قضايا

لغة الصوت واللغة المكتوبة في التوظيف البنيوي

ali mohamadalyousifاذا ما اخذنا على محمل الجد كما يراد لنا التسليم به من اعتبار نيتشة هو اول من استبعد الميتافيزيقيا الفلسفية والمعرفية التي سادت قرونا طويلة قبله. وانه – نيتشة– يمثل التمفصّل الفلسفي المعرفي الوحيد الذي الغى كل ما سبقه من ارث الميتافيزيقيا باعتبارها لغوا غاطسا في مستنقع العدمية والفوضوية غير العقلانية ممثلة باشكالية اللغة. هذا الرأي من وجهة نظرنا تضخيم فلسفي واستنباط لا تاريخي ولا معرفي دقيق او صحيح. اذ يوجد هناك من وضع وفهم نيتشة فهما قاصرا منحازا على حساب الحقيقة. صنّف هذا البعض هيدجر كفيلسوف ميتافيزيقي وهو الوجودي المعروف بآرائه المعاصرة التي هاجم فيها الميتافيزيقيا مطالبا انهاء هيمنتها لقرون طويلة. واعتبر هيدجر أن نيتشة نفسه هو آخر المتافيزقيين. كما هاجم هيدجر البنيوية معتبرا اياها من مخلفات الميتافيزيقيا التي وصلتنا وتم بعث الحياة فيها. ومثله فعل جاك دريدا في اعتباره البنيوية برمتها ضربا جديدا من الميتافيزيقيا على حد اقرار الباحث احمد عقلة العنزي في بحث له نتناوله لاحقا. الى ذلك ذهب ايضا البعض ممن اعتبر الحداثة وما بعد الحداثة التي خرجت البنيوية من تحت عباءتيهما واعتبروهما مرحلتين متداخلتين من مراحل العقم الفكري الفلسفي الفوضوي العدمي. وهذه ايضا مغالاة في الحكم والاستنتاج غير العقلاني والتاريخي الصحيح. فمن المتعذر قبول امكانية الغاء معطيات ومنجزات قيم الحداثة وما بعد الحداثة انهما كانتا عبثا معرفيا واشكالية لغوية بالاساس لاغير. جاءت البنيوية الغاءاً وتجاوزا مشروعا لهما وحتمية تاريخية تطورية اقصتهما.

من المعروف رغم معطيات نيتشة الفلسفية اللامعة الا ان الكثير من مؤرخي الفلسفة وبعض الفلاسفة المعاصرين يذهبون الى ان فلسفة نيتشة لم تقد الموروث الفلسفي السابق عليه سوى نحو العبث والعدمية والجنون والاغتراب لا اكثر من ذلك. كما لم يفتح نيتشة طريقا سالكا امام ظهور البنيوية او غيرها من مدارس المعرفة النقدية الحديثة. وخير دليل على ذلك ان سارتر في بنائه الوجودية الحديثة بمرتكزاتها الثلاث الوجود لذاته او من اجل ذاته والوجود في ذاته – والعدم – والحرية. فهو اخذ اي سارتر اكثر من فكرة فلسفية سابقه عليه فقد اخذ عن سورين كيركارد وشوبنهاور وغيرهما بنفس الوقت الذي اخذ عن هيدجر ونيتشة. كما هو الحال بالعود الابدي لنيتشة المستقاة عن هيراقليطس وقبله فلاسفة الاغريق القدماء منذ القرن السادس ق. م. والعود الابدي لنيتشة لم تكن فتحا تجديديا غير مسبوق في الفلسفة. وان كان تمسّك نيتشة به شديدا. الااننا نجد ارهاصات العود الابدي في كتابات هايني وهولدرين وبلانكي وجويو وهناك اشارات غامضة للعود الابدي لدى كلا من بايرون وسبنسر.

