قضايا

أنسنة الدين والمعطى الفطري للتديّن

ali mohamadalyousif

المعطى الفطري للتديّن: اكون متعجّلا جدا، انه ليس هناك من حاجة لانسنة الدين، فالدين مؤنسن بالفطرة الميلادية للانسان، الدين معطى ازلي ملازم الوجود الانساني، فطري ومكتسب معا، لو لم يجده الانسان في حياته على الارض، لبدأ التفتيش عنه في مراحل عمرية متأخرة، وقام باختراعه وممارسته، في اشباع حاجته الانطولوجية في عبادة المقدّس.ما دوافع هذا الميل؟ وكيف؟

يتناسل الدين (جينا لوجيا) بالوراثة البيولوجية الطبيعية للانسان ككائن حي جيلا بعد جيل، وهذا يعطي الدين مطاولة تاريخية في عدم مفارقته الانسان، او توقف ملازمته له بيولوجيا وراثيا عبر الاجيال والعصور. باعتبار الدين ظاهرة انسانوية، ومعطى (هبّة) سماوية طبيعية من الخالق تلازم الانسان بالولادة .وهي ايضا هبة يصنعها الانسان في تخليقه عظمة المقدس المعبود، من غير امتلاكه قدرات الاستدلال عليه.

رب معترض يذهب ان الدين (مكتسب) بالتلقين الاسري والبيئي والمجتمعي، في العائلة والمدرسة والمحيط، وفي طقوس وخطابات وممارسات التديّن المختلفة . والانسان (يهوّد وينصّر ويؤسلم) من ذويه . وكل هذا لا يلغي ان الفرد يولد باستعداد جيني فطري في تقبّله الدين، الى جانب قابلية الانسان وحاجته المكتسبة له، ولو ترك الانسان من دون تدخل الاسرة في تدينّه، فانه سيجد نفسه في مراحل عمرية لا حقة انه اصبح بحاجة الى قيم دينية يبحث عنها. هذا على الاقل في المجتمعات الشرقية المولعة بالمقدس.ويؤكد ايضا اهمية الاساطيرفي تلبية نوازع الانسان في التديّن، وحمولتها الكبيرة في تخليق المقدس وعبادته.

الدين يستمد انسانويته من الفطرة والاستعداد الجيني، لذا الدين لا يشيخ ولا يهرم ولا يموت مع توالي العصور، وتقدم عمر الانسان في تواجده المتلازم بيولوجيا وراثيا تاريخيا بالنسبة للانسان كنوع خالد، وليس كافراد يموتون.

الدين في جينالوجيته الوراثية وفي ملازمته انطولوجيا الوجود الانساني، يكون بمثابة نوع من العود الابدي النيتشوي، الذي يعيد نفسه في دورة من الانبعاث والاستحداث المتجدد المعاد جيلا بعد جيل، وتبقى بدايته بلا نهاية، بداية تعيد نفسها على الدوام في توالي العصور . ولا يصل هذا العود الابدي الى نهاية او مرحلة من التطور المعرفي – الواعي للانسان ابستمولوجيا او مرحلة تاريخية تطورية يصلها، بحيث يستطيع الانسان التفكير في استغنائه عن الدين، او في اعتبار ان الدين يخضع للتحقيب الزمني في كونه ظاهرة فكرية بدئية- مراهقة، تنتهي من حياة الانسان والبشرية في مرحلة متأخرة من وعي الوجود الناضج .

وبذا لا يصل الدين مرحلة نهاية فاعليته تاريخيا – وجوديا بالموروث الثقافي والاخلاقي والسلوكي الذي يبعثه، كظاهرة ملازمة للوجود الانساني في تعاقب الاجيال، في حقيقة ان الانسان كائن اجتماعي – ديني بالفطرة الطبيعية زائدا مؤثرات البيئة والمحيط المكتسبة ودورها الحيوي الكبير في تكريس نزعة التدين.

بغض النظر عن موقفنا الأيماني الديني، او الألحادي، فأن الدين يبقى كمعطى جينالوجي فطري بالوراثة ملازما الوجود الانساني، ومحصّنا ذاتيا من الاندثار التدريجي كوعي مفارق تاريخيا عند جيل من الاجيال من عمر البشرية .

