قضايا

الوعي والخيال الاسطوري

ali mohamadalyousifيعتبر الجدل المادي الهيجلي مثاليا تأمليا، حين قام هيجل بتحليل المادة والتاريخ والوجود الإنساني، والتطور الحضاري، محكوما بديالكتيك تناقض ووحدة الأضداد في خلق التطور وانبثاق الظاهرة الجديدة المستحدثة، فكل تطور تاريخي او ظاهرة طبيعية تحمل باحشائها وفي دواخلها عامل انحلالها ومجاوزتها في التضاد الداخلي، الذي ينتهي لصالح خلق وإيجاد ظاهرة أخرى جديدة وهكذا يتكرر التضاد الديالكتيكي بنمو متصاعد إلى ما لا نهاية في تطور المادة والوجود الإنساني والتاريخ.

من بعد هيجل جاء احد تلامذته المنشقين عنه ماركس وكان احد أعضاء ما يطلق عليهم الشبان الألمان الهيجليين منهم ماركس وشتيرنر، وفويرباخ، وآخرين قلب ماركس الطاولة الهيجلية وتبعه فويرباخ في منحى فلسفي آخر، وجاء ماركس بمفهموم فلسفي ديالكتيكي مغاير مادي تاريخي لما جاء به هيجل. مغايرة فلسفية مادية تطبيقية أسقطها ماركس على المادة وصيرورة التاريخ البشري وتطور الوجود الإنساني والاقتصادي والاجتماعي مرددا عبارته الشهيرة : كان الفلاسفة  يفسرون التاريخ فقط في حين كان المطلوب تغييره. وعبارته الثانية ايضا المتعلقة بنفس الموضوع قوله: وجدت التاريخ مقلوبا واقفا على رأسه بدلا من قدميه فعمدت إلى إعادته في وضعه الصحيح.

فهيجل كانت مثالية الوعي تتمثل عنده في أسبقية الوعي الإنساني على المادة والطبيعة والتاريخ والحضارة كما اعتبر هيجل ان المحرك للتاريخ هو المطلق او الروح وان كل التناقضات والمتعارضات بين المعارف والإفكار والفلسفة والحقائق يتم التوفيق بينها في نظام فلسفي معرفي واحد. وعزا للوعي الإنساني تحقيق ذلك وان الوعي ليس صدى الطبيعة والقوانين والواقع الموضوعي والوجود لكنه مصدر تغيير وتطوير كل تلك الموضوعات....

أما جديد ماركس على ذلك فهو العكس تماما حيت أنكر أسبقية وجدارة الوعي في قيادته الطبيعة والتاريخ والمادة والفكر بل هو- أي الوعي- انعكاس لكل هذه المعطيات ووجودها وقوانينها التي تحكمها وهي سابقة على الوعي الإنساني وبشر بذلك في البيان الشيوعي  الذي  أصدره مع انجلز عام 1848م مؤكدا ان المادة والواقع والوجود الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للإنسان سابقا على الوعي ومنها يستمد الوعي منهجه الديالكتيكي في تطور التاريخ والمادة على حد السواء وان وعي الإنسان يتحدد موقعه من وجود الإنسان في تراتيبية السلم الاجتماعي والطبقي داخل المجتمع وهذا الموقع يتحدد أيضا بعوامل اقتصادية بالدرجة الأساس ممثلة في ملكية رأس المال وملكية وسائل الإنتاج وفي علاقات الإنتاج بين المالك والعامل وفي فائض القيمة للإنتاج.

هذه الإشكالية الفلسفية الوجودية علاقة الوعي بالموضوع تناولها بالتعليق والشرح والبحث أكثر من مفكر عربي وباحث وكاتب فالبعض يذهب إلى أن المدركات الحسية والعقلية للأشياء والوجود الكوني والطبيعة في تفسيرها وفهم قوانينها إنما تكون تلك المدركات قاصرة ومحدودة عن الإلمام الشامل القاطع. عليه يكون الوجود الواعي الموضوعي غير المدرك بالحواس والمدركات العقلية والعلمية غير موجود خارجها أو بالأحرى لا قيمة وجودية له خارج إمكانية المدركات في استقباله وتفسيره وفهمه، واستعيض عن المدارك الإنسانية المحدودة بـ (الخيال) فكل ما هو عصي ممتنع على المدركات الحسية والعقلية الإنسانية فهمه وتفسيره والإفادة منه، يكون وجوده بالضرورة اصطناعيا من صنع الخيال والمخيلة ومخلوقا مختلقا بوسائل الخيال.

