو اكثر دقة واكثر وضوحا وتجانسا –ويمثل خروجا على التفسير الكلاسيكي المبتذل المادي للتاريخ وهو برأينا خروجا صحيحا حين يقول في نص اخر له مقارنة مع النص المثبت اعلاه " ان ميلاد التاريخ قد تطلب تاريخا طويلا من غياب التاريخ ." نعتقد هذا النص اكثر ترجيحا عقلانيا واستقراءا سليما في فهم السيرورة التاريخية بعيدا نوعا ما عن الالزام المادي الجدلي الذي يبدو فيه (التاريخ) في بعض مراحله (غائبا) بل الاصح برأينا (مغّيبا) في فرض المراوحة عليه وابقائه في مكانه بما يشبه السكون الكامن..بفعل قوى خارجية موضوعية على اعتبار حركة التاريخ ذاتيا شّغالة ابدا حتى وان كانت غير منظورة، هذا الغياب لفترات من التاريخ اهملته الماركسية واكدت ان التراكم الكمي كي ينبعث عنه ويتخلق منه تراكما كيفيا اي نوعيا، يشكل طفرة نوعية يحتاج مراحل تاريخية زمنية طويلة جدا الاف السنين، وهو تفسير مقبول انثروبولوجيا – حضاريا لكن ليس كافيا ولا مهما في تأكيد اهمال الماركسية (تغييب) التاريخ في بعض مراحله لان في ذلك فائدة كبيرة حجبتها واهملتها الماركسية في تفسيرها المادي للتاريخ كمراحل، عمدا كي لا تنفرط وتفتقد لديها حلقات عديدة من التاريخ الانساني الطويل الذي لم تتخلله طفرة نوعية في التاريخ بل كان المسار في تراكم كمي بطيىء جدا ساد الالاف من السنين واتضحت هذه الحقيقة لدينا مؤخراً نتيجة تقدم المعارف والمناهج العلمية في دراسة التنوع الظاهراتي-الانثروبولوجي لتاريخ الانسان قديما وحاضرا ومستقبلا..

ان التفسير التطوري لسيرورة التاريخ اقحمت التاريخ الانساني قسرا في نفق ديالكتيك (الباب الواحد) وهو تعبير الاستاذ الراحل المفكر عزيز السيد جاسم، الابتذالي ماركسيا وفي اضفاء التفسير العلمي المقبول -الوحيد- تقريبا فيما لو جاءت النتائج التاريخية الحقيقية التي تخللها المسار المنهجي التطوري المادي للتاريخ بشكلها الطبيعي مؤكدة السلسلة المترابطة في التطور والتفسير الذي كما اشرنا له سابقا كان مرشحا انه يمثل اصلب فهم وتحليل تاريخي علمي انطولوجي (وجودي) متماسك لحياة الانسان على الارض الذي وصلت اليه البشرية حتى النصف الاول من القرن العشرين المنصرم اي قبل انهيارالمنظومة الشيوعية في اخريات القرن العشرين. اكدت اهمية غياب (التاريخ) في بعض مراحل تطوره اكثر من اهمية تاكيد حضوره (الساكن!!) .

سنسترشد بنوعين من حضور التاريخ على وفق تفسير ديالكتيك (الباب الواحد) ... وعلى غياب أو بالاحرى (تغييب) مراحل تاريخية من عصور التطور البشري بعيدا عن نفس المنهج. الاول حين يؤكد (ايفلين توفلر) الذي سبقه عديدون وكثيرون من امثاله من الذين ذهبوا الى ان عصر الزراعة كان عصر بداية صنع الحضارة الانسانية التي تتميز بالمميزات التالية:

1- عرف الانسان كيف يخطط لمستقبله من حيث قدرته على توفير الطعام بكمية كافية عن طريق الزراعة، وتخزين الفائض عن حاجته اليومية.

2- بروز الحاجة للتحكم في المياه والفيضانات .

3- تدجين بعض الحيوانات الاليفة.