ذاتية الدين، او بالاحرى ذاتية (الاله) الخالق المحصّنة ضد التلاشي والاندثار تأخذ دوام ومشروعية بقائها من الموروث اللاهوتي المتداول المكتوب والشفاهي الذي وصلنا في نصوص الكتب السماوية وغير السماوية، وفي اقامة الطقوس الدينية، وتوالي ظهور الانبياء، منذ عصر الخليقة والخطيئة الاولى والى يومنا هذا، وفي كافة وسائل التثقيف التعبوي الديني.

ويبقى الدين نزعة روحانية متلبسّة الانسان انطولوجيا، وتحمل عوامل ومقومات استمرارية بقائها بما تغتذيه من الهام غيبي سماوي . الدين في ملازمته الانسان كظاهرة ازلية لا معنى لها من غيرالانسان، والانسان هو الكائن الوحيد الذي يعي حاجته للتديّن . وينفرد بذلك ويتميز عن جميع المخلوقات الحيّة، والظواهر الطبيعية والوجودية الاخرى المرافقة له.وبذا نصل الى حقيقة جوهرية ثابتة انه لا يكون الدين دينا الا في وجود الانسان وبه واحتضانه له. الانسان كوجود نفسي روحاني ايماني ثقافي اخلاقي، وهو مدخل سليم في فهم علاقة الانسان بفعل التديّن (انسنة الدين بالفطرة) كما يصبح لا وجود لدين فطري او مكتسب من غير وجود انساني.

مركزية الانسان لا اولويته:

ما مر بنا في السطور السابقة يدخلنا قسرا في مناقشة اشكالية معقّدة في فهم وتفسير ثنائية علاقة (المعبود بالعبد) في الظاهرة الدينية، فنحن نجد (مركزية) الانسان، وليس (اولويته) في ثنائية الانسان والمقدس، وهذا الطرح لا يتقاطع من بديهية انسنة الدين في اسبقية الخالق على المخلوق . وهو يصادر الفهم الاشكالي بان مركزية الانسان تعلو تراتيبيا على اولوية المقدس الخالق . وفيه مغالطة كبيرة في تراجع اهمية الانسان في الظاهرة الدينية، دونما اي مساس بالمقدس.

السؤال هو لماذا ذهبنا الى تأكيد مركزية الانسان لا اولويته في الايمان الديني ؟!

الجواب المباشر لأن القول بأولوية الانسان في ثنائية المقدس والعبد تنسف الايمان الديني في تموضعه كبديهة تؤكد اسبقية الخالق في تراتيبية الاله والمخلوق . لذا نؤكد على مركزية الانسان في الثنائية الايمانية التي لا تنازع المعبود المقدس في عصمته الالوهية، وتفرده ووجوب عبادته . ان في طرحنا مركزية الانسان لا اولويته لا نفاضل بين الاله والعبد، وهذه تتقاطع ايضا مع رأي انصار الايمان الديني بالفطرة الغيبية، بل نريد ان نضع الانسان في صلب مسؤوليته الايمانية.

يكتسب الانسان مركزيته في الظاهرة الدينية، من موقع تحمّله جميع اعباء ومسؤوليات والتزامات الايمان الديني بالمقدس، اضف لذلك ان الانسان منفعل وفاعل في تحمله اعباء ايمانه الديني، رغم عدم امتلاكه قدرات ومنهجيات المنطق في اثبات وجود المعبود المقدس، اثبات يقين وليس ايمان غيبي كما يؤمن غالبية المتدينين، وبهذا تتضح ايجابية الانسان في معادلة الايمان الديني المحسومة .

لكن ما اهمية ان يكون الانسان مركزيا في ثنائية الايمان الديني ؟!

اهمية ان يكون الانسان مركزيا تتأتى في امتلاكه ادوات الفهم والتعامل مع الدين بمسؤولية، ووجوب تحصينه من جميع تأويلات النص المنحرفة الذي غالبا ما يكون قد اكتسب بالقوة الغاشمة قدسيته القطعية بالتسليم له، وكذلك في فهم النص الفقهي المنحرف والاجتهادي، وعدم توظيفه وسيلة افساد الدين في غلبة نوازع الشر والتطرف والغلواء . مركزية الانسان في الظاهرة الدينية، تعني وضعه في المسؤولية الاولى والاخيرة في انتظام الايمان الديني عنده.وان لا يركن الامور لتدبير الخالق وحده.بل في مسؤوليتةعما يؤمن به.