 (ومن خلال الخيال تمكن الإنسان من أن يضع لنفسه الامتداد الوجودي الذي هو بحاجة إليه فخلق لنفسه – بعد الموت تحديدا- حياة ممتدة أخرى غير زائلة وخالية من كل إشكال المصاعب ومن خلال هذه الفعالية الخيالية في صنع الإنسان لجميع مفردات ما وراء الطبيعة بأسلوب النسج التخييلي الغيبي غير المدرك عقلانيا ولا المحسوس، وبذلك تمكن من أن يصنع الإنسان التوازن الروحي (النفسي) المطلوب مع الوجود المادي الاقتصادي والاجتماعي والمعرفي البسيط الذي كان الإنسان بحاجة ماسّة إلى خلق هذا التوازن ليتحرر ويتخطى العدم الذي ينتظره بعد الحياة أو الشعور بالعبث الوجودي الذي يجلبه اليقين بان ما بعد الموت هو العدم ليس الا حياة أخرى تنتظره بعد الموت)(1).

(ولم يكن الإنسان بمستطاعه أن يبني حضارته وهو يدرك بان العدم سيلتهمها بأي لحظة والى الأبد ولذلك لم يكن أمامه على الأقل في الأيام الغابرة – غير إن يتجاوز الشعور بعدم الجدوى من خلال خلق الامتداد الخيالي في اصطناعه التخييلي لوجود ما وراء الطبيعة. هكذا أقام الإنسان عالما آخر بأن الموت بوابة لعالم أكثر حقيقية من حياته الحالية على الأرض وأنجز بذلك أهم انتصاراته على الطبيعة التي هددته بالفناء والانقراض.)(2)

الفرق بين الوعي والخيال هو ان كل ما يعجز عنه الوعي موضوعيا يدركه الخيال ويعوضّه ويحققه غيبيا لان الوعي محكوم بمحددات لاجمة ترتبط بالموضوع المراد إدراكه علميا تجريبيا.

بينما يكون الخيال في فعاليته التخيلية حرا متحررا من جميع القيود في رسمه حقائق وجودية، يصعب على الوعي إدراكها تملي عليه نوعا من الرضا والتوازن واليقين، الوعي يشتمل مجموعة من المدركات القابلة للتغيير والتبديل والإضافة والتطور بحكم المستجدات العلمية والتاريخية والحضارية التي تمس الوجود الإنساني بالصميم، وبذا يتحتم على الوعي مجاوزة مدركاته باستمرار وتجديدها وتوظيفها لخدمته، فلامناص للوعي من مجاوزة زمنه والتكيف مع الأفق المستقبلي المفتوح بلا نهايات أمامه بغض النظر عن اختلاف الوعي إن يكون مثاليا أم ماديا. أما بالنسبة للخيال خاصة في محاولة فهم الميتافيزيقيا وتفسير ما وراء الطبيعة أو خلق حقائق أسطورية يصدقها ويرتاح لتصديقها، فانه بقي أسير ما يعتقده، وان معتقداته تلك هي حقائق ثابتة لا تتغير ، وان كانت في حقيقتها التاريخية وعمر الزمن متبدلة متغيرة، لكن بقي الإنسان منذ عصور ما قبل التاريخ والى يومنا هذا، يعتقد بيقين راسخ ان ما ابتدعه الخيال على مر العصور والأزمنة، هي حقائق لا جدال ولانقاش في انتقاص قيمتها، ومفاهيمها. ومن طبيعة الخيال انه أسطوري ميثولوجي ساحر يستلب من الإنسان، وعيه الإدراكي الحقيقي، ويعطيه نوعا من الرضا والأمان والاطمئنان الغامض الغيبي المطلوب والزائف أيضا.

والأسطورة كما يحددها الكاتب منير الحافظ في مؤلفه، المعيار الجمالي في فن اللامعقول على إنها نمط مقدس، أو خطاب فني يتضمن مجموعة من الوقائع التاريخية التي تحتوي دلالات أدبية ورموز أخلاقية، ومفاهيم معرفية وإشارات روحية، وهي خليط بين وعي عبثي ووعي واقعي، أبدعها الوعي (المخيال) البدائي، واتخذ منها الإنسان الأسطوري الأول  معتقدا روحيا وطقسا وتقليدا يتوازن به مع الحياة الدنيا التي يتعامل معها منطلقا من دوافع الخوف والرهبة إزاء ظواهرها المدهشة من طرف ودافع نشأتها الخارقة من طرف آخر، وذلك للوصول إلى المعاني الحقيقية للبنية الكونية.

