قضايا

ما بين الهدوئيّين والمولويّين من اتّفاق في استحضار النّور الإلهيّ

madona askar"في الاسم القدّوس، طاقة إلهيّة تخترق قلب الإنسان وتغيّره متى انبثّت في جسده" (القدّيس غريغوريوس بالاماس)

حينما يدعو المؤمن الله فإنّما يستحضر الحضور النّورانيّ العظيم الّذي لا يقوى الحسّ على استيعابه  واحتوائه إلّا إذا انغمس في تفاصيله، وانصهر فيه. وإذ يدعو المؤمن الله فهو يستدعي الكائن والّذي كان والّذي يأتي. إنّه الحضور الممتدّ منذ الأزل وإلى الأبد. النّور الأزلي الأبديّ الّذي اختبره أؤلئك المتصوّفون وعاينوه في قلوبهم. وما إن عاينوه حتّى انسلخوا تلقائيّاً عن العالم بفعل قوّة هذا النّور الإلهي. والمعاينة التصاق بالله، اتّحاد به ومكوث في الفرح الأبديّ حتّى وإن ما برح المؤمن في العالم.

ما نشهده في الهدوئيّين، رهبان جبل آثوس الّذين يعتمدون الصّلاة القلبيّة الّتي هي الرّكيزة الأولى للهدوئيّة. فأوّل شرط في هذه الصّلاة، الّتي تسمّى أيضاً صلاة الرّب يسوع، هو الصّمت والتّحرر من التّصورات الماديّة بأشكالها كافّة. ونصّ هذه الصّلاة: "ربّي يسوع المسيح ارحمني أنا الخاطئ". يُردّد هذا النّصّ متلازماً مع وضعيّة للجسد من شأنها أن تساعد على التّركيز. وتتناغم عمليّة التّنفّس مع الصّلاة المكرّرة ويكون الرّأس مطأطأً وتلتقي الذّقن بالصّدر وتشخّص العيون إلى القلب. هذه  الطّريقة في الصّلاة،  لا تشكّل جوهر الصّلاة بالذّات بل تساعد فقط على التّركيز؛ ولم تكن يوماً شرطاً موجباً. ويعتقد الهدوئيّون أنّ النّعمة الإلهيّة لا تأتي عن طريق حركات الجسد، كما أنّه ليس من تقنيّات تؤدّي إلى حالة التّصوّف الّتي يسعى إليها الهدوئيّون. ويرون أنّ أقصى ما يمكنهم الحصول عليه هو أن ينكشف لهم النّور الإلهيّ غير المخلوق، المماثل للنّور الّذي رآه التّلاميذ الثّلاثة في أثناء تجلّي السّيّد المسيح على جبل ثابور. والهدوئيّ ينقّي نفسه من أي غضب أو شغف أو هوى، وينصرف عن سائر المعيقات إلى التّأمل والعبادة. وهذا النّقاء يجعل القدرة الإلهيّة الّتي اكتسبها عند العماد قابلة لأن تتفاعل فيه بنتيجة الصّلاة المتكرّرة والمتناغمة مع التّنفّس الهادئ ويصل الهدوئيّ إلى حالة من النّشوة الرّوحيّة وتغمره أشعّة من النّور الإلهيّ، الّذي يؤمن الهدوئيّون أنّه هو ذات النّور الّذي ظهر للتّلاميذ في أثناء التجلّي.

هذه الصّلاة المتلازمة ووضعيّة الجسد ونقاء النّفس التّام وتكرارها حدّ الثّمالة بالحضور الإلهيّ تبيّن أنّ الهدوئيّ يصل إلى مرحلة من الانغماس الكلّيّ في النّور الإلهيّ. يردّد القلب الصّلاة حتّى يستحيل نبضه صلاة مسيطرة على الكيان كلّه. ولا ريب أنّه تدرّج تصاعديّ ينقل المصلّي إلى ذرى الأعالي الإلهيّة الكامنة في النّفس. إنّه يعاين النّور الإلهيّ في ذاته، فيتّحد ويمتزج به.

والهدوئيّة هي ترجمة للّفظة اليونانيّة HESYCHIA الّتي تعني الهدوء والسّكينة اللّذين هم أبعد وأعمق من الصّمت. إنّها الحركة الدّاخليّة العميقة في قلب الإنسان، حيث لا حسّ ولا سمع، ولا بصر، ولا أيّة حركة تعيق تنفّس الله في العمق الإنسانيّ، إن جاز التّعبير.