يتنازع الدين تداخلا وظيفيا استبداليا، يتعالق ويتواشج فيه الدنيوي والمقدس، فهل يحتاج الانسان الدين لكسب الحياة الآخرة (الجنة) ؟ ام انه يحتاج الدين لتسكين قلقه الوجودي؟ ام كليهما معا؟

واضح ان الانسان يحتاج الدين، اوبالاحرى التديّن لتلبية اشباع حاجاته الايمانية في تهذيب اخلاقه وسلوكه وبعض حاجاته المجتمعية بنوع من التربية الدينية، ويحتاج التدين في التخفيف من ضغوطات واعباء الحياة، في الالتجاء والخضوع والتسليم لارادة وقدرات الهيه(يخلعها ويتصورها) تمتلك مقومات ومعجزات خارقة لا محدودة وغير منظورة، تفعل فعلها السحري بتزويده بما يحتاجه من توازن نفسي وقلق مسكون به يتلبسّه.

التداخل بين التدين من اجل الحياة، يتداخل ذاتيا مع حاجة التدين من اجل ثواب الآخرة، لتوكيد ربما غير ارادي ترابط (الدنيوي والمقدس) دينيا، في تلازم لا انفكاك عنه، وعفوية طقوسية متدينة، فالتربية الدينية في خدمتها الارضي، وبما تمنحه من رضى نفسي وارتياح متعال احيانا، تجعل الانسان مطمئنا انه ينال رضوان الخالق ويطمع في نيل ثواب الآخرة.

التدين الدنيوي وارضاء المقدس في نشدان ثواب الآخرة كلاهما يلعبان في الظاهرة الدينية، وظيفة استبدالية تناوبية متكافلة في اغناء احدهما الاخر، فكلما تعمق الالتزام الدنيوي التديني، كان ذلك خدمة متداخلة في الطموح لتحقيق ثواب ماهو قدسي غير منظور، لمرحلة ما بعد الحياة.

ان انسنة الدين عند المفكر عبد الجبار الرفاعي هو في ان يبقى الانسان كائنا دنيويا- ارضيا غير متعال ولا يشكل بؤرة مركزية في الديني، (ثنائية الخالق بالعبد)، وانه بحاجة دائمية مستمرة، الى منقذ من الضلال، في التسليم بايمان غيبي لاشباع (الظمأ الانطولوجي) على حد تعبيره، ايمان امتلائي روحاني يعطي الدنيوي معاني مفعمة بالقيم المثلى والخير، تخرج الانسان من الضياع المادي الضاغط، والتوزع المشتت بالعدمية والعبثية وفي لا معنى الحياة، باللجوء الى الهي مقدّس، يسلمّه الانسان كامل الاذعان والطواعية في تمجيد صفاته الالهية اللانهائية غير المحدودة.

الظاهرة الدينية والمنهج:

استشهد بمقاطع اعتمدها من مقالة الاستاذ رضا حسن الغرابي، في تعقيب له مقارن، في دراسة الظاهرة الدينية من منظورين مختلفين، بين عبد الجبار الرفاعي، وفالح مهدي، نشرتها صحيفة المثقف الالكترونية بجزئين، 21/7/2017.

يذهب فوكو (ان العلوم الانسانية ليست علوما زائفة وحسب، بل هي ليست علوما على الاطلاق.)

وبانكار فوكو الطابع العلمي لهذه العلوم من ضمنها الحقيقة الايمانية الدينية، ينتفي معنا، اهمية حضور المنهج العقلاني في تناولها ودراستها.علما ان فوكو هو ليس الوحيد في هذا الرأي، فهناك شتراوس وهابرماس والتوسير وغيرهم.

ويشيرالاستاذ رضا على لسان (غادمير) الداعي لفك الارتباط بين الحقيقة والمنهج، وموقف تيرابند الرافض لفكرة وجود منهج علمي، رافعا شعارا مثيرا للجدل (كل شيء يمر).

الملاحظ هنا اذا كانت الحقيقة العلمية او المعرفيةعامة ينتهي معها وفي دراستها المنهج، فمن تحصيل حاصل ان لا يكون هناك منهجا في دراسة، حقائق العلوم الانسانية في حال (تعينّها) واخضاعها للنقد والمراجعة، لعل اهمها الحقيقة الدينية.

وفي حمّى التراجع المنهجي لدى العديد من مفكري وفلاسفة الغرب، لا يلغي معنا واقع السائد ان مناهج او طرق الاستدلال على الحقيقة، سواء اكانت حقيقة علمية او حقيقة معرفية، متعددة لعل في مقدمتها يأتي المنهج العقلاني والمنطقي في دراسة الحقائق الفلسفية والمعرفية، والمنهج العقلاني التجريبي في دراسة الحقائق العلمية.