وعلى خلاف الذين التقطوا الدرّة الثمينة والفتح المعرفي الفلسفي التجديدي الفريد لنيتشة كما يفهمه ويبشر به الباحث احمد العنزي. فهو احد الذين يعتبرون نيتشة الملهم الروحي للفلاسفة المعاصرين في سعيهم القضاء على الميتافيزيقيا والهراء الفلسفي المتعالق معها. وان افكار نيتشة ايضا حسب هؤلاء مهدت لظهور كتابات اقطاب البنيوية امثال ميشيل فوكو وليفي شتراوس ود ي سوسير ورولان بارت وجاك دريدا وجيل ديلوز والتوسير في اشتغالاتهم التخصصية المنوعة على ضروب موضوعات البنيوية المختلفة. ونكرر ونقول ان هذه المصادرات والاستنباطات غير صحيحة ولا تكتسب الموضوعية في اعتبار واعتماد سذاجة تحليلية ان كل من اتيح له قراءة نيتشة من فلاسفة البنيوية اصبح تلميذا له.لا تقاس الامور بهذه البساطة.

يذكر الباحث احمد العنزي ان نيتشة :(اعتبر اشكالية القيم الميتافيزيقية سوى لغو واشكالية لغوية بامتياز. لذلك اعطى نيتشة اللغة اهمية مميزة ومكانة مركزية. وهو ما تابعه هيدجر الذي اعتبر اللغة مسكن او بيت الوجود. فلم يتبق اذن من رواسب الميتافيزيقيا سوى هذا المسكن الصغير اي اللغة)(1).

لايوجد اي سند فلسفي تاريخي معرفي يؤكد صحة ان اللغة كانت ميزة وبؤرة مركزية في فلسفة نيتشة. ولم يسبق لاحد ان ادعى ميتافيزيقيا اللغة هي آخر المتبقي من رواسب الميتافيزيقيا الفلسفية كما مر بنا عند الباحث. لا في كتابات نيتشة وافكاره الفلسفية ولا في كتابات من اشادوا بميراثه الفلسفي واستاذيته لهم من رواد فلاسفة البنيوية امثال سوسير او شتراوس او فوكو او بارت او التوسير الذي هو اكثرهم مغالاة في التطرف البنيوي المثالي التجريدي التهويمي في محاولة تطويعه الوقائع التاريخية والسرديات االكبرى والايديولوجيات ، والموضوعات المعرفية قسرا لمنطق الفوضى الفكرية باسم الاخلاص للبنيوية – يراجع تفاصيل ذلك في موضوعة التوسير ومحاولته البائسة  الاجهاز على كتاب رأس المال من ضمن موضوعات كنت نشرتها على موقع المثقف.-

ولم يذهب احد من هؤلاء الى اعتبار اللغة الأرث الاخير المتبقي من رواسب الميتافيزيقيا. اللغة التواصلية التداولية مرتكز ووسيلة اعتماد ظهور البنيوية في جميع ونواحي اشتغالاتها في قضايا الانثروبولوجيا والتاريخ وعلم النفس والادب والاساطير والسرديات العامة.

مع كل هذا نجد من اعتبر اللغة الارث الاخير المتبقي من رواسب الميتافيزيقيا بخلاف المنطق العلمي الفلسفي التاريخي الذي يشير باطلاق انه لولا اللغة لما كانت البنيوية ولا غيرها من المعارف الانسانية. وفي البدء كانت الكلمة كما وردت في اللاهوت.

ام علينا فهم الامر بالمعكوس كما يرغب الباحث ان البنيوية كمصطلح غائم يتقدم اللغة بدلا من اعلائه شان اللغة – وهذا هو جوهر ما نادت وجاءت به البنيوية في جميع معالجاتها في فضاءات المعرفة – تصبح البنيوية هي تحطيم هيكلية النسق اللغوي الشكلاني والمضموني. ام بالعكس ان اللغة متقدمة على البنيوية كنظرية ومنهج وجدت البنيوية في اللغة رمزية تاريخية غير مسبوقة غير مكتشفة. وملاذا مسعفا لها في معالجة قضايا وامور ومشاكل عالقة في الفلسفة والانثروبولوجيا والتاريخ وفي الايديولوجيا والسرديات الكبرى والادب وغيرها. هي من اختصاصات وميزات الرمزية اللغوية البنيوية والتداول المعرفي التواصلي في الاشتغال على وسيلة اللغة حصرا. ولم تكن البنيوية ولا غيرها من نظريات المعرفة ان تظهر وتكون الا واحدة من اختراعات ومكتشفات مجالات اللغة. فاللغة سابقة معرفية مادية على النظرية البنيوية او غيرها من النظريات والمناهج الفلسفية. ولم تكن ولن تكون النظريات والمعارف المنهجية سابقة دالة تتقدم اللغة. اللغة ميراث تاريخي متطور لا ميتافيزيقي قبلي لابعدي في مختلف التوظيفات والاشتغالات المعرفية الفكرية والتاريخية القديمة والمعاصرة. اللغة هي المرموزات اللغوية الدالة التوصيلية العابرة للازمان والتاريخ وهي المهماز القبلي الذي اعطى الفتوحات النظرية المعرفية مغزى الظهور.