في خطّ آخر، نرى في  المَولويّة  وهي أشهر الطّرق الصّوفيّة في العالم حركة جسديّة نفسيّة وروحيّة لبلوغ الكمال واللّقاء بالله. 

كلّ حركة يقوم بها الدّراويش، لها معنى ودلالة خاصّة.  فالدّوران عكس عقارب السّاعة دليل على تبادل اللّيل والنّهار. والزّيّ الّذي يعتمدونه، له كذلك دلالة خاصّة.  يرتدي رئيس الفرقة عباءة سوداء، فوق ألبسة بيضاء فضفاضة تدلّ على كفن الموت ويضع طربوشاً طويلاً من اللّباد الخشن يسمى (القلبق) يرمز إلى (شاهد القبر). والعباءة البنيّة بلون التّراب الّتي يرتديها الدّراويش ترمز إلى الأرض. تعني كلمة درويش بالفارسيّة الهدوء والاتّزان وذا النّفس الزّاهدة.

يخلع الدّراويش عباءاتهم البنّيّة ببطء دلالة على التّجرّد  من الحياة  سعياً إلى الخلاص. يمرّون على شيخهم ويقبّلون يده فيقبّل رؤوسهم. يقوم الشّيخ بحركات دائريّة واسعة كأنّه يدور حول مركز الكون. بينما يقوم  الرّاقصون حوله بدورات بطيئة فى البداية. ويكون الدّوران  بثبات القدم اليسرى الّتى تدور فى مكانها على الكعب، بينما تلتفّ القدم اليمنى على أطراف الأصابع حولها فى تتابع سريع. وفى كلّ  دوران يُذكر اسم الله الّذى يشكّلونه بحركة أيديهم وأجسامهم، للاستعانة به لحفظ الشّريعة أمام هول تعاقب الأيّام والذّنوب وسرعتها. يتسارع الدّوران حتّى يبلغ الذّروة ويشترط ألّا تلامس أيديهم ثيابهم بأيّ حال. كفّ اليد اليمنى متوجّهة  إلى السّماء لطلب الرّحمة، واليسرى تتّجه إلى أسفل لتدلّ على الأرض الّتي ترمز إلى الخطيئة. ثمّ يبدأ الإنشاد مع ارتفاع صوت الموسيقى تدريجيّاً على النّاي مع ترداد كلمة (الحيّ) لتُختَتم وصلة الدّوران بعبارة (الله الله الله...)

لست بصدد المقارنة بين رهبان جبل آثوس والمَولويّين. فالاختلاف سواء أكان في العقيدة أم في الطّريقة لبلوغ النّور الإلهيّ قائم. لكنّ المشترك بين الاثنين أوّلاً استدعاء القدّوس، والامتلاء من حضوره. ثانياً التّجرّد العالميّ الكلّيّ مقابل الامتلاء بل الالتصاق بالله. وثالثاً رغبة المتصوّف العميقة بولوج هذا التّجلّي بالموت عن العالم. يقول القدّيس غريغوريوس بالاماس في هذا الصّدد: "لقد أردت في بعض الأحيان أن أموت عن كلّ الحياة وأن أحيا الحياة الخفيّة في المسيح؛ أن أصبح تاجراً يشتري اللّؤلؤة كثيرة الثّمن بكلّ ما أمتلك، وأن أعطي كلّ شيء زائل وعابر في مقابل ما هو أبديّ وسماويّ". وفي ذات الخطّ يقول جلال الدّين الرّومي: "حياة العاشقين في الموت، ولن تملك قلب الحبيب إلاّ بفقدان قلبك".

المائت عن العالم حيّ في القدّوس، ثابت في السّماء، في الحالة النّورانيّة الإلهيّة. ما لم يفهمه كثيرون متّهمين المتصوّفين بالكفر. ومن العسير فهم هذه الحالة ما لم تتمّ بالاختبار. فاللّقاء بالله اختبار علائقيّ لا تأمّل نظريّ. إنّها الحركة الدّيناميكيّة السّماويّة المتغلغلة في الإنسان المنتظرة منه التّفاعل الحركيّ جسديّاً ونفسيّاً وروحيّاً، فيتمّ اللّقاء كيانيّاً لا شفهيّاً وحسب.

 

مادونا عسكر/ لبنان

 

 

في المثقف اليوم