لا يمكننا من قراءتنا لهذه المرحلة التطورية التاريخية للوجود الانساني على الارض باختصار شديد جدا الا ان نكون مع حضور التاريخ ماديا جدليا في تفسير الطفرة النوعية من عصر الصيد الى عصر الزراعة وظهور بذور الحضارة الانسانية .

لكن من الصعب علينا اهمال (تغييب) المرحلة التاريخية في الطفرة النوعية بنفس الاستقراء المنهجي الذي اعتمدناه اعلاه، يؤكد ذلك المثال الابتذالي الماركسي الذي يعتمد العرق الابيض انه المؤهل لتحقيق الطفرات النوعية في التاريخ البشري من " ان ماركس برر احتلال بريطانيا للهند بكونه سيعمل على نقل الهند الى مستوى المجتمع الحديث، ناظرا الى التوسع الاستعماري الانجليزي بوصفه عملية ارساء اسس المجتمع الغربي في اسيا ومن هنا جاء الحديث عن العبء الملقى على كاهل الرجل الابيض " (نقلا عن المفكر العربي محمد عابد الجابري) .

ايا ما يكن من امر هذه التناقضات في تفسير التاريخ يبقى لدينا متوفر ماهو اكثر دقة وصوابا وهو حقيقة انه بالمفهوم التنظيري البراجماتي الليبرالي الذي بدا لنا هشّا في حين اظهره الواقع التطبيقي على الارض متماسكا صلبا متكاملا، استطاعت به ومن خلاله الولايات المتحدة الامريكية وحليفاتها مواجه الاتحاد السوفيتي القديم المستند على اصلب ايدولوجيا علمية تاريخية معاصرة في ماديتها وجدلها التطوري التاريخي لاكثر من نصف قرن .. ولم يكن يخطر من خلال الامعان الجاد ولا كان من السهولة مطلقا التسليم خاصة بالنسبة لامريكا ان الايديولوجيا الماركسية التي كان يعتبرها ماكسيم رودنسن بان الايدولوجيا تمثل اكبر طاقة للتعبئة البشرية الاجتماعية ... يعمل التاريخ ومستجدات العلم في صالحها ان تبدأ- الايديولوجيا الشيوعية- بعد التطبيق الذي لم يدم اكثر من سبعين عاما بالشيخوخة المبكرة والاحتضار بالسكتة القلبية التي فاجأت العالم ممثلة في انهيار دراماتيكي مدهش وهي لم تكمل بعد قرنا واحدا من عمرها الزمني .

دائماً يجري في كل الاحوال وفي جميع ميادين المعرفة والعلم والحياة ان يكون التطبيق الواقعي الميداني الاجتماعي في الاختبار لصحة الاستنتاجات المستخلصة علميا، وحين يراد ان يكون ناتج ونضح تطبيق سيسيولوجيا الافكار ونظرياتها (مطابقا) لما يراد استحضاره من فوائد قيمية معرفية سياسية اقتصادية اجتماعية، مهما تم توفير وبدقة متناهية احيانا عوامل انجاح فاعلية النظريات والافكار وفي امتلاكها قدرة التطبيق الخلاق الا انه نجد محصلة النتائج في النهاية رغم كل الجهود المبذولة في انجاح فاعلية النظرية المتوخاة المرجوة ناقصة قاصرة في الميدان العملي التجريبي كناتج لما هو مرسوم الوصول تحقيقه من وراء تطبيق الافكار المجردة والنظريات الجاهزة من نشدان للتغيير وسعي للتبديل في الحياة العامة التي تتضح بالنهاية صعوبة تحقيقه في نتائج التطبيق والناتج المتحقق من النظريات والافكار.

اغلب النظريات في الاجتماع والسياسة والاقتصاد كان فيها مدى الامتداد الشمولي الافقي المحكوم بالتراكمات الكمية غالباً على التعامد الراسي الشاقولي المؤثر في هيكلية عمق المجتمع المراد التاثير به وتغييره نحو الافضل.