والخيال كما يذهب الأستاذ سعدون ضمد، في كتابه جدل المعرفة والوجود والحضارة حكم البشر تاريخيا وحضاريا منذ نشوء القبائل البدائية، فمثلا وجود الخالق الكوني والكواكب والدين والروح، والموت، والبعث، الملائكة والشياطين إلى آخره، بقيت حقائق متطاولة زمنيا اختلقها الخيال وتحولت إلى معطى إدراكي وعيي يقيني تتوارثها الأجيال. مع تغيير طفيف بسيط يجرى عليها من الحذف والإضافة لمجاراة التغييرات الدحضية لعامل الزمن وصيرورة التاريخ، وتقدم العلم و والمعارف.

إذن أصبح سهلا تبديل وتطوير الوعي الإدراكي، لكن يكون من الصعب إيقاف جنوح الخيال في خلقه لعوالم ما وراء الطبيعية، فالخيال كغريزة إنسانية فطر عليها الإنسان لا يعمل بمحددات الوعي الإدراكي المحسوس والعقلي، بل بتطورات الخيال في تأمل الطبيعة وما ورائها. طبعا هنا لابد من التمييز بين جنوح الخيال في الآداب والفنون على انه فعالية تخيلية جمالية إبداعية بمواصفات فنية، وفي ثبات أو تباطؤ مسيرة الخيال الأسطوري المثيولوجي الذي لا يستطيع مجاوزة المرتكزات القارّة في تفسيره للوجود الإنساني وما وراء الطبيعة، وحياة ما بعد الموت، حتى جعل منها مقدسا وتابوات محّرم المساس بكمالها وعصمتها التقديسية فأصبحت مفردات يقين مفاهيمي يتشكل الوعي الجمعي على أساسها ولمقتضياتها.

يذكر ماريوبارجي يوسا، الكاتب الروائي الحائز على جائزة نوبل، انه من دون الخيال سنكون اقل وعيا بأهمية الحرية لتكون الحياة قابلة للعيش وبالجحيم الذي تتحول إليه عندما يتولى أمرها طاغية أو ايديولوجيا او دين. هنا الخيال الذي يقصده يوسا خيال النص الإبداعي في الرواية والادب والفن والنحت والموسيقى والتشكيل، ....الخ.

لكن الخيال الأسطوري الذي أنتج لنا  الايديولوجيا والدكتاتور والعبودية في جميع اشتغالاته هو خيال خارج فعالية الحرية،لا بل ميزته الأساس ابتداع العبودية البشرية، والخيال الأسطوري خارج المحدودية والإطار الملازم لجموحه وتطرفه الاعمى هو خيال بعيد جدا عن الخيال في مجال العلوم والكشوفات والمخترعات العلمية فهو عكس الوعي الحقيقي المحكوم بالحواس والعقل والحدس والاستدلال والسببية والتبدل والتغيير بعامل الزمن وتقدم الحياة.

الخيال الأسطوري مجاله الامتدادي خارج الزمان والمكان فهو عابر متجاوز على الدوام في كل فعالياته حدود المدركات العقلية والعلمية معا.

ومن الجدير بالإشارة له إن علاقة الخيال بالوعي علاقة جدلية في تبادل الأدوار او في تعالقهما في صياغة اليقينيات الزائفة وتثبيتها فأحيانا يكون الوعي عاملا مثيرا في تثبيت أساطير الخيال فيما استطاع خلقه عبر الاف السنين والى يومنا هذا ليصبح الخيال فيما ابتدعه بمرور الوقت جزءا حيويا فاعلا في تنشيطه القابلية الإدراكية في تشكيل الوعي الزائف.

لعب الخيال الأسطوري المثيولوجي دور الخالق للطقوس ولما وراء الطبيعة ليقوم الوعي الجمعي على مدار التاريخ البشري باستقبال تلك المفاهيم واعتبارها حقائق عقلية ادراكية ليس بوسائل العقل التجريبي ، أو العلم ولكن بوسائل الخرافة والمثيولوجيا التي أصبحت بعد التراكم الزمني تابوات تحريم على تضاد مباشر مع كل تقدم العلوم والحضارة الإنسانية وأضفت على نفسها طابع القدسية في مواجهة أي اجتهاد يحاول تفكيكها أو  إبطال تأثيرها المعيق المعرقل في سعي الإنسان بناء حضارة متقدمة عصرية تحارب الجهل والتخلف والخرافة فأخذت مثيولوجيا الخيال طابع اليقينية التداولية المتوارثة عبر الأجيال.

 

علي محمد اليوسف

...................

(1) . ينظر: سعدون ضمد / جدل المعرفة والحضارة والوجود/ دار الصباح بغداد- هامش ص 71.

(2) . المصدر السابق نفس الصفحة..

 

في المثقف اليوم