وكلا هذين المنحيين المنهجيين عاجزين بل بعيدين عن امكانية التحقق من الحقيقة الايمانية، التي يكون مصدر التحقق فيها هو(القلب) وليس العقل. سواء جاء هذا التحقق الايماني، عن طريق تغييب التفكير العقلي او المنطقي في الاستدلال، اوفي تغييب المنهج العقلي التجريبي العلمي، الذي لا علاقة له بحقائق الايمان.

يبقى معنا ان الاستدلال الايماني الغيبي، الذي مصدره القلب يكون في منحيين، الاول في اعتماد الاستدلال الايماني قلبيا، عن طريق الفطرة الجينية الموروثة بالولادة، ويسيرالايمان مع الفرد المؤمن في طريقه الملازم الى مراحل عمرية متقدمة وربما مرحلة الموت، في الاستغناء التام ان يكون لمناهج العلوم والمعارف اي تدخل يذكر في مراجعة او تبديل قناعة الفرد الايمانية، الموروثة بالولادة والمعمّقة بجميع مؤثرات الشحن تعليميا ومجتمعيا، وقبلها أسريا، التي يعززها الايفاء بمتطلبات المقدس دنيويا في اقامة الطقوس العبادية من صلاة وصوم....الخ من التزامات.

الاستدلال الايماني الغيبي الثاني قلبيا، اي عن طريق منهجية القلب، هو في(التصّوف) ويكون هذا مرحلة متقدمة على الاولى، اي مرحلة طريق التسليم الايماني بالوراثة الفطرية، الذي يلغي ايضا فاعلية العقل المنهجي المنظّم منطقيا في الاستدلال، وينطلق من الفطرة الايمانية، لكنه يتجاوزها، عن طريق التصّوف القلبي الاستبطاني الكشفي في مرحلة عمرية متقدمة.

كما ان محاولة الجمع بين (الحقيقة والايمان) محاولة عقيمة، فهي تتطلب الجمع بين منهجين متعارضين مختلفين، لأختلاف موضوعي الحقيقة المطروحة، فالحقيقة في المنهج العقلاني، هي غيرها الحقيقة بالمنهج الايماني القلبي.والجمع بين الاستدلال بالمنهج العقلي، مع الاستدلال بالمنهج الايماني القلبي، يعني استحالة معرفية.يفرضها اختلاف موضوعّي التناول، فحقائق المعرفة والوجود التي يغلب على معظمها المدرك المتعّين والمحسوس، المدعّم باثباتات منطقية، بعضها على وفق المنهج العقلاني التجريبي، في حين ان حقائق الايمان بالمقدس والالهي تلغي الاستدلال الواقعي والمنطقي العقلي، وتتماهى مع الغيبي في التفكير والاستدلال.

من هذه الاختلافات يمكننا الركون الى استنتاج واضح، ان حقائق الايمان هي معطى فطري انساني، مرتبط حصرا بالانسان كوجود، وهو ايمان مؤنسن بالفطرة الوراثية البيولوجية، وهو ايمان يكتسب صفة (المكتسب) في مراحل عمرية متقدمة من حياة الانسان الفرد . وهذه الحال تختلف تماما في تناولنا دراسة حقائق الوجود الاخرى (المادية).

لذا اجد من الضروري العودة بالدين الى الانسنة بالفطرة البايولوجية تحقيقا لمقولة (الدين لله والوطن للجميع) بمعنى علمنة المجتمع مع حفظ خصائص الدين كتربية اخلاقية، موصولة بمناحي الحياة وتنظيمها سياسيا واقتصاديا وثقافيا .اي في استبعاد الدين والتدّين من التوظيف والتسليع السياسي، الذي يعمل على جعل الدين وعيا مكتسبا مستمدا من نصوص انتقائية في الموروث الفقهي الديني، وسنعالج هذه الاشكالية في سطور قادمة .

ان في توظيف الدين لأغراض سياسية تبعد المتدين عن ثنائية علائقية (الخالق بالمخلوق) وتجعل من الدين والتدين وعيا مكتسبا، لا يمت بصلة في تحقيق هدف التديّن . ثم ان (انسنة الدين) في تأكيد اهمية وأولوية ايمان الفرد المنحرف ، بالضد من ايمان المجموع السوي، تخلع على التدين تقزيما منحرفا شعاره ان ما ينقذ الفرد ليس بالضرورة ينقذ المجموع . (حصر الدين في شّلة لا غيرها).