لذا نجد من السهولة ان تقع النظريات في مطب التلفيقية اغلب الاحيان حين تحاول الترقيع والتركيب الميكانيكي غير المتناغم شكلا وغير المتسق موضوعا...او تقع في المطب الثاني وهو التوفيقية الذي يتمثل ويهضم الفكر من مصادره المختلفة والمتنوعة ثم ياتي الينا بنتاج جديد المهم ان الناتج الذي ياتي به يكون متناغما متسقا حتى اذا تبينا فيه اثار تلك المصادر. (نقلا عن الدكتور سعد الدين ابراهيم بتصرف) .

حدث ويحدث مثل هذا باستمرار حتى خارج نظريات علم الاجتماع يحدث مثلا في مجال علم الفيزياء او الكيمياء او حتى في الطب وعلوم الفلك والفضاء وفي الطبيعيات وغيرها..

نعود الان انه امام المواجهة غير المتكافئة غير الندية بمؤهلات كافية يمكن اعتمادها ما بين مفهوم البراجماتية العملي الذي هو افراز المرحلة الامبريالية من رحم الراسمالية ونتيجتها في مواجهة المعسكر المضاد الذي ينعدم بينهما (اتفاق) او لقاء الحلول الوسط طيلة مدة الحرب الباردة .. كانت الكفة على صعيد صراع الايدولوجيات تشير للغلبة الماركسية اللينينية في نظامها الشيوعي لروسيا ومجموعة منظومة الدول الاشتراكية الاخرى المنضوية تحت لوائها.

امام هذا المأزق الذي انحشرت فيه الولايات المتحدة الامريكية بما لا يمكنها الافلات والخلاص منه بسهولة اختارت امريكا طريقا خاصا بها يقف الى جانبها ويؤيدها فيه الدول الراسمالية الحليفة لها، الطريق هو سحب الاتحاد السوفيتي القديم خارج ساحة المواجهة في صراع الايدولوجيات الى صعيد اخر مختلف مغاير هو في صراع المواجهة السياسية الميدانية في نشر تطبيق ومعالجة (نتائج) الصراع على الارض...

السمة الجوهرية لهذا الصراع الذي اعتمدته امريكا هو في التركيز على (جغرافيا) المكان بدلا من (زمانية) التاريخ الخاسرة مسبقا كونه يستند الى جدار ينتهي بالاصطدام بصلابة الايدولوجيا الماركسية اللينينية المتفوقة .

هذا الصراع لم يكن يشير لعجز يسم ويصبغ الايديولوجيا الشيوعية في قصورها وتخلفها او عدم عنايتها بالتطبيق الواقعي للافكار على صعيد السياسة والاقتصاد وغيرها وملاحقة التحولات والتغييرات المستجدة المنشودة على ارض الحياة بكل مناحيها، بل في عجزها الذي ثبت بعد انهيار الشيوعية مؤخرا ومثّل مقتلا يدفنها هو في عدم استطاعتها – اي الايديولوجيا والمنهج الشيوعي– عن مواجهة مجاراة خصمها الولايات المتحدة والمتحالفين معها في ميادين مايتطلبه الواقع السياسي والعسكري والاقتصادي الذي تمثل في تفرد وانصراف الاتحاد السوفيتي وحيدا كقوة عظمى مناصرة للشعوب المقهورة والمستضعفة وحركات التحرر الوطني في مختلف بقاع العالم بما يترتب على ذلك من انفاق شمل مختلف الاشكال من دعم سياسي، عسكري، اقتصادي وخبرات علمية كلها شتت الاموال والموارد والقدرات والطاقات من جهة وانصراف النظم الشيوعية عن التفرغ المطلوب لما تتطلبه اشتمالات وحاجات مناحي الحياة تجاه شعوبها من جهة اخرى... واخذ عامل الزمن يأكل من الجرف السوفيتي في المواجهة مع امريكا لمرحلة ابتدأت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية . وهذا التآكل في القدرات من الجرف الشيوعي كان بعيدا عن المواجهة الايدولوجية المحصورة في غائية الكسب السياسي على صعيد المواجهة الشرسة في الحرب الباردة من ميدان سباق التسلح والانفاق المادي والمالي المطلوبين لاسناد وتيرة وتصاعد النضال التحرري الوطني للتخلص من الهيمنة الاستعمارية العسكرية والاقتصادية والتمييز العنصري لبؤر ثورات التحرير الوطني التي اندلعت في اعقاب نهاية الحرب العالمية الاولى بمختلف مناطق العالم على امتداد القارات، حركات التحرر الوطني العربية من الاستعمار الاجنبي الانكليزي،الفرنسي، الايطالي ...الخ من مختلف الجنسيات، حركات التحرر الوطني الافريقية للتخلص من الاستعمار والتمييز العنصري، حركات التحرر الوطني لدول امريكا اللاتينية في كوبا، تشيلي، بوليفيا، سلفادور، كولومبيا، وكذلك في مناطق جنوب شرق اسيا كما في فيتنام .