لا نعتقد ان الارث المعرفي العلمي والفلسفي علة ميتافيزيقيته هو في اشكالية اللغة وميتافيزيقتها بامتياز كما عبر عن ذلك الباحث العنزي. بل ذلك الارث اشكاليته فكرية عقلية وليست لغوية وليس بمعزل عن كل المستلزمات الضرورية التي تحكم المادة والظواهر والطبيعة والانسان والتاريخ والمعارف بالتغيير المستمر والتطور الزمني- الحضاري.

اي ضيق افق ودوغماتية  ان نعتبر جميع القضايا التي شغلت البشرية قبل ولادة البنيوية هي محض هراء ميتافيزيقي... وماذا وصلنا من ارث هذه الحقول المعرفية التي اعتمدتها البنيوية في النقد والتطوير الجديد المحتمل.؟ وعلى ماذا طبقت مفاهيمها الفكرية المنوعة في المراجعة ومحاولة اعطاء البدائل لما اخفقت به الحداثة وما بعد الحداثة... ان جدل وحركة المادة والطبيعة والانسان والتاريخ يشير الى بداهة معرفية انه لا يمكن خلق قناعات جديدة وقراءات جديدة لميراث الانسانية بمعزل عن منهجية نقد ورفض او اعتماد بعض ما توارثته البشرية في هذه المجالات. والجديد يتخلق وينبثق دوما من رحم القديم. ان مشكلة البشرية ليس في اشكالية ميتافيزيقيا اللغة. وانما الاشكالية في المنجز البشري من معارف وافكار ونظريات يطالها التغيير الزمني التاريخي بالاضافة والتجاوز.

البنيوية نظرية ومنهج مراجعة فكرية واسلوب نقدي قابل للقبول والاخذ به في نفس وقت انه قابل للدحض وابطال وتوقف فعالياته بحكم التطور التاريخي الزمني. وتمجيد البنيوية ليس معناه غلق الابواب امام بروز تيارات معرفية جديدة لاحقا لعل التفكيكية ومنهج حفريات اركيولوجيا المعرفة احداها. وكذلك البنيوية التكوينية التوليدية التي تقوم على التوفيقية  هي واحدة من مناهج تطور البنيوية وتعدد اشتغالاتها.

يستبعد الباحث العنزي – دكتوراه فلسفة معاصرة – ان يكون للغة غير الصوتية اشتغالا مع شتراوس قائلا: (عندما نكون بصدد الحديث عن البنيوية كحركة علمية علينا ان نسجل اننا لم نعد في الحقيقة امام بنيوية واحدة كما نادى بها فردينان دي سوسير 1857–1913 سرعان ما وجدت اصداء واسعة وانتشرت في ميادين مختلفة وحقول اخرى غير اللغة)(2).

ويضيف (اننا مع ليفي شتراوس 1908 – 2009 اصبحنا بصدد بنيوية انثروبولوجية اهتمت بدراسة حياة الانسان البدائي محاولة فك شفرة رموز الاساطير البدائية.... الخ.) (3). البنيوية في تفرعاتها المختلفة في مواضيع لاتعتمد علوم اللغة واللسانيات هي الاخرى لم تكن اشتغالاتها خارج نطاق اللغة المكتوبة  .  بل خارج موضوعات دي سوسير في تناوله اللغة الصوتية والكلام الشفاهي.

وصف الباحث البنيوية بانها حركة علمية بعيدة عن اشتغالات واهتمامات اللغة.- يقصد هنا باللغة علم الاصوات واللسانيات اللغوية الصرف وهو لا يقصد هنا اللغة بمعناها المعجمي الشامل كتابة وقراءة.- ولكن العلمية في اي منحى من ضروب التجريبية العلمية تكون خاصية اللغة كرمز تواصل تعريفي تداولي غير مستبعدة ولا تستغني عنها جميع العلوم الانسانية والطبيعية في نقل وتوثيق منجزاتها واضافاتها الجديدة.