الظاهرة الدينية وتسييس الاسلام:

ان في انتقال الدين من طقس الفهم الفطري العلائقي، هو ان الدين علاقة روحانية تعبدية خاصة بين الخالق والمخلوق، ونقل هذا الفهم الى مغالطات فقهية توظف في الفضاء السياسي خدمة لمصالح دنيوية، ورؤيا اجتهادية ضيّقة تعمل على تخريب العلاقة الانسانية والتعبدية والاخلاقية بين العبد وخالقه، جلب كوارث فادحة .

تسييس الدين في جعله ايدلوجيا سياسية منحرفة بوثوقية ويقينية زائفة، تعمل على تطويع الافكار الفقهية الدينية في تنميط احادي الجانب في اعلائه المقدس دنيويا، كمرجعية احتكام قاطع تلغي الاخر فكرا واخلاقا وسلوكا وتدينّا، متخذّة من فقه التقديس الدنيوي مرجعية القطع بكل شيء بالحياة . واعتباره قيما ومفاهيم من وحي الاله ونصوص الدين المحرّفة تأويلا . هذا يلغي ويقاطع جميع القدرات والمعارف الانسانية الوضعية، مقارنة مع مصدر الاحتكام الى عصمة فقه المقدس الديني الدنيوي المستمد من قراءة خاطئة لتلك النصوص في اعادتها الى مرجعية معصومة. وفي تجاهل ان العصمة لا تكون لبشر، فما يأتي به بشر يخطّؤه بشر ايضا، لذا يكون من الخطأ الارتكان الى تفسير ما وضعه بشر في زمان ومكان غير ما نعيشهما اليوم. وهذا يسحبنا الى تساؤل مصيري هام، هل ان الاسلام السياسي اليوم يمكن ان يكون دينا ودولة؟ تصلح وتعيش نموذجا يحتذى في كل زمان ومكان؟

كي نكون امينين في مقاربتنا طروحات تسييس الديني الاسلامي، نجد انه تنبثق لدينا سلسلة طويلة من علامات الاستفهام التي تجّر الواحدة ما بعدها.

هل والى اي مدى يمكننا التسليم، ان الافكارالسياسية المتعالقة بالديني اسلاميا، والتنظيرات والطروحات النقدية الاسلامية المعاصرة، القائمة على تجاوز ما ورائيات الادراك الفكري المعرفي، بمكنتها ومقدورها تحقيق قيم حداثوية في حياة الانسان المسلم والمجتمعات الاسلامية؟ ومدى امكانية مساهمة الافكار الاسلامية تغيير وتبديل واقع عربي اسلامي مأزوم بكل مناحيه، قبل اعلان العجز والافلاس واللجوء الى وسائل التطرف في قطع الرؤوس والذبح وحصد ارواح

الابرياء بالمفخخات؟!

من جنبة اخرى فان الفرق بين التدين المعتدل، والتدين السياسي المتطرف هوان الاخير ألغى مبدا(الحرية) الدينية في الاختيار كمعطى اولي في الحياة. واشاع ايضا، اي التدين المسّيس كايديولوجيا مستمّدة من فقه الدين المنحرف، انما تنشد عبودية القطيع في الاذعان والخضوع المتخّلف، للخطاب الديني الوضعي المقدس بكل اشتمالاته الخالية من كل ما يمت للدين من قيم اصيلة متداولة.

وامام هكذا فهم اعتباطي قاصر للدين في اعدامه فرص الحياة، وسلوكيات لقاء الآخر والتعايش معه بقيم انسانية واخلاقية، تلغي حالة القطيعة المزمنة في اغترابية المسلم عن عصره.وتبرز امامنا بوضوح ضحالة الفكر المتطرف.

منذ اتخاذ الاسلام وجوده التاريخي دينا ودولة، واستمرت تجليّاته تلك، في انظمة حكم ودول عديدة عبر التاريخ، سادت ثم اندثرت، نجد اننا اليوم نعدم ويتعذر علينا في مراجعتنا لتلك التجارب، وخطاباتها وطروحاتها في امكانية استلهام نموذج من تلك الحقب يمكننا احتذاؤه في اقامة دولة اسلامية، لها قدرة البقاء كدولة معاصرة مدنية حديثة.ما يعطينا حقيقة استحالة عصرنة الاسلام كنظام حكم.