باختصار شديد تمكنت الولايات المتحدة من خلال هذه المواجهة على صعيد مناصرة الاتحاد السوفيتي لحركات التحرر الوطني من الاستعمار ادخال وسحب الاتحاد السوفيتي القديم الخوض في مستنقع (الاهتمام بحركات التحرر الوطني) في جميع ارجاء العالم التي اشرنا لها وتخليصها من الهيمنة الاستعمارية وما يستتبع ذلك من ازالة للفقر والتخلف واحيانا الدكتاتوريات التي ورثت بعض انظمة الحكم عن الاستعماربعد نيل الاستقلال الوطني...

هذه السياسة بقيت راسخة تحكم ارادة السوفيت واستراتيجيتها السياسية في مناصرة حركات التحرر الوطني لآخر خطوة والاصطفاف الى جانب الحركات والمنظمات السياسية المقهورة لآخر لحظة ايضا.

مستنقع لا يستطيع الاتحاد السوفيتي تجاهل الخوض فيه او التنصل من تحمل اعبائه وتبعاته كي لاتكون الايديولوجيا الماركسية بذلك متناقضة مبدئياً مع رسالتها الانسانية التي تحملها وتنادي بها الحرية، الاستقلال، الرخاء، السلام لكافة شعوب وامم الارض على صعيد مواجهة الامبريالية الامريكية التي لم تقم وزنا للناحية الانسانية تجاه الشعوب المستعمرة طيلة فترة الحرب الباردة...

كما اشرنا لم يكن الاتحاد السوفيتي يستطيع الخروج من المستنقع والتخلص من تبعاته الباهضة الثمن بسهولة ويسر ايضا.. كان مأزقا يتطلب من الاتحاد السوفيتي القديم تقديم الدعم السياسي واحيانا العسكري والتسليح وامدادات الخبراء وما يتبعها على كافة الصعد اللوجستية المطلوبة في الاسناد متضمنة امدادات في التقنية العسكرية ومفاصل التسليح الحديث... امدادات بالخبرة التقنية العسكرية الميدانية وفي احيان تطلب الامر امداد بعض حركات التحرر الوطني بالخبرات العلمية التكنولوجية المتطورة جدا، هذا وغيره كثير كان الضريبة الباهضة التي اثقلت كاهل الاتحاد السوفيتي الواجب عليه دفع فواتيرها وتسديد استحقاقاتها وبذلك وحده كان الاتحاد السوفيتي القطب الوحيد والقوة العظمى في العالم التي استطاعت تقديم العون والمساندة للشعوب المقهورة في اعتمادها الجانب الانساني وهذا بمرور الوقت استنزف لامحالة طاقات واموال وامكانات البلد الحديث القوي الذي تلجأ له الشعوب المستضعفة لتستقوي به امام جبروت الاستعمار الغاشم الذي كان يضع خلف ظهره وعلى آخر اهتماماته السياسية فاعلية الجانب الانساني.