ولو نحن القينا جانباً العلوم الانسانية الانثروبولوجيا والتاريخ وعلم الاجتماع والادب والسرديات والانساق الايديو لوجية ...فهذه جميعا علوم توثيقية تقوم على رمزية اللغة التواصلية التداولية المكتوبة قبل كل شيء آخر.

وهذا الاعتماد او الواسطة اللغوية في نقل الافكار والمعارف وشكل اللغة يسبق الفكرة العلمية والمضمونية (الموضوع) التي تستوعبها اللغة كحامل دال تواصلي يتم عبر اللغة كاداة استقبال وتلقي في مرموزاتها واشاراتها المكتوبة المقروءة. وتجريد اللغة المكتوبة والمقروءة عن هذه العلوم والمواضيع والمعارف يصبح من المحال نقلها كمادة تلقي وتواصل معرفي وثقافي مع الاخرين. وبهذا المعنى المقارب يقول دي سوسير: (اللغة سابقة على الفكر بل هي تستوعبه وتحتويه كما يحتوي الكوب الماء.وهذا يعني ايضا عدم وجود شيء خارج اللغة. وحقيقة الفكرليست مادية. وانه ليس ثمة افكار مسبقة ولا شيء واضح المعالم قبل ظهور اللغة.) (4). ان قول دي سوسير كما نسب اليه ان حقيقة الفكر ليست مادية خطأ منهجي باعتباره يعتمد المثالية في التفكيروهذا لايلزم غيره الاخذ به كمسلمات. كما نجده يحذر من اعتبار اللغة بعدية غير قبلية في انتاج المعارف الانسانية وهوما يدعم وجهة نظرنا التي نؤكد عليها.  ويؤكدها  ماجاء على لسان دي سوسير في الاقتباس اعلاه في قوله": ليس ثمة افكار مسبقة ولا شيء واضح المعالم قبل ظهور اللغة.

في المقابل نجد العلوم الطبيعية العلمية الصرف التي تهتم بالانسان كجسد وروح وعقل ونفس هي الاخرى لايمكنها الاستغناء عن مرموزية التواصل المكتوب (اللغة) مع الاخرين اجتماعيا. حتى في علوم الرياضيات والهندسة والطب والكيمياء والفيزياء تكون فيها مرموزات اللغة تواصلية – سيميائية في شكل المعادلات وكتابة صياغة النظريات ا لتي في الغالب عادة ما تكتب بغير اللغة الدارجة اجتماعيا. فهذه العلوم تكتب وتنقل مفاهيمها بلغة رمزية خاصة تسمى المعادلات الرياضية والفيزيائية والكيماوية كما هو معلوم.

لا نعتقد هنا يبقى معنى مطلوب القول ان البنيوية علميا وبحثيا انتشرت خارج نطاق بنية اللغة الصوتية وعلوم اللسانيات كما بدأها واعتمدها دي سوسير. فهذه مسألة لا تحتاج كثيرا من النقاش اذ يتعذر دراسة كل موضوعات المعرفة بنيويا نظريا ومنهجيا بلغة الصوت والكلام الشفاهي المنقول فقط.

وعندما نأخذ شتراوس في الانثروبولوجيا البنيوية او التوسير في نقده السرديات الكبرى والانساق الايديولوجية القارة نجد من العسير المتعذر في هذه الموضوعات التاريخية والفلسفية نقل وتوصيل رؤى وافكار جديدة من غير اعتماد فك شفرات ورموز لغوية وصورية مكتوبة توارثتها اجيال. وهي رسومات وكتابات لغوية جيولوجية يتم دراستها وفق نظرية ومنهج البنيوية في حفريات المعرفة نجدها في مخلفات الانسان البدائي والقبائل وفي الاساطير والاديان وما تركوه لنا من اثار حضارية وثقافية قديمة جرى اكتشافها في احقاب تاريخية متلاحقة تقوم البنيوية بنقدها واعادة قراءتها.