نترك ذلك الطموح الطوباوي وننسحب لمناقشة جزئية، لها علاقة مباشرة في الخطاب الاسلامي المعاصر، هو اشكالية المعاصرة والتراث، اشكالية تضرب عمق الوجود العربي الاسلامي بالصميم، واشبعت دراسة وتحليلات وتنظيرات فلسفية احتوتها بطون الكتب والمؤلفات والمدونات وارشيفات المؤتمرات، دون جدوى تذكر يعتد الاخذ بها، تخرجنا من متاهة الشد والجذب كي نرسي على بر مطمئن حاسم، و بقيت اشكالية معلقة مؤجلة رغم عظم اهميتها، بوجوب الاهتداء لآلية تنفيذية تطبيقية حاسمة لنعيش العصر.

من هنا ضرورة ان نعمل على تحييد الدين في حياتنا، في تدعيم اهميته في الاعتدال والنأي به عن التسييس من جهة، ونعمل على جعل التدين فعالية مجتمعية جامعة تعيد الايمان الديني متعايشا مع الحياة غير متقاطع معها ومعرقل لقيم التقدم و الخير والسلام فيها.

عاش الاسلام عبر العصور والتاريخ، اسلام المجموع وشذوذ القلة، واليوم نجد على ايدي المتطرفين اصبحت مشروعية ان يهلك المجموع في بقاء القلة الشاذة باسم الفرقة الناجية وخرافة الدولة.

الخلاصة:

نستطيع القول باطمئنان ان جميع الدراسات والبحوث الفلسفية والفكرية على تعدد مشاربها، التي حاولت (عصرنة) الظاهرة الدينية منيت بالفشل الذريع، وباءت بالخسران، وان المجتمعات الشرقية عموما، والعربية الاسلامية تحديدا مولعة وبفعالية واضحة اشباع نزعتها المهووسة بالدين، وممارسة طقوس العبادة بولع شديد تعويضا عن الفقر والكوارث ومنغصّات العيش المتدني. بدءا بالمسلم والمسيحي، وليس انتهاءا بالبوذي والهندوسي والصابئي المندائي والايزيدي وهكذا، جميعها اديان او اقليات دينية، تغتذي العبادة الدينية واقامة طقوسها الخاصة، واعتبارها التمايز الديني اهم مقومات وجودها، سواء اتى ذلك بوسائل وافصاحات (ملائكية) ام اتت بوسائل تعبير وممارسات (شيطانية) مارقة تتلذذ بسفك الدماء والقتل المتوحش.

كما ان محاولات الحث على جعل الدين والتدين مرتبة ثانوية بالاهمية في توكيد الذات، واعتبارها الظاهرة الايمانية، في بعض افصاحاتها التدميرية المتطرفة نزعة جاهلية متخلفة، فمثل هذه المساعي ذهبت وتذهب ادراج الرياح في دعوتها الاصلاحية، في استحالة عصرنة الديني.

ان المنطلق السليم يبدا من ان المجتمعات الشرقية بخصوصياتها المتجذرة عبر الاجيال والتاريخ تعتبر الدين ونزعة التدين لديها مقوّم معنوي في توكيد الذات والشخصية ولا مجال المساس بها حتى وان جاءت عقلية وسلوكا رحعيا متخلفا.

وان ما يخفف مأساة الانسان الشرقي بالحياة هو تعاطيه ترياق الدين، ومعبودا يقدّسه.

ولحل اشكالية التدين ان يكون عامل اعاقة لتقدم المجتمعات العربية الاسلامية، وردم هوة البون والتفاوت الشاسع في تخلفنا عن المجتمعات الغربية، يكون من الضروري فيه اطلاق حرية التدّين الى كامل مداها، تحت وصاية نوع من العلمنة، التي تفصل المجتمع بتركيبته المدنية وتعدد الاراء والسلوكيات المنظبطة تحت ولاء القانون، (النموذج التركي في عصرنة كل منا حي الحياة ما عدا الدين) يمكن ان تكون نموذجا يحتذى. حداثة تجعل من الدين والمعتقد الديني فضاءا مفتوحا مشاعا للجميع، مع تاكيد عدم مشاركة الدين في الحياة السياسية، وان لا يكون عامل اعاقة في مدنية الحياة وتحضّرها، وان يكون التنوع الديني اثراء للتعايش المجتمعي.

كما في النموذج الماليزي، والى حد ما النموذج الاندنوسي.

 

الباحث علي محمد اليوسف

في المثقف اليوم