ربما يتبادر الى الذهن ان الولايات المتحدة الامريكية كانت هي الاخرى متورطة وغارقة في نفس المستنقع الذي تورط فيه الاتحاد السوفيتي وهو صحيح تماما لكنما الاختلاف كان مابين نصرة الاتحاد السوفيتي للشعوب المناضلة من اجل الحرية والاستقلال تحكمها منطلقات انسانية سياسية صرفة تماما دونما حساب مسألة الربح والخسارة على صعيد الاستنزاف المادي والاقتصادي بل فقط على صعيد الربح السياسي المحكوم بالمبدئية في نصرة الشعوب لنيل حريتها واستقلالها والتحكم بثرواتها الطبيعية .

كانت امريكا في المقابل في ساحات المواجهة ضد الاتحاد السوفيتي وحروبها بالنيابة تقيم حساباتها السياسية الستراتيجية والعسكرية بالضد تماما من مبدئية الاتحاد السوفيتي،سياسة اقامتها على وفق مبدأ تحقيق الربح السياسي والاقتصادي وتصريف مبيعات الاسلحة وتجنب التضحية والخسارة باي شىء ما امكنها ذلك وكانت امريكا تؤثر تحقيق مصالحها الاقتصادية في البلد الذي تحاول الدفاع عنه وربط سياسات ذلك البلد في كافة الميادين في التبعية لامريكا.

يضاف لكل ماورد ذكره ميادين مجابهة اخرى كان الاتحاد السوفيتي الخاسر فيها ايضاً ميادين خطرة لايمكن تجاهلها وتتطلب ايضاً تضحية بالاموال والموارد والانصراف عن تحقيق تنمية اقتصادية طموحة داخلياً بالنسبة لشعوب الاتحاد السوفيتي … صرفت فيها اموالاً طائلة في دخول حلبة المواجهة في الحفاظ على السلم العالمي وتوازن الرعب الستراتيجي الذري النووي والاستنفار الدائم لمقتضيات الحرب الباردة او الحرب بالنيابة وهو ما يتطلب تنافساً حامياً دائمياً على مستوى تطوير التصنيع العسكري كماً ونوعاً والتنافس العلمي التقني والتكنلوجي المتطور المتسارع دوماً والتسابق في مجال غزو الفضاء المكلف المرهق، ولم يتوقف هذا النزف الستراتيجي ويوضع حد له في تدهوره غير المعلن عالمياً الا بمجيء غورباتشوف لسدة الحكم عام 1985 ليضيف الى معلوماته السياسية العقائدية العجز المالي الكبير في خزينة ميزان المدفوعات بشكل مخيف لايمكن تجاهله لان في ذلك ضرب من الانتحار، كما وجد تدني سعر صرف (الروبل) الروسي امام الدولار الامريكي والعملات الاجنبية الاخرى وصل الحضيض ……التضخم النقدي الذي بلغ اعلى مستوى له في مقابل عجز الدولة عن دفع رواتب الحد الادنى لموظفيها ومنتسبيها !! وجد غورباتشوف الاتحاد السوفيتي العملاق نمراً من ورق وصنماً راكعاً بدأ الكفر بقدسيته على الارض ..انه الاتحاد السوفيتي الذي ظهر للعالم منذ عام 1917 عملاقاً لايقهر وجده غورباتشوف على حقيقته وليس في صورته المخطوءة المغيبة عن انظار العالم لاسباب شتى …لم يعد الاتحاد السوفيتي القوة العظمى التي وقفت نداً قوياً صلباً في وجه الامبريالية الامريكية وحليفاتها ..رافق كل تفاصيل هذه الصورة المأساوية حتمية تاريخية انه اّن أوان تسديد مستحقاتها، و مرحب بها من قبل شعوب الاتحاد السوفيتي من غير الروس في قابلية الاستعداد على التفكيك والتجزئة والانفصال. وبالتالي تحقيق الاستقلال عن الرجل الروسي الذي يحتضر وفي الاعتماد على الذات بعد التسليم بوفاة المعيل الوحيد الذي تعتمده شعوب الاتحاد السوفيتي لهذه الرقعة الجغرافية الشاسعة من العالم التي رزحت عقود طويلة من الزمن تحت الهيمنة الشيوعية المركزية للروس.