على سبيل الاستشهاد كان من الصعب جدا دراسة الحقبة التاريخية الفرعونية من دون اعتماد الكتابة والنقوش والرسومات في اللغة الهيروغليفية القديمة لغة المدونات الحجرية والاثارية والحفريات لتلك الحضارة.

وقل مثل ذلك في اللغة المسمارية السومرية في تاريخ حضارة وادي الرافدين. وفي دراسة مخلفات واثار ولغات اية حضارة عالمية سادت على الارض في حقبة زمنية تاريخية معينة.

وللتوضيح في مثال على ذلك فقد لعبت الصورة والعلامات والرسومات البسيطة في المرحلة البدائية للبشرية دورا مهما  في توصل الانسان اختراع الكتابة.

وتعّبر عن ذلك الباحثة د.فاطمة بدر قائلة: (ان الصورة هي اول شيء لجأ اليه الانسان البدائي للتعبير عن نفسه وعن افكاره. فقد كانت الحروف الهجائية تشكل صور الاشياء والطيور والحيوانات المحيطة بالانسان الاول. فالصورة مخزونة في عقل الانسان الباطني ومحفورة في خياله ومصبوبة في تجاربه الذاتية لتعبر عن مكنوناته لانها تمثل وعيه الاول. فقد كانت الجماعات البشرية قبل اختراع الكتابة تقوم بمطابقة دوال العلامات وما تشير اليه وتوحد بين الشيء وصورته. لذا كان الانسان في العصر الحجري القديم عند رسمه للحيوان على الصخر يعتقد انه انتج حيوانا حقيقيا. ويذكر ليفي بريل في كتابه العقلية البدائية عن اعتقاد هندي احمر رأى باحثا يقوم بأعداد صور تخطيطية لمجموعة من الثيران البرية ،بأن الباحث في عمله ذاك وضع الثيران البرية في كتابه لذا لم تعد عندهم ثيران منذ ذلك الحين)(5).ما اردناه في هذا المثال ان اللغة قرين الوجود البشري ولا لغة ولا معطيات لغوية خارج ثنائية الوجود-اللغة. الشيء الآخر ان اللغة في جميع مراحلها هي وجود عقلاني حتى في اشكالها البدائية في مثال الرجل الهندي الذي فهم اللغة فهما سحريا خرافيا فحدود فهمه الاسطوري هو تفكير عقلاني ابن مرحلته التاريخية البدائية.

وعندما نقول ان البنيوية في منهجها حفريات المعرفة تسعى لفك مرموزات الاساطير، او بعض الرسومات النقشية الاثارية الحجرية وكذلك في المدونات التوثيقية التاريخية للاستدلال على معطيات معرفية غير مكتشفة، فانها لاتعتمد في تنقيباتها غير اللغة المكتوبة والمقروءة المتداولة وليست اللغة الصوتية او علوم اللسانيات. اللغة المكتوبة هي الوسيط والوسيلة المعرفية الوحيدة في نشر وتثبيت الجديد في مكتشفات وحفريات جيولوجيا المعرفة. ونقلها وتداولها على وفق منهجية واستدلالات جديدة غير مكتشفة من خلال التوظيف البنيوي البحثي.

ومن تناقضات الباحث العنزي في البنيوية الخلط بين البنيوية نظرية ومنهج نقدي لكافة الموضوعات التي تعنى بالانسان والطبيعة والتاريخ وعلم النفس وبعض العلوم الاخرى، وبين اللغة المكتوبة المقروءة كاداة توصيل وتلقي وحيدة لتلك الموضوعات. يقول الباحث ص40: (المحاولة البنيوية من وجهة نظر جاك دريدا تقوم على مركزية الصوت واسبقية الكلام على الكتابة. وكذلك تكريس مركزية العقل والاصل الميتافيزيقي من خلال اللغة).

كما اشرنا سابقا لاتعتمد البنيوية في دراستها المعارف والموضوعات الانثروبولوجية والسرديات العامة وعلم النفس والطبيعة والتاريخ بالاعتماد على مركزية الصوت في اللغة واسبقية الكلام الشفاهي المنقول اجتماعيا على ثانوية اللغة المكتوبة التدوينية المقروءة.الا فقط عند دي سوسير في توظيفه اللغة الصوتية المنطوقة وآخرين من فلاسفة اللغة،وهذه ايضا تستخدم اللغة التدوينية كتابة.