لم يكن امام غورباتشوف سوى اللجوء وليس الاختيار فلم يكن ولم يعد هناك مجالاً للاختيار سوى اختيار التفكيك والتقسيم والتجزئة كتجربة اختبار وحيدة امامه لمحاولة انقاذ ما يمكن انقاذه، وهذه التجربة المؤلمة غير المتوقعة عالمياً، التجربة وصلت اوج نضجها والتسليم بها رسمياً وشعبياً والقبول والموافقة الطوعية تجلت في معرفة طروحات الزعيم الجديد غورباتشوف فيما يعنيه ويقصد تنفيذه عملياً في مفاهيمه التي طرحها على الحزب والدولة وشعوب الاتحاد السوفيتي قاطبةً في :

اولاً- المراجعة والنقد الذاتي المتحرر من اية وصاية لاية افكار عقائدية صارمة مسبقة في تزمتها الذي انتفت فيه اسباب الرضوخ له والتمرد على اية نزعة وهمية تحاول التمسك بمجدٍ زائف زائل من اين اتت !! فكان (الغلاسنوسيت) المراجعة الذاتية والشفافية.

ثانياً- في النظر الواقعي الجاد لدراسة ضرورة الهيكلة الادارية والسياسية والاقتصادية من جديد لجميع دول وكيانات وقوميات الاتحاد السوفيتي.. فكانت (البروسترويكا) .

كانت تلك المفاهيم الجديدة جذرياً التي طرحها بجرأة قل نظيرها في التاريخ السياسي رجل سياسي تحمل اكبر مسوؤلية تاريخية واجهت العالم واكبر منعطف واجه بلده بالتحديد لكنها

– أي هذه الانعطافة التاريخية – ليست الفريدة في التاريخ الروسي ودول اوربا الشرقية الملىء بالمنعطفات التاريخية الدراماتيكية والتبدلات والتغيرات التي لايمكن تصديقها .

لقد وجدت شعوب الاتحاد السوفيتي والشعب الروسي تحديداً ان تطبيق الافكار الجديدة لغورباتشوف هي قطع الخشب الباقية الطافية من تحطم سفينة النجاة للاتحاد السوفيتي من محنته ومحاولة انتشاله من قاع سقوطه وصعوبة وخطورة اوضاعه على كافة الصعد داخلياً وخارجياً .. انها سفينة ( تيتانيك ) وهي تغرق تدريجياً وتتناثر اشلاءها وكان محتماً على كل فرد من الموجودين على متنها من جميع شعوب الاتحاد السوفيتي التشبث بالقطع الطافية للنجاة من الغرق ومحاولة الخلاص من الموت قبل ابتلاع امواج البحر الصاخب والعواصف لجثثهم المرعوبة الهامدة.

وبدأ التفكيك في عام 1991والشروع بالانفصال المتتالي وسط دهشة العالم الذي يكاد لايصدق ما يحدث حقيقة لما كان يطلق عليه اكبر ثاني قطب قوة ونفوذ وهيبة في العالم يمتلك اسرار ومفاتيح التأثير السياسي والاقتصادي وكافة مناحي الحياة لشعوب معظم دول العالم .

كان ذلك اكبر منعطف في تاريخ البشرية الحديث في القرن العشرين باستثناء اقسى ثلاث احداث مر بهما العالم الاول الحرب العالمية الاولى والثاني الحرب العالمية الثانية والثالث احداث 11 ايلول عام 2001 التي وقعت في نهاية العام الاول من الالفية الثالثة فكان تأثير هذا الحدث محسوباً على القرن العشرين بما لايقاس ولايقدر من تأثيره في رسم ملامح مستقبل البشرية في القرن الواحد والعشرين في انفراد القطب الامريكي الواحد في العالم .

لقد اطلنا الدخول في تفاصيل تهم الاتحاد السوفيتي القديم ونحن بصدد البحث عن الجانب الاخر الامريكي (العولمة) واسبابها، انه من رحم هذا الحدث – تفكك الاتحاد السوفيتي – ولدت العولمة الامريكية اكثر من أي سبب اخر جرى داخل الولايات المتحدة او خارجها.

لم يكن هذا الحدث الكبير الذي هز العالم وزلزل بتأثيره جميع ركائزه قادراً على ايصال العالم الى نهاية التاريخ كما فسر وفهم ذلك اكبر فلاسفة وراسمي استراتيجية الولايات المتحدة الامريكية من امثال فوكاياما، هنتكتون ..كل ما استقبله العالم كنتيجة لتصدع الاتحاد السوفيتي هو تحقيقه ولادة مرحلة جديدة تاريخية يمكن تسميتها عصر افول نجم عصر الايدلوجيات الثورية ولكن … الى (حين) !!

وهو احتمال وارد جداً تؤكده الشواهد العديدة منها احتفاظ الحزب الشيوعي المجري بنفوذه الشعبي الواسع وتمثيل الاغلبية الشيوعية في البرلمان، وسيطرة البرلمان الروسي بالاغلبية الشيوعية وهذه بعض مؤشرات تحضرنا في هذا المجال تعطي احتمالاً جدياً لعودة منهج عقائدي شيوعي محسن باصلاحات ديمقراطية وحقوق الانسان الاساسية وانفتاح ايديولوجي متحرر من الجمود العقائدي والانغلاق احتمال عودته ثانية واردة لبعض البلدان الشيوعية . من هذه النهاية نبدأ، فرانسيس فوكوياما وصموئيل هينتكتون واخرون غيرهما طرحوا نظرياتهم ورؤاهم المستقبلية بضوء انفراد امريكا كقطب واحد متنفذ في العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة الى مقولة

(نهاية التاريخ) ودخول العالم عصر (العولمة الامريكية) وسيادة وهيمنة نوع من صراع الحضارات !! عزز هذه الطروحات عوامل ومتغيرات دولية ثانوية عديدة لعل اهمها على الصعيد الجيوسياسي هو تقسيم (جيكوسلوفاكيا) القديمة على اساس عرقي الى دولتين واحدة للجيك باسم (جيكيا) واخرى للسلوفاك باسم (سلوفاكيا) سبقها ورافقها ايضاً كما ذكرنا الاطاحة بجميع النظم الشيوعية في دول اوربا الشرقية ولم تسلم من هذا التغير الكاسح حتى دولة اوربية شرقية صغيرة مثل (البانيا) التي حكمها قرابة اربعين عاماً حكم الدكتاتورية والانغلاق التام والانقطاع عن العالم باسم الشيوعية الدكتاتور (أنور خوجا) الذي جعل من حكمه لالبانيا افقر دولة اوربية شرقية وادناهم تخلفاً حين تقدمت بعد الاطاحة بالشيوعية فيها طلب الانضمام للاتحاد الاوربي والسوق الاوربية المشتركة اصبحت البانيا في تخلفها وفقرها المدقع موضع تندر واضحوكة امام دول اوربا الغنية المنتفخة . واتى في الاخير دور التمزيق العرقي الطائفي ليطال اخر بلدان ما كان يسمى اوربا الشرقية التي كانت جميعها تدور في فلك الاتحاد السوفيتي تلك هي (يوغسلافيا) القديمة اطيح بالنظام الشيوعي المتفرد فيها بخصائصه الذي ارسى دعائمه الصلبة القوية (تيتو) الزعيم المتمرس بالحرب ذو الارادة الحديدية الذي يعود له الفضل الاكبر في طرد النازي بالحرب العالمية الثانية وتوحيد (يوغسلافيا) المجزأة المقسمة على يديه….في اعقاب التحرير بنى (تيتو) يوغسلافيا واقام فيها نظامها الشيوعي الخاص باستقلالية كاملة عن مركزية الدوران في فلك التبعية للاتحاد السوفيتي استثناءا من جميع دول اوربا الشرقية واطلق (تيتو) على بناء تجربته الشيوعية المتفردة باشتراكيتها المميزة (زودتشة) التسيير الذاتي.