نعم بعض فلاسفة وباحثي وعلماء البنيوية اشتغلوا في مجال النقد الادبي والثقافي فقط على مركزية الصوت واللسانيات وليس فقط لغة الكتابة في التواصل المعتاد. في مقدمتهم يأتي فينجغتشين ونعوم جاموسكي ودي سوسير. لكنهم لم يهملوا لغة الكتابة والقراءة في توضيح افكارهم الفلسفية .

الموضوعات الهامة الكبرى في الفكر والفلسفة لم يتم الاهتمام في دراستها ونقدها ومراجعتها منهجيا بنيويا في اعتماد مركزية العقل فقط. فمدارس الحداثة وخصوصا ما بعد الحداثة والبنيوية جميعا شككت بكل اليقينيات العلمية والتاريخية والسردية والفلسفية القارة طويلا ومن ضمنها التشكيك بهيمنة العقل والعلم. واعتبروا الكثير من الانجازات البشرية في تلك الموضوعات غير مقنعة وناقصة.كما اعتبروا كل نص في تلك الموضوعات غير بريء. بمعنى وجود غايات ودوافع سياسية مصلحية وراءها. واعتبروا ايضا تلقي وقراءة وتأويل اي نص مكتوب يحتاج قراءة نقدية مغايرة للسائد.

نؤكد للمرة الثانية استحالة التطبيق التجريبي للافكار في اعتماد بنيوية مركزية الصوت واسبقية الكلام على الكتابة اللغوية المجتمعية.وفي الدراسات التخصصية المعرفية باستثناء ما يتعلق بالادب والموسيقا والفنون. فالبنيوية كمنهج يشتغل على حفريات جيولوجيا البحث والمعرفة تكون لغة الكتابة التوصيلية التداولية مركزية في هذا النوع من الموضوعات والدراسات تتراجع فيها مركزية اللغة الصوتية التي هي تخصص معرفي دقيق. امام الطموح السيسيولوجي في المعرفة التي تبغيه البنيوية. بخاصة البنيوية الشكلانية التكوينية او التوليدية .

اذن ما المقصود قول الباحث تكريس الاصل الميتافيزيقي من خلال اللغة... واي لغة يقصدها الباحث... واي اصل ميتافيزيقي... !؟

اللغة وعاء للوجود البشري في جميع ظواهره وتمظهراته. ووسيط تواصل اجتماعي بشري ولم تكن اللغة ميتافيزيقية يوما ما. الموضوع الفلسفي من غير شكل اللغة كمضمون يمكن ان يكون ميتافيزيقيا. واللغة التواصلية اداة توصيل ونقل الموضوع ووعاء للافكار. واللغة حيادية بالنسبة لمضمون الموضوع. وهي الحيز الذي تصب فيه المعارف الانسانية. اللغة بالمعنى المجتمعي كاداة توصيل وتلقي تسبق الفكرة المعرفية او الموضوع او البحث النظري او التطبيقي وهي التأطير الشكلي الظاهري والموضوعي في المعرفة والسرد على السواء.

الدراسات الألسنية للادب فقط تؤكد – ظهور البنيوية التكوينية او التوليدية كحركة وكاتجاه او مدرسة نقدية في البحث اللغوي والنقد الادبي والثقافي وكذلك في علم الاجتماع والسرديات..الخ-.وتعتبر البنيوية التكوينية هي الابرز في مجال النقد الادبي.وتعتمد المبدا التوفيقي الذي يمزج مابين الجدل المادي والتفسير التاريخي الماركسي وبين الشكلانية البنيوية. في عملية توفيقية توليدية للافكار الجديدة او نقد القديم منها .  وهذه تختلف عن البنيوية كنظرية تقوم على توظيف علوم اللغات الالسنية ولغة الصوت فقط .