(العولمة) طرحت نفسها بعد كل هذه التغييرات العالمية التي مررنا بها وغيرها الكثير بعد زوال خطر الاتحاد السوفيتي ارادت كل من اسرائيل وامريكا –سيتضح لنا لماذا اسبقية اسرائيل على امريكا في فرض مفاهيم واستراتيجية العولمة الامريكية خدمة لمصالحها الستراتيجية البعيدة المدى، أن توضع فلسفة (هينتكتون) في العولمة وصراع الحضارات وظاهرة الارهاب موضع التنفيذ خاصة ان الولايات المتحدة الامريكية تتكىء على ميراث حربي مرعب ودعم لوبي صهيوني يميني امريكي متطرف ومتنفذ معاً . منذ ظهورها قوة عالمية عظمى صاعدة يحسب لها الف حساب بعد القائها على اليابان في اب 1945 قنبلتين ذريتين الاولى في آب على هيروشيما والثانية بعد ثلاثة ايام على ناكازاكي قبل انهاء الحرب العالمية الثانية .

ربما نستبق الامور قبل ان نأخذ القارىء الى استنتاج نتوصله على وفق استقراء يقودنا الى نتيجة ان العولمة لم تطرح نفسها منذ البدء، كمفهوم حضاري متمدن، بل كمفاهيم (متطرفة واثقة) باستطاعتها ان تُلبسها غيرها من (الارهاببين) بخاصة الاصوليين الاسلاميين الذين يتميزون بفوضوية سياسية كبيرة جداً يصاحبها تنظيم عسكري –ايديولوجي صارم منغلق وايديولوجيا دموية مرعبة، على وفق ايحاءات استفزازية تارة، وامدادها باسباب البقاء تارة اخرى كما حصل في افغانستان في دعم الامريكان لطالبان، وتامين بقاء بن لادن في بريطانيا.

ان من المهم تحديد وتبيان مواصفات التشابه ما بين (العولمة) كمفهوم يأخذ اللبوس الحضاري في حين ينفذ ويوصل اهدافه باسلوب (التطرف السياسي) وما بين الارهاب كظاهرة عدوانية دموية متخلفة يراد لها ان تحتمي باللبوس الديني للاسلام!!

بعد ان عرف العالم بعد تفجيرات ايلول 2001 المرعبة مواصفات التضاد والاختلاف والاحتراب القائم بينهما والى متى ينتهي!؟ والى اين يقود!؟. ان (العولمة) باسلوب التصدير الامريكي الارهابي تلتقي بظاهرة الارهاب الشرق اوسطي المحتمي بالاسلام كدين ،كلاهما ظاهرتان يجمعهما صفة (التطرف Dogmatism) الذي يعني الجمود العقائدي والانغلاق والعنف الدموي .. والتطرف بهذا المعنى اسلوب مغلق التفكير يتسم بعدم القدرة على تقبل اية معتقدات تختلف عن معتقدات الشخص او الجماعة الاخرين او على امتلاك قدرة التسامح ويتسم هذا الاسلوب بنظرة الى المعتقد تقوم على مايلي:-

1- أن المعتقد صدقاً مطلقاً ابدياً لديها.

2- يصلح لكل زمان ومكان .

3- لامجال لمناقشته ولا البحث عن ادلة تؤكده أو تنفيه.

4- المعرفة كلها بمختلف قضايا الكون لاتستمد الامن خلال هذا المعتقد دون غيره.

5- ادانة كل اختلاف عن المعتقد.

6- الاستعداد لمواجهة الاختلاف بالراي او حتى التفسير بالعنف.

7- فرض المعتقد على الاخرين ولو بالقوة، الملامح او المميزات الاسلوبية وصفات التكوين المفاهيمي المعرفي قاسم مشترك بالصفات تجمع ما بين مفهوم العولمة كمعطى حضاري تاريخي في ظاهره، و في اسلوبه ونواياه من جهة وما بين ظاهرة الارهاب الاسلامي المتطرف المفروز عن معتقد متخلف الفهم حضارياً منغلقاً شّوه صورة الاسلام كدين وحضارة من جهة اخرى مضادة(*).

 

علي محمد اليوسف

 

في المثقف اليوم