البنيوية نظرية ومنهج مثالي عند دي سوسير لا تقيم وزنا للتفسير المادي للاشياء والتاريخ. البنيوية الصوتية تروم لوي عنق الوقائع والموضوعات والفكر تحت وصاية مراجعتها المثالية النقدية المقطوعة الصلة في التجريبية التطبيقية بما يتوجب ان تكون عليه تلك الموضوعات. البنيوية اللغوية الشكلانية استبدلت الفيض الميتافيزيقي في الفلسفة منذ فلاسفة الاغريق القدامى وصولا الى افلاطون وارسطو. وكذلك التخمة الميتافيزيقية في التفسير اللاهوتي للعصر الوسيط الى نوع من الفيض اللغوي الشكلاني الذي يعتمد اللغة منهج معالجة الموضوعات وقراءتها قراءة نقدية شكلانية جديدة. ولا تقر البنيوية الصوتيه ان اللغة وجود مادي سابق على الوجود الواقعي للاشياء والطبيعة والانسان فهذه جميعها مع اللغة وجود مادي سابق على اي نظرية او منهج او تفسير فلسفي. اللغة معطى عقلي اجتماعي تسبق اي تفسير او نظرية او منهج يتوخى نقد او اعادة صياغة او تفكيك للوقائع الموجودة باستقلالية موضوعية.

لا اعرف لماذا يتحفظ الباحث عن حسم مصطلح البنيوية على صفحات بحثه كاملة.. في ان تكون البنيوية حركة او اتجاه او مدرسة او نظرية او تياراً او منهجاً. ويعتبر الباحث التمييز في ان تكون البنيوية نظرية ام منهجا.. سؤال تقليدي يجد ليس من واجبه الاجابة عنه. هذا ما ورد في بحثه على لسانه ص 41.

ثم اذا كانت البنيوية باعتراف الباحث ربما تكون مدرسة نقدية في البحث اللغوي والنقد الادبي والثقافي... وفي موقع سابق اشرنا له ان البنيوية عنده حركة علمية في مجالات معرفية اخرى غير الادب. فاين يكون موضع اللغة في هذا المتحف البنيوي هل هي لغة الصوت والكلام...ام هي لغة الكتابة المقروءة ام هي كما يعبر الباحث اشكالية الميتافيزيقيا اللغوية...؟ وان كنا نتحفظ كثيرا على تسمية ميتافيزيقيا اللغة ولم يوضح ما المقصود بذلك. فاللغة برأينا رموز واشارات متفق على عقلانيتها سواء في الاساطير والميثالوجيا والعقائد الدينية الخرافية. او جاءت هذه الرموز عبر الموروث المنجز للبشرية في المجالات البحثية كافة.وهي بعيدة تماما عن المجال الميتافيزيقي.

بالتاكيد ان تغليب لغة الصوت والكلام الشفافي في النقد الادبي وفي دراسات علم اللغة بعيدا عن اللغة المكتوبة في المنهج البنيوي النقدي لا يكفي.فقد يصبح النقد الادبي البنيوي المعتمد لغة الصوت والكلام يشبه كتابة – نوتة – موسيقية بعيدة عن معالجة اشكاليات الادب والنقد الثقافي.

وحتى النوتة تحتاج تدوين سيميائي خاص، من هنا يمكننا طرح اهمية ما جاء به غولدمان في البنيوية التكوينية لحل هذا الاشكال الصعب.وذلك في تظافر المفاهيم الماركسية مع البحث التوليدي التوفيقي . والادب يحتاج لغة كتابة ايضا في كل الاحوال ولا غنى عن ذلك. لذا نجد خروج البنيوية على الرموز الصوتية واللسانية التي لم تكن صالحة في التطبيق الانثروبولوجي لدى شتراوس ولا لدى لاكان في علم النفس البنيوي ولا لدى جاك دريدا او فوكو او التوسير في مباحث البنيوية في السرديات والانساق الايدولوجية الكبرى. ولا في المعارف والدراسات الفلسفية التي كانت قيد المراجعة والقراءات الجديدة للمنهج البنيوي.

 

علي محمد اليوسف

.....................

(1)  د. احمد عقلة العنزي-البنيوية اللغوية عند دي سوسير-عالم الفكر الكويت-ع2 مج42  ص43

(2) المصدر السابق ص42.

(3) المصدر نفسه ، ص44

(4) المصدر السابق ص 51.

(5) د.فاطمة بدر/ الصورة في السرد الروائي والسرد السينمائي/ مجلة الاقلام العراقية العدد2 حزيران، 2010

 

 

في المثقف